البث المباشر

من مواعظ الإمام علي بن الحسين ـ عليه السَّلام

الجمعة 16 نوفمبر 2018 - 19:06 بتوقيت طهران
من مواعظ الإمام علي بن الحسين ـ عليه السَّلام

قال (عليه السلام) في ذم الدنيا، والتحذير من شرورها وفتنتها: (إن الدنيا قد ارتحلت مدبرة، وإن الآخرة قد ارتحلت مقبلة، ولكل واحد منهما بنون فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، الراغبين في الآخرة،

وقبل أن نتحدث عن مواعظ الإمام زين العابدين (عليه السلام) نود أن نبين إلى ما تهدف إليه مواعظه، ومواعظ سائر الأئمة الطاهرين (عليهم السلام)، وفي ما يلي ذلك:
(أ) تهذيب النفوس، وإصلاحها، وغرس النزعات الكريمة فيها.
(ب) إزالة العقد النفسية من نفس الإنسان، والقضاء على جميع النزعات الفاسدة، والشريرة والأنانية، والحسد، والبغي، والاعتداء على الناس.
(ج) وضع العبر التي مرت على الناس عبر التاريخ من دمار الظالمين، وهلاك المستبدين ليتخذ الإنسان منها دروساً تنير له الطريق، وتوضح له المقصد في حياته الاجتماعية والفردية.
(د) الاتجاه إلى الله تعالى الذي هو أنبل مقصد في هذه الحياة فإنه ينجي الإنسان من كل شر وإثم.
(ه) التزود إلى دار الآخرة التي هي المقر الدائم والحقيقي للإنسان، وذلك بعمل الخير.
هذه بعض الأهداف المشرقة في مواعظ أئمة الهدى (عليهم السلام)، ونعرض إلى مواعظ الإمام زين العابدين (عليه السلام):

1- قال (عليه السلام) في ذم الدنيا، والتحذير من شرورها وفتنتها: (إن الدنيا قد ارتحلت مدبرة، وإن الآخرة قد ارتحلت مقبلة، ولكل واحد منهما بنون فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، الراغبين في الآخرة، ألا أن الزاهدين في الدنيا اتخذوا الأرض بساطاً، والتراب فراشاً، والماء طيباً، وقرضوا من الدنيا تقريضا، ألا ومن اشتاق إلى الجنة سلا عن الشهوات، ومن أشفق من النار رجع عن المحرمات، ومن زهد في الدنيا هانت عليه المصائب، ألا أن لله عبادا كمن رأى أهل الجنة في الجنة مخلدين، وكمن رأى أهل النار في النار معذبين، شرورهم مأمونة، وقلوبهم محزونة، أنفسهم عفيفة، وحوائجهم خفيفة، صبروا أياما قليلة فصاروا بعقبى راحة طويلة، أما الليل فصافون أقدامهم، تجري دموعهم على خدودهم، وهم يجأرون(1) إلى ربهم، يسعون في فكاك رقابهم، وأما النهار فحلماء علماء بررة، أتقياء كأنهم القداح(2) قد براهم الخوف من العبادة ينظر إليهم الناظر فيقول: مرضى، وما بالقوم من مرض أم خولطوا، فقد خالط القوم أمر عظيم من ذكر النار، وما فيها..)(3).
لقد حذر الإمام (عليه السلام) من حب الدنيا الذي هو رأس كل خطيئة، ودعا إلى الاقتداء بالزهاد من عباد الله الصالحين الذين فهموا واقع الحياة الدنيا وما يؤول إليه أمرها من الزوال والفناء، فما هي إلا أيام معدودة حتى يقدم الإنسان على الله فيسأله عما عمله في حياته ليجازيه عليه إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، ولذا اتجه الأخيار بقلوبهم وعواطفهم نحو الله، فاخلصوا في طاعته وعبادته.
2- وقال (عليه السلام): (يا ابن آدم لا تزال بخير ما كان لك واعظ من نفسك، وما كانت المحاسبة من همك، وما كان لك الخوف شعاراً، والحزن لك دثاراً، يا ابن آدم إنك ميت ومبعوث، وموقوف بين يدي الله عز وجل، ومسؤول، فأعد جواباً..)(4).
لقد دعا الإمام إلى أن يقيم الإنسان في أعماق نفسه، ودخائل ذاته واعظاً يعظها ومحاسباً يحاسبها على ما يصدر منها من زلات وهفوات، فإنه مبعوث في يوم القيامة، ومحاسب على ما يقترفه من إثم وسيئات.
3- روى الزهري قال: سمعت علياً بن الحسين يقول: (من لم يتعز بعزاء الله تقطعت نفسه على الدنيا حسرات، والله ما الدنيا والآخرة إلا ككفتي ميزان، فأيهما رجح ذهب بالآخر، ثم تلا قوله تعالى: (إذا وقعت الواقعة) - يعني القيامة - (ليس لوقعتها كاذبة. خافضة) - خفضت والله بأعداء الله إلى النار - (رافعة) - رفعت والله أولياء الله إلى الجنة-..).
ثم خاطب رجلاً من جلسائه، - والذي يظهر من فحوى كلام الإمام (عليه السلام) أنه كان متهالكاً في طلب الدنيا، فقال (عليه السلام) يعظه:
(اتق الله، واجمل في الطلب، ولا تطلب ما لم يخلق، فإن من طلب ما لم يخلق تقطعت نفسه، ولم ينل ما طلب، وكيف ينال ما لم يخلق..).
وأسرع الرجل قائلاً:
(كيف يطلب ما لم يخلق؟..).
فأجابه الإمام (عليه السلام) قائلاً:
(من طلب الغنى والأموال والسعة في الدنيا فإنما يطلب ذلك للراحة في الدنيا، والراحة لم تخلق في الدنيا، ولا لأهل الدنيا، إنما خلقت الراحة في الجنة، والتعب والنصب خلقا في الدنيا، ولأهل الدنيا، وما أعطي أحد منها حفنة إلا أعطي من الحرص مثلها، ومن أصاب من الدنيا أكثر كان فيها أشد فقراً لأنه يفتقر إلى الناس لحفظ أمواله، ويفتقر إلى كل آلة من آلات الدنيا، فليس في غنى الدنيا راحة، ولكن الشيطان يوسوس إلى ابن آدم أن له في جمع ذلك المال راحة، وإنما يسوقه إلى التعب في الدنيا، والحساب عليه في الآخرة.
وأضاف الإمام قائلاً:
كلا ما تعب أولياء الله في الدنيا للدنيا، بل تعبوا في الدنيا للآخرة.. ألا ومن اهتم لرزقه كتب عليه حفظه، كذلك قال المسيح عيسى (عليه السلام) للحواريين: إنما الدنيا قنطرة فاعبروها، ولا تعمروها..)(5) وفي هذه الموعظة دعوة إلى الزهد في الدنيا، والإجمال في طلبها، فإن السعي وراء المادية سببه الحصول على الراحة، ولكن لا راحة في الدنيا وذلك لكثرة همومها وآلامها، وقد خلقت الراحة في الجنة التي أعدها الله للمتقين من عباده، فالطلب ينبغي أن يكون لها، لا للدنيا.
4- سأل شخص الإمام زين العابدين (عليه السلام) فقال له: كيف أصبحت يا ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ فقال (عليه السلام): (أصبحت مطلوباً بثمان: الله يطالبني بالفرائض، والنبي يطالبني بالسنة، والعيال بالقوت، والنفس بالشهوة، والشيطان باتباعه، والحافظان بصدق في العمل، وملك الموت بالروح، والقبر بالجسد، فأنا بين هذه الخصال مطلوب)(6).
لقد نظر الإمام إلى أبعاد الحياة الدنيا فرآها محاطة بهذه الأمور الثمانية فصمم على الزهد فيها، وعدم الاحتفاء بأي شيء من زينتها ومباهجها.
5- جاء رجل متسول يشكو حاله إلى الإمام (عليه السلام)، فأنكر عليه ذلك قائلاً:
(مسكين ابن آدم، له في كل يوم ثلاث مصائب، لا يعتبر بواحدة منهن، ولو اعتبر لهانت عليه المصائب، وأمر الدنيا: فأما المصيبة الأولى فاليوم الذي ينقص من عمره.. وإن ناله نقصان في ماله اغتم به، والدرهم يخلف عنه، والعمر لا يرده، والثانية أنه يستوفي رزقه فإن كان حلالاً حوسب عليه، وإن كان حراماً عوقب عليه، والثالثة أعظم من ذلك، فقيل له: وما هي؟ قال: ما من يوم يمسي إلا ودنا من الآخرة رحله لا يدري (أعلى الجنة أم على النار..)(7).
لقد دعا الإمام (عليه السلام) إلى الاعتبار بما يحيط الإنسان من المصائب الثلاث، وهي لو فكر بها لردعته عن التهالك على الدنيا، وعمل لآخرته التي هي دار الخلود والبقاء.
6- قال (عليه السلام): (لو كان الناس يعرفون جملة الحال في فضل الاستبانة، وجملة الحال في صواب التبيين، لأعربوا عن كل ما يتلجلج في صدورهم، ولوجدوا من برد اليقين ما يغنيهم عن المنازعة إلى كل حال سوى حالهم، وعلى أن إدراك ذلك كان لا يعدمهم في الأيام القليلة العدة، والفكرة القصيرة المدة، ولكنهم من بني مغمور بالجهل، ومفتون بالعجب، ومعدول بالهوى من باب التثبت، ومصروف بسوء العادة عن فضل التعلم..)(8).
إن الإنسان لو أمعن النظر، وأطال التفكير في شؤون هذا الكون لآمن إيماناً لا يخامره شك بأن هناك خالقاً ومدبراً يخضع كل شيء لإرادته وقضائه، ولا حول ولا قوة لغيره، وإذا آمن الإنسان بذلك لوجد برد اليقين في نفسه، واستراح من كثير من المشاكل والمصاعب التي تداهمه في حياته القصيرة الأمد، ولكن أنّى له بذلك فقد غمره الجهل، وفتنه العجب، وأضله الهوى عن فضل التعلم والوصول إلى الحق.
7- ومن مواعظه القيمة التي وجهها لأصحابه وشيعته، وهي من أجل ما أثر عنه من المواعظ، قال (عليه السلام):
(أيها الناس، اتقوا الله، واعلموا أنكم إليه راجعون، فتجد كل نفس ما عملت من خير محضراً، وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً، (ويحذركم الله نفسه) ويحك ابن آدم الغافل، وليس مغفولاً عنه، إن أجلك أسرع شيء إليك، قد أقبل نحوك حثيثاً يطلبك، ويوشك أن يدركك، فكأن قد وفيت أجلك، وقد قبض الملك روحك، وصيرت إلى قبرك وحيداً، فرد إليك روحك، واقتحم عليك ملكان منكر ونكير لمسألتك، وشديد امتحانك، ألا وإن أول ما يسألانك عن ربك الذي كنت تعبده، وعن نبيك الذي أرسل إليك، وعن دينك الذي كنت تدين به، وعن كتابك الذي كنت تتلوه، وعن أمامك الذي كنت تتولاه، وعن عمرك فيما أفنيته، وعن مالك من أين اكتسبته، وفيما أنفقته، فخذ حذرك، وانظر لنفسك، واعد الجواب قبل الامتحان، والمساءلة والاختبار، فإن تكن مؤمناً عارفاً بدينك، متبعاً للصادقين، موالياً لأولياء الله لقنك الله حجتك وأنطق لسانك بالصواب، فأحسنت الجواب، وبشرت بالجنة، والرضوان من الله، واستقبلتك الملائكة بالروح والريحان، وإن لم تكن كذلك تلجلج لسانك، ودحضت حجتك، وعييت عن الجواب وبشرت بالنار، واستقبلت ملائكة العذاب بنزل من حميم، وتصلية جحيم.
واعلم يا ابن آدم أن ما وراء هذا - يعني السؤال في القبر - أعظم، وأفظع، أوجع للقلوب يوم القيامة، ذلك يوم مجموع له الناس، وذلك يوم مشهود، يجمع الله فيه الأولين والآخرين، يوم ينفخ في الصور، ويبعثر فيه القبور، ذلك يوم الآزفة(9) إذ القلوب لدى الحناجر، كاظمين، ذلك يوم لا تقال فيه عثرة، ولا تؤخذ من أحد فدية، ولا تقبل من أحد معذرة، ولا لأحد فيه مستقيل توبة، ليس إلا الجزاء بالحسنات، والجزاء بالسيئات، فمن كان من المؤمنين عمل في هذه الدنيا مثقال ذرة من خير وجده، ومن كان من المؤمنين عمل في هذه الدنيا مثقال ذرة من شر وجده.
فاحذروا أيها الناس من الذنوب والمعاصي ما قد نهاكم عنها، وحذركموها في الكتاب الصادق، والبيان الناطق، ولا تأمنوا مكر الله وتدميره عندما يدعوكم الشيطان اللعين إليه من عاجل الشهوات واللذات في هذه الدنيا، فإن الله يقول: (إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون)(10) وأشعروا قلوبكم خوف الله، وتذكروا ما قد وعدكم في مرجعكم إليه من حسن ثوابه، كما قد خوفكم من شديد عقابه، فإنه من خاف شيئاً حذره، ومن حذر شيئاً تركه، ولا تكونوا من الغافلين المائلين إلى زهرة الحياة الدنيا، الذين مكروا السيئات، وقد قال الله تعالى: (أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتهم العذاب من حيث لا يشعرون * أو يأخذهم في تقلبهم فما هم بمعجزين * أو يأخذهم على تخوف)(11) فاحذروا ما حذركم الله بما فعل بالظلمة في كتابه، ولا تأمنوا أن ينزل بكم بعض ما توعد به القوم الظالمين، في كتابه، لقد وعظكم الله بغيركم، وإن السعيد من وعظ بغيره، ولقد أسمعكم الله في كتابه ما فعل بالقوم الظالمين من أهل القرى قبلكم حيث قال: (وأنشأنا بعدها قوماً آخرين)(12) وقال: (فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون)(13) يعني يهربون. قال: (لا تركضوا وارجعوا إلى ما ترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون)(14) فلما أتاهم العذاب (قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين)(15) فإن قلتم أيها الناس: إن الله إنما عنى بهذا أهل الشرك، فكيف ذاك؟ وهو يقول: (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين)(16).
اعلموا عباد الله أن أهل الشرك لا تنصب لهم الموازين، ولا تنشر لهم الدواوين، وإنما يحشرون إلى جهنم زمراً، وإنما تنصب الموازين، وتنشر الدواوين لأهل الإسلام، فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن الله تعالى لم يحبب زهرة الدنيا لأحد من أوليائه، ولم يرغبهم فيها، وفي عاجل زهرتها، وظاهر بهجتها، فإنما خلق الدنيا، وخلق أهلها ليبلوهم فيها أيهم أحسن عملاً لآخرته، وأيم الله لقد ضربت لكم فيه(17) الأمثال، وضربت الآيات لقوم يعقلون، فكونوا أيها المؤمنون من القوم الذين يعقلون، ولا قوة إلا بالله، وازهدوا فيها، زهدكم الله في من عاجل الحياة الدنيا، فإن الله يقول: - وقوله الحق - (إنما مثل الحيوة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام، حتى إذا أخذت الأرض زخرفها، وازينّت، وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهاراً فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون)(18) ولا تركنوا إلى الدنيا، فإن الله قال لمحمد (صلى الله عليه وآله): (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار)(19) ولا تركنوا إلى هذه الدنيا وما فيها ركون من اتخذها قراراً، ومنزل استيطان.

فإنها قُلعة، ومنزل بُلغة، ودار عمل، فتزودوا الأعمال الصالحة، قبل تفرق أيامها، وقبل الأذن من الله في خرابها، فكان قد أخربها الذي عمرها، أول مرة، وابتدأها، وهو ولي ميراثها، واسأل الله لنا ولكم العون على تزود التقوى، والزهد في الدنيا، جعلنا الله وإياكم من الزاهدين في عاجل هذه الحياة الدنيا، الراغبين في جل ثواب الآخرة فإنما نحن له وبه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته(20).
لقد حفلت هذه الموعظة بتصوير مذهل ومروّع عن مشاهد يوم القيامة الذي لا تقال فيه عثرة، ولا تؤخذ فيه من أحد فدية، وإنما يجازي الناس بأعمالهم إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، فلا نجاة فيه للإنسان من عذاب الله إلا بالعمل الصالح، فهو الذي ينقذه من أهوال يوم القيامة ومشاهده المروعة.
وحذر الإمام (عليه السلام) من اقتراف المعاصي والذنوب، واتباع الشهوات التي تلقي الناس في شر عظيم، كما حذر (عليه السلام) من سلوك طريق الظالمين، لأن الله تعالى أنزل بهم عقابه الصارم فأهلكهم ودمر ديارهم، وأذاقهم وبال ما كانوا يظلمون.
وشيء آخر بالغ الأهمية في هذه الموعظة، هو أن موازين القسط والعدل التي تنصب يوم القيامة إنما هي للمسلمين، وأما الذين كفروا فلا تنشر لهم الدواوين، ولا تنصب لهم الموازين، وإنما يساقون إلى جهنم زمراً.
8- ومن مواعظه القيمة هذه الموعظة المؤثرة، وهذا نصها:
(كفانا الله، وإياكم الظالمين، وبغي الحاسدين، وبطش الجبارين، أيها المؤمنون لا يفتتنكم الطواغيت وأتباعهم من أهل الرغبة في الدنيا، المائلون إليها، المفتونون بها، المقبلون عليها، وعلى حطامها الهامد(21) وهشيمها البائد غداً، واحذروا ما حذركم الله منها، وازهدوا فيث ما زهدك الله فيه منها، ولا تركنوا إلى ما في هذه الدنيا ركون من أعدها داراً وقراراً، وبالله إن لكم مما فيها دليلاً من زينتها وتصريف أيامها، وتغييراً نقلاً بها، ومثلاتها، وتلاعبها بأهلها، إنها لترفع الخميل، وتضع الشريف، وتورد النار أقواماً غداً، ففي هذا معتبر ومختبر وزاجر لمنتبه، وإن الأمور الواردة عليكم في كل يوم وليلة من مظلمات الفتن، وحوادث البدع، وسنن الجور، وبوائق الزمان، وهيبة السلطان(22) ووسوسة الشيطان، لتثبط القلوب عن نيتها، وتذهلها عن موجود الهدى، ومعرفة أهل الحق إلا قليلاً ممن عصم الله، ونهج سبيل الرشاد، وسلك طريق القصد، ثم استعان على ذلك بالزهد، فكرر الفكر، واتعظ بالعبر، وازدجر، فزهد في عاجل بهجة الدنيا، وتجافى عن لذاتها، ورغب في دائم نعيم الآخرة، وسعى لها سعيها، وراقب الموت، وشنأ الحياة مع القوم الظالمين، فعند ذلك نظر إلى ما في الدنيا بعين نيرة، حديدة النظر، وأبصر حوادث الفتن، وضلال البدع، وجور الملوك الظلمة، فقد - لعمري - استدبرتم من الأمور الماضية في الأيام الخالية من الفتن المتراكمة، والانهماك فيها، ما تستدلون به على تجنب الغواة وأهل البدع والبغي والفساد في الأرض بغير الحق، فاستعينوا بالله، وارجعوا إلى طاعته، وطاعة من هو أولى بالطاعة من طاعة من اتبع وأطيع.
فالحذر الحذر من قبل الندامة والحسرة، والقدوم على الله، والوقوف بين يديه، وتالله ما صدر قوم قط عن معصية الله إلا إلى عذابه، وما آثر قوم قط الدنيا على الآخرة إلا ساء منقلبهم، وساء مصيرهم، وما العلم بالله والعمل بطاعته إلا إلفان مؤتلفان، فمن عرف الله خافه، فحثه الخوف على العمل بطاعة الله، وإن أرباب العلم وأتباعهم، الذين عرفوا الله فعملوا له، ورغبوا إليه وقد قال الله: (إنما يخشى الله من عباده العلماء)(23) فلا تلتمسوا شيئاً في هذه الدنيا بمعصية الله، واشتغلوا في هذه الدنيا بطاعة الله، واغتنموا أيامها، واسعوا لما فيه نجاتم غداً من عذاب الله، فإن ذلك أقل للتبعة، وأدنى من الغدر، وأرجى للنجاة، فقدموا مر الله وطاعته وطاعة من أوجب الله طاعته بين يدي الأمور كلها، ولا تقدموا الأمور الواردة عليكم من طاعة الطواغيت، وفتنة زهرة الدنيا بين يدي أمر الله، وطاعته، وطاعة أولي الأمر منكم، واعلموا أنكم عبيد الله، ونحن معكم، يحكم علينا وعليكم سيد حاكم غداً، وهو موقفكم، ومسائلكم، فأعدوا الجواب، قبل الوقوف والمساءلة والعرض على رب العالمين، يومئذٍ لا تكلم نفس إلا بإذنه،

واعلموا أن الله لا يصدق كاذباً، ولا يكذب صادقاً، ولا يرد عذر مستحق، ولا يعذر غير معذور، بل لله الحجة على خلقه بالرسل والأوصياء بعد الرسل، فاتقوا الله واستقبلوا من إصلاح أنفسكم، وطاعة الله وطاعة من تولونه فيها، لعل نادماً قد ندم على ما فرط بالأمس في جنب الله، وضيّع من حق الله، واستغفروا الله وتوبوا إليه فإنه يقبل التوبة، ويعفو عن السيئات، ويعلم ما تفعلون، وإياكم وصحبة العاصين، ومعونة الظالمين، ومجاورة الفاسقين، احذروا فتنتهم وتباعدوا من ساحتهم، واعلموا أنه من خالف أولياء الله، ودان بغير دين الله، واستبد بأمره دون أمر ولي الله، في نار تلتهب، تأكل أبداناً، قد غابت عنها أرواحها، غلبت عليها شقوتها، فهم موتى لا يجدون حر النار، فاعتبروا يا أولي الأبصار، واحمدوا الله على ما هداكم، واعلموا أنكم لا تخرجون من قدرة الله إلى غير قدرته، وسيرى الله عملكم ثم إليه تحشرون، فانتفعوا بالعظة، وتأدبوا بآداب الصالحين..)(24) وهذه الموعظة من غرر مواعظ الإمام (عليه السلام)، ولم يقتصر على الدعوة إلى الزهد في الدنيا والعمل للآخرة، وإنما كانت في الوثائق السياسية، والاجتماعية، وقد حفلت بما يلي:

1- التحذير من اتباع الطواغيت واتباعهم من المفتونين بحب الدنيا، والمغرورين بزينتها وبهجتها، فإنهم جميعاً من الشبكة التخريبية التي تعمل على مناهضة الإصلاح الاجتماعي، ونشر الظلم والفساد في الأرض.
2- ذم الدنيا، والتنديد بطبيعتها، والتي منها:

(أ) رفعها الخاملين.
(ب) وضعها الأحرار والأشراف.
(ج) دفعها أقواماً إلى النار، وذلك لانحرافهم عن الحق.

وإذا كانت طبيعة الدنيا إقامة الرذائل، ومناهضة القوى الخيرة، فالأجدر الزهد فيها، والتجافي عن شهواتها، والسعي في الظفر بنعيم الآخرة.
3- إبداؤه الأسى على ما تواجهه الأمة في عصره من ألوان مريعة ومذهلة من مظلمات الفتن، وحوادث البدع، وسنن الجور، من قبل الحكومة الأموية التي أغرقت البلاد بالظلم والفتن والجور، وكان وقع تلك الأحداث شديداً على الأمة، فقد ثبطت القلوب عن نياتها، وأذهلتها عن طريق الحق والرشاد.
4- الدعوة إلى طاعة الله، وطاعة أئمة الحق والهدى الذين يسلكون بالناس سبل النجاة، ويهدونهم إلى صراط مستقيم، والذين يمثلون إرادة الأمة ووعيها، ويحققون لها جميع ما تصبوا إليه من العزة والكرامة، كما دعا (عليه السلام) إلى التمرد على أئمة الجور، وعدم التعاون معهم.
5- الحث على تقى الله وطاعته اللذين تزدهر بهما حياة الإنسان، ويستقيم بهما سلوكه.
هذه بعض محتويات هذه الموعظة الحافلة بالأمور الدينية والشؤون السياسية.
9- من مواعظه القيمة التي تحدث فيها عن صفات الزاهدين وقد جاء فيها:
(إن علامة الزاهدين في الدنيا، الراغبين في الآخرة، تركهم كل خليط، وخليل، ورفضهم كل صاحب لا يريد ما يريدون، إلا وأن العامل لثواب الآخرة هو الزاهد في عاجل زهرة الدنيا، الآخذ للموت أهبته، الحاث على العمل قبل فناء الأجل، ونزول ما لابد من لقائه، وتقديم الحذر قبل الحين(25) فإن الله عز وجل يقول: (حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعوني لعلي أعمل صالحا فيما تركت)(26) فلينزلن أحدكم اليوم نفسه في هذه الدنيا كمنزلة المكرور إلى الدنيا، النادم على ما فرط فيها من العمل الصالح ليوم فاقته، واعلموا، عباد الله، أنه من خاف البيات تجافى عن الوساد، وامتنع من الرقاد، وأمسك عن بعض الطعام والشراب، من خوف سلطان أهل الدنيا، فكيف، ويحك يا ابن آدم، من خوف بيات سلطان رب العزة، وأخذه الأليم وبياته لأهل المعاصي والذنوب، مع طوارق المنايا بالليل والنهار فذلك البيات الذي ليس فيه منجى، ولا دونه ملتجأ، ولا منه مهرب، فخافوا الله، أيها المؤمنون من البيات، خوف أهل التقوى فإن الله يقول (ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد)(27) فاحذروا زهرة الحياة الدنيا وغرورها وشرورها، وتذكروا عاقبة الميل إليها فإن زينتها فتنة، وحبها خطيئة.
واعلم ويحك يا ابن آدم أن قسوة البطنة، وفطرة الميلة، وسكر الشبع، وعزة الملك مما يثبط، ويبطئ عن العمل، وينسي الذكر، ويلهي عن اقتراب الأجل، حتى كأن المبتلى بحب الدنيا به خبل من سكر الشراب، وإن العاقل عن الله، الخائف منه، ليمرن نفسه، ويعودها الجوع حتى ما تشتاق إلى الشبع، وكذلك تضمير الخيل(28) لسبق الرهان.
فاتقوا الله عباد الله تقوى مؤمل ثوابه، وخائف عقابه، فقد أعذر الله تعالى وأنذر، وشوق، وخوّف، فلا أنتم إلى ما شوقكم إليه من كريم ثوابه تشتاقون فتعملون، ولا أنتم مما خوفكم من شديد عقابه، وأليم عذابه، ترهبون، فتنكلون، وقد نبأكم الله في كتابه أنه (من يعمل من الصالحات، وهو مؤمن فلا كفران لسعيه وإنا له كاتبون)(29) ثم ضرب لكم الأمثال في كتابه، وصرف الآيات لتحذروا عاجل زهرة الحياة الدنيا، فقال: (إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم)(30) فاتقوا الله ما استطعتم، واسمعوا، وأطيعوا.. فاتقوا الله واتعظوا بمواعظ الله، وما أعلم إلا كثيراً منكم قد نهكته عواقب المعاصي فما حذرها، وأضربت بدينه فما مقتها، أما تسمعون النداء من الله بعينها وتصغيرها حيث قال: (اعلموا إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يكون حطاماً وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم)(31) وقال: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس إلى ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون * ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون)(32) فاتقوا الله عباد الله، وتفكروا واعملوا لما خلقتم له، فإن الله لم يخلقكم عبثاً ولم يترككم سدى، قد عرفكم نفسه، وبعث إليكم رسوله، وأنزل عليكم كتابه فيه حلال وحرامه، وحججه وأمثاله، فاتقوا الله فقد احتج عليكم ربكم فقال: (ألم نجعل له عينين * ولساناً وشفتين * وهديناه النجدين)(33) فهذه حجة عليكم، فاتقوا الله ما استطعتم فإنه لا قوة إلا بالله، ولا تتكلوا إلا عليه وصلى الله على محمد وآله..)(34).
وألمت هذه الموعظة القيمة بصفات الزاهدين ونزعاتهم، فكانوا حقاً من خيار خلق الله، فلم تفتنهم الدنيا، ولم تغرهم زينتها وشهواتها، فقد اتجهوا نحو الدار الآخرة وعملوا كل ما يقربهم إلى الله زلفى، فكانوا في سلوكهم، وحسن أفعالهم، وجمال أحدوثتهم قدوة حسنة لمن يهتدي بهم.
10- ومن مواعظه القيمة التي كان يعظ بها أصحابه هذه الموعظة:
(أحبكم إلى الله أحسنكم عملاً، وإن أعظمكم عند الله عملاً أعظمكم فيما عند الله رغبة، وإن أنجاكم من عذاب الله أشدكم خشية لله، وإن أقربكم من الله أوسعكم خلقاً، وإن أرضاكم عند الله أسبغكم على عياله، وإن أكرمكم على الله أتقاكم لله تعالى..)(35).
لقد أمر الإمام (عليه السلام) أصحابه بمحاسن الصفات، وذخائر الأعمال، ودلهم على ما ينجيهم من عذاب الله في الدار الآخرة، فقد حثهم على ما يلي:

(أ) الرغبة فيما عند الله وهي من أعظم الذخائر، أما الرغبة إلى غيره تعالى فإنها تؤول إلى الخيبة والخسران.
(ب) الخشية من الله؛ فإنها تصد الإنسان من اقتراف أي إثم أو جرم، وتغرس في النفس الفضيلة والكرامة.
(ج) سعة الأخلاق: فإن الإنسان إنما يمتاز على غيره بسمو أخلاقه، فإذا فقد الأخلاق فقد فقد إنسانيته.
(د) التوسعة على العيال: وهي ما توجب شيوع المودة والألفة بين أفراد الأسرة التي هي الخلية الأولى في بناء المجتمع الإنساني.
(ه) تقوى الله: وهي من موجبات التمايز في المجتمع الإسلام، فقد جاء في الحديث (إن أكرمكم عند الله أتقاكم)(36).

11- ومما وعظ به الإمام أصحابه قوله: (إن بين الليل والنهار روضة يرتع في رياضها الأبرار، ويتنعم في حدائقها المتقون، فادأبوا رحمكم الله في سهر هذا الليل بتلاوة القرآن في صدره، وبالتضرع والاستغفار في آخره، وإذا ورد النهار فأحسنوا قراه بترك التعرض لما يرد لكم من محقرات الذنوب فإنها مشرفة بكم على قباح العيوب، وكأن الرحلة قد أظلتكم، وكأن الحادي قد حدا بكم، جعلنا وإياكم من أغبطه فهمه، ونفعه علمه..)(37).
لقد حث الإمام (عليه السلام) على طاعة الله وعبادته في غلس الليل، ووضح النهار، وحذر من اقتراف الذنوب والمعاصي، فإنها تورد الإنسان موارد الهلكة، فما أسرع ما يفارق هذه الحياة ويرد على الله فيجازيه على أعماله إن خيراً فخير وإن شراً فشر.
12- ومن مواعظه هذه الموعظة التي وجه فيها الخطاب لنفسه، وهي من المواعظ التي ترتعد منها الفرائص، وتفزع منها القلوب، وهذا نصها:
(يا نفس حتى م إلى الدنيا سكونك، وإلى عمارتها ركونك، أما اعتبرت بمن مضى من أسلافك، ومن وارته الأرض من ألاّفك؟ ومن فجعت به من إخوانك، ونقل إلى الثرى من أقرانك؟ فهم في بطون الأرض بعد ظهورها، محاسنهم فيها بوال دواثر.

خلت دورهم منهم وأقوت عراصهم

وساقهم نحو المنايا المقادر

وخلوا عن الدنيا وما جمعوا لها 

وضمهم تحت التراب الحفائر

كم خرمت أيدي المنون من قرون، وكم غيرت الأرض ببلائها،وغيبت في ترابها منم عاشرت من صنوف وشيعتهم إلى الأرماس، ثم رجعت عنهم إلى عمل أهل الأفلاس:

وأنت على الدنيا مكب منافس

لخطابها فيها حريص مكاثر

على خطر تمشي وتصبح لاهياً 

أتدري بماذا لو عقلت تخاطر

وإن امرءاً يسعى لدنياه دائباً

ويذهل عن أخراه لا شك خاسر

فحتى م على الدنيا إقبالك؟ وبشهواتها اشتغالك؟ وقد وخطك القتير(38) وأتاك النذير، وأنت عما يراد بك ساه، وبلذة يومك وغدك لاه، وقد رأيت انقلاب أهل الشهوات، وعاينت ما حل بهم من المصيبات.

وفي ذكر هول الموت والقبر والبلى

عن اللهو واللذات للمرء زاجر

أبعد اقتراب الأربعين تربص 

وشيب قذال منذر ومكابر

كأنك معنيّ بما هو ضائر

لنفسك عمداً وعن الرشد حائر(39)

انظر إلى الأمم الماضية، والملوك الفانية، كيف اختطفتهم عقبان الأيام ووافاهم الحمام، فامحت من الدنيا آثارهم، وبقيت فيها أخبارهم، وأصبحوا رمماً في التراب إلى يوم الحشر والمآب.

أمسوا رميماً في التراب وعطلت

مجالسم منهم وأخلى مقارم

وحلوا بدار لا تزاور بينهم

وأنى لسكان القبور التزاور

فما أن ترى إلا قبوراً ثووا بها 

مسطحة تسفي عليها الأعاصر

كم من ذي منعة وسلطان، وجنود، وأعوان، تمكن من دنياه، ونال فيها ما تمناه، وبنى فيها القصور والدساكر(40) وجمع فيها الأموال والذخائر، ومليح السراري والحرائر.

فما صدفت كف المنية إذ أتت 

مبادرة تهوى إليه الذخائر

ولا دفعت عنه الحصون التي بنى

وحف بها أنهاره والدساكر

ولا قارعت عنه المنية حيلة

ولا طمعت في الذب عنه العساكر

أتاه من الله ما لا يرد، ونزل به من قضاءه ما لا يصد، فتعالى الله الملك الجبار، المتكبر العزيز القهار، قاصم الجبارين، ومبيد المتكبرين، الذي ذل لعزه كل سلطان وأباد بقوته كل ديان.

مليك عزيز، لا يرد قضاؤه

حكيم عليم، نافذ الأمر، قاهر

عنا كل ذي عز لعزة وجهه

فكم من عزيز للمهيمن صاغر

لقد خضعت واستسلمت وتضاءلت

لعزة ذي العرش الملوك الجبابر

فالبدار، البدار(41)، والحذار الحذار من الدنيا ومكايدها، وما نصبت لك من مصايدها وتحلت لك من زينتها، وأظهرت لك من بهجتها، وأبرزت لك من شهواتها، وأخفت عنك من غوائلها وهلكاتها.

وفي دون ما عاينت من فجعاتها

إلى دفعها داع وبالزهد آمر

فجدّ ولا تغفل وكن متيقظاً 

فعما قليل يترك الدار عامر

فشمر ولا تفتر، فعمرك زائل

وأنت إلى دار الإقامة صائر

ولا تطب الدنيا فإن نعيمها

- وإن نلت منها - غبه لك ضائر

فهل يحرص عليها لبيب، أو يسربها أريب؟ وهو عى ثقة من فنائها، وغير طامع في بقائها، أم كيف تنام عينا من يخشى البيات، وتسكن نفس من توقع في جميع أموره الممات.

إلا له، ولكنا نغر نفوسنا

وتشغلنا اللذات عما نحاذر

وكيف يلذ العيش من هو موقف

بموقف عدل يوم تبلى السرائر

كأنا نرى أن لا نشور، وأننا

سدى، ما لنا بعد الممات مصادر

وما عسى أن ينال صاحب الدنيا من لذتها، ويتمتع به من بهجتها مع صنوف عجائبها وقوارع فجائعها، وكثرة عذابه في مصابها وفي طلبها، وما يكابد من أسقامها وأوصابها وآلامها.

أما قد نرى في كل يوم وليلة 

يروح علينا صرفها ويباكر

تعاورنا آفاتها وهمومها

وكم قد ترى يبقى لها المتعاور

فلا هو مغبوط بدنيا آمن 

ولا هو عن تطلابها النفس قاصر

كم قد غرت الدنيا من مخلد إليها، وصرعت من مكب عليها، فلم تنهضه من عثرته، ولم تنقذه من صرعته، ولم تشفه من ألمه، ولم تبرئه من سقمه، ولم تخلصه من وصمه.

بل أوردته بعد عز ومنعة

موارد سوء ما لهن مصادر

فلما رأى أن لا نجاة وأنه

هو الموت لا نجيه منه التحاذر

إذ بكى على ما سلف من خطاياه، وتحسر على ما خلف من دنياه، واستغفر حتى لا ينفعه الاستغفار، ولا نجيه الاعتذار عند هول المنية، ونزول البلية.

أحاطت به أحزانه وهمومه

وأبلس لما أعجزته المقادر

فليس له من كربة الموت فارج

وليس له مما يحاذر ناصر

وقد جشأت خوف المنية نفسه

ترددها منه اللها والحناجر

هنالك خف عواده وأسلمه أهله وعواده، وارتفعت البرية بالعويل وقد أيسوا من العليل، فغمضوا بأيديهم عينيه، ومدوا عند خروج روحه رجليه، وتخلى عنه الصديق، والصاحب الشقيق.

فكم موجع، يبكي عليه، مفجع

ومستنجد صبراً وما هو صابر

ومسترجع داع له الله مخلصاً

يعدد منه كل ما هو ذاكر

وكم شامت مستبشر بوفاته

وعما قليل للذي صار صائر

فشقت جيوبها نساؤه، ولطمت خدودها إماؤه، وأعول لفقده جيرانه، وتوجه لرزيته إخوانه، ثم أقبلوا على جهازه، وشمروا لإبرازه، كأنه لم يكن بينهم العزيز المفدى، ولا الحبيب المبدى.

وحل أحب القوم كان بقربه 

يحث على تجهيزه ويبادر

وشمر من قد أحضروه لغسله

ووجه لما فاض للقبر حافر

وكفن في ثوبين واجتمعت له

لتشييعه إخوانه والعشائر

فلو رأيت الأصغر من أولاده، وقد غلب الحزن على فؤاده، ويخشى من الجزع عليه، وخضبت الدموع عينيه، وهو يندب أباه، ويقول: يا ويلاه واحرباه.

لعاينت من قبح المنية منظراً

يهال لمرآة، ويرتاع ناظر

أكابر أولاد يهيج اكتئابهم

 

إذا ما تناساه البنون الأصاغر

وربة نسوان علي جوازع 

مدامعهم فوق الخدود غوارز

ثم أخرج من سعة قصره، إلى ضيق قبره، فلما استقر في اللحد، وهيل عليه اللبن احتوشته أعماله، وأحاطت به خطاياه، وضاق ذرعاً بما رآه، ثم حثوا بأيديهم عليه التراب، وأكثروا البكاء عليه والانتحاب، ثم وقفوا ساعة عليه، وأيسوا من النظر إليه، وتركوه رهناً بما كسب وطلب.

فهووا عليه معولين وكلهم

لمثل الذي لاقى أخوه محاذر

كشاءٍ رتاع آمنين بدالها 

بمديته بادي الذراعين حاسر

فريعت ولم ترتع قليلاً واجفلت

فلما نأى عنها الذي هو حاذر

عادت إلى مرعاها ونسيت ما في أختها دهاها، أفبأفعال الأنعام اقتدينا؟ أم على عادتها جرينا؟ عد إلى ذكر المنقول إلى دار البلى، واعتبر بموضعه تحت الثرى، المدفوع إلى هول ما ترى.

ثوى مفرداً في لحده وتوزعت 

مواريثه أولاده والأصاهر

واحنوا على أمواله يقسمونها 

فلا حامد منهم عليها وشاكر

فيا عامر الدنيا ويا ساعياً لها

ويا آمناً من أن تدور الدوائر

كيف أمنت هذه اللحظة وأنت صائر إليها لا محالة؟ أم كيف ضيعت حياتك، وهي مطيتك إلى مماتك؟ أم كيف تشبع من طعامك وأنت منتظر حمامك؟ أم كيف تهنأ بالشهوات وهي مطية الآفات.

ولم تتزود للرحيل وقد دنا

وأنت على حال وشيك مسافر

فيالهف نفسي كم أسوف توبتي

وعمري فانٍ والردى لي ناظر

وكل الذي أسلفت في الصحف مثبت

يجازي عليه عادل الحكم قادر

فكم ترقع بآخرتك دنياك، وتركب وغيك وهواك، أراك ضعيف اليقين يا مؤثر الدنيا على الدين، أبهذا أمرك الرحمن؟ أم على هذا أنزل القرآن؟ أما تذكر أمامك من شدة الحساب، وشر المآب، أما تذكر حال من جمع وثمر، ورفع البناء وزخرف وعمر، أما صار جمعهم بوراً، ومساكنهم قبوراً.

تخرب ما يبقى وتعمر فانياً 

فلا ذاك موفور ولا ذاك عامر

وهل لك إن وافاك حتفك بغتة

ولم تكتسب خيراً لدى الله عاذر

أترضى بأن تفنى الحياة وتنقضي

ودينك منقوص ومالك وافر(42)

وانتهت هذه الموعظة، وقد صورت واقع الحياة الدنيا، وما يؤول إليه أمر الإنسان من النزوح عن هذه الدنيا، التي هو أحرص ما يكون عليها، فقد هام بحبها، وتعلق بشهواتها ومباهجها، مع علمه بمفارقتها إلى قبر مظلم ضيق، تتقطع فيه أوصاله، وتنحسر فيه أخباره، ولا يبقى معه إلا عمله، فإن كان صالحاً، فلا يأنس إلا به، وإن كان شراً فلا يخاف إلا منه.
ونحن لا يخالجنا شك في مضامين هذه الموعظة، إلا أنا نشك فيها من جهة ركاكة بعض ألفاظها خصوصا ما اشتملت عليه من النظم، وهي لا تتناسب مع بلاغة الإمام زين العابدين (عليه السلام) الذي هو من أبلغ أئمة البلاغة في العالم العربي والإسلامي، فهو صاحب الصحيفة السجادية التي لم تعرف العربية أبلغ وأفصح منها.
13- ومن مواعظه هذه الموعظة القيمة التي حذر فيها من الدنيا قال (عليه السلام): (أحذركم من الدنيا، وما فيها، فإنها دار زوال وانتقال، تنتقل بأهلها من حال إلى حال، وهي قد أفنت القرون الخالية، والأمم الماضية وهم الذين كانوا أكثر منكم مالاً(43)، وأطول أعماراً، وأكثر آثاراً، أفنتهم الدنيا، فكأنهم لا كانوا أهلاً، ولا سكانا، قد أكل التراب لحومهم، وأزال محاسنهم، وبدد أوصالهم، وشمائلهم، وغير ألوانهم، وطحنتهم أيدي الزمان أفتطمعون بعدهم بالبقاء؟ هيهات!! هيهات!! فلابد من الملتقى، فقد بدد ما مضى من عمركم، وما بقي فافعلوا فيه ما سوف يلتقي عليكم بالأعمال الصالحة قبل انقضاء الأجل، وفروغ الأمل، فعن قريب تؤخذون من القصور إلى القبور حزينين غير مسرورين، فكم والله من فاجر قد استكملت عليه الحسرات، وكم من عزيز وقع في مسالك الهلكات حيث لا ينفعه الندم، ولا يغاث من ظلم، وق وجدوا ما أسلفوا وأخذوا ما تزودوا، (ووجدوا ما عملوا حاضراً ولا يظلم ربك أحداً) فهم في منازل همود(44) وفي عسكر الموتى خمود، ينتظرون صيحة القيامة وحلول يوم الطامة(45) (ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى)(46).
وبهذا تنتهي بعض مواعظ الإمام زين العابدين (عليه السلام) حقاً إنها من أعظم الأرصدة الروحية، كما أنها من أنجح الأدوية لمعالجة الأمراض النفسية التي تؤدي إلى انحطاط الإنسان، وترديه في متاهات سحيقة من مجاهل هذه الحياة.

1- يجأرون: أي يتضرعون.

2- القداح: السهام بلا ريش ولا نصل.

3- أصول الكافي ج 2 ص 132، معالم العبر للنوري.

4- الدر النظيم ص 137 تاريخ اليعقوبي ج 3 ص 46.

5- الخصال ص 64-65.

6- أمالي ابن الشيخ ص 410.

7 - الاختصاص ص 338.

8- البيان والتبيين ج 1 ص 84 زهر الآداب ج 1 ص 102.

9- الآزفة: أي القيامة.

10- سورة الأعراف: آية 200.

11- سورة النحل: آية 45-47.

12- سورة الأنبياء: آية 11.

13- سورة الأنبياء: آية 12.

14- سورة الأنبياء: آية 13.

15- سورة الأنبياء: آية14.

16- سورة الأنبياء: آية 47.

17- أي: في القرآن الكريم.

18- سورة يونس: آية 24.

19- سورة هود: آية 113.

20- تحف العقول ص 249-252 أمالي الطوسي ص 301 روضة الكافي ص 160 أمالي الصدوق ص 56 تنبيه الخواطر لابن ورام ص 225 البحار ج 17 ص 17، الطبعة الأولى.

21- الهامد: البالي.

22- وهيبة السلطان: لعل الصحيح ورهبة السلطان.

23- سورة فاطر: آية 25.

24- تحف العقول ص 252-255 أمالي المفيد ص 117 روضة الكافي ص 138.

25- الحين: الهلاك.

26- سورة المؤمنون: آية 100.

27- سورة إبراهيم: آية 14.

28- تضمير الخيل: حجبها عن الأكل حتى تهزل لتستطيع سبق الرهان.

29- سورة الأنبياء: آية 94.

30- سورة التغابن: آية 15.

31- سورة الحديد: آية 20-21.

32- سورة الحشر: آية 18-19.

33- سورة البلد: آية 8-10.

34- تحف العقول ص 272 - 274 البحار ج 17 ص 312 الطبعة الأولى.

35- روضة الكافي ص 158.

36- روضة الكافي ص 158.

37- الدر النظيم ص 137.

38- وخطك: أي أسرع، القتير: الشيب.

39- في العجز - كما لا يخفى - زحاف، ولعل الأصح: لنفسك عمداً أو عن الرشد جائر.

40- الدساكر: مفردها دسكرة وهي بناء كالقصر فيه الشراب والملاهي.

41- أي: العجل العجل.

42- البداية والنهاية ج 9 ص 109-113 تاريخ ابن عساكر.

43- الأصح: أموالاً.

44- الهمود: الموت.

45- الطامة: الداهية لأنها تطم كل شيء.

46- سورة النجم: آية 30.

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة