البث المباشر

وقفة عند كتاب "أدب الكاتب" لابن قتيبة -۱

الأحد 22 سبتمبر 2019 - 14:45 بتوقيت طهران
وقفة عند كتاب "أدب الكاتب" لابن قتيبة -۱

اذاعة طهران - برنامج : عبارات و اشارات - فقرة : وقفة عند كتاب "أدب الكاتب" لابن قتيبة -۱

 

ادب الكاتب، او ادب الكتّاب هو من ضمن الروائع الاخرى التي تمخضت عنها الحضارة الاسلامية في جانبها الفكري والادبي.
الى درجة ان هذا الكتاب عُدّ من بين الاصول والاركان الاساسية لعلم الادب والبلاغة والبيان.
كما قرر ذلك ابن خلدون في مقولته الشهيرة:
(وسمعنا من شيوخنا في مجالس التعليم ان اصول هذا الفن واركانه اربعة داووين وهي: ادب الكتّاب لابن قتيبة، وكتاب الكامل للمبرّد، وكتاب البيان والتبيين للجاحظ، وكتاب النوادر لابي علي القالي، وما سوى هذه الاربعة فتبع لها، وفروع عنها...).
ومؤلف هذا الكتاب الخالد ه العالم اللغوي الاديب ابو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري.
صاحب الكتب والتصانيف المعروفة التي وصفت بانها مفيدة كلها ومنها: غريب القرآن الكريم، وغريب الحديث، وعيون الاخبار، ومُشكل القرآن، ومُشكل الحديث، وطبقات الشعراء، واصلاح الغلط، وكتاب التقفية، وكتاب اعراب القراءات.
وقد كانت ولادته سنة ثلاث عشرة ومائتين، وتوفي في منتصف شهر رجب سنة ست وسبعين ومائتين.
وقد عُني العلماء بكتابة (ادب الكاتب) اشدّ العناية نظراً الى اهميته، واشتماله على اغلب ما يحتاج اليه من يريد ان يتلقى ادب الكتابة، فمنهم من شرح خطبته، ومنهم من شرح ابياته، ومنهم من شرحه كله.
ومن بين علماء اللغة والنقاد الذين اهتموا بشرح هذا الكتاب ابن كَيْسان، والزجاجي، والفارابي، والجواليقي.
يبتدئ ابن قتيبة كتابه (ادب الكاتب) ببيان الدوافع والاسباب التي دفعته الى تأليف هذا الكتاب قائلا:
(اما بعد... فاني رأيت اكثر اهل زماننا هذا عن سبيل الادب ناكبين، ومن اسمه متطيرين، ولاهله كارهين، اما الناشئ منهم فراغب عن التعليم، والشادي تارك للازدياد، والمتأدب في عنفوان الشباب ناس او متناس...).
ثم يتطرق ابن قتيبة بعد ذلك في خطبة كتابه الى الاسفاف الذي حدث في موضوعات الادب بجميع فروعه، واهتمام الادباء بامور تافهة هامشية دون ان يلجوا المواضيع التي تليق بهذا الفن الانساني الرفيع فيقول:
(... فأبعد غايات كاتبنا في كتابته ان يكون حسن الخط، قويم الحروف، واعلى منازل اديبنا، ان يقول من الشعر ابياتاً في مدح قَيْنة او وصف كأس، وارفع درجات لطيفنا ان يطالع شيئاً من تقويم الكواكب، وينظر في شيء من القضاء وحدّ المنطق...).
ويوصي الدينوري المتأدبين، ومن ارادوا ان يتخذوا من الكتابة مهنة لهم ومن الادب والبلاغة فناً يتخصصون فيه بان يتأدبوا من الناحية الخلقية قبل كلّ شيء حيث يقول في هذا الصدد:
(ونحن نستحبُّ لمن قبل عنّا، وائتمّ بكتبنا ان يؤدب نفسه قبل ان يؤدب لسانه، ويهذب اخلاقه قبل ان يهذب الفاظه، ويصون مروءته عن دناءة الغيبة، وصناعته عن شَيْن الكذب، ويجلب قبل مجانبته اللحن وخطل القول شنيع الكلام، ورفث المزح...).
فاذا ما تحقق هذا الشرط، واستوفى المتأدب تلك المقدمة الضرورية لمزاولة الادب فان عليه اولاً عن يدع في كلامه التقعير والتقعيب اي التشدق في الكلام متأسياً في ذلك بقول رسول الله صلى الله عليه وآله: (ان ابغضكم اليّ الثرثارون المتفيقهون المتشدّقون).
كما ويستحب للمتأدب - كما يقرر ذلك ابن قتيبة- ان يعدل بكلامه عن الجهة التي تلزمه مستثقل الاعراب ليسلم من اللحن، وقباحة التقعير.
ويضرب مؤلف الكتاب لذلك مثلاً بالاديب، والخطيب، والعالم اللغوي المعروف (واصل بن عطاء) الذي كان يلثغ في حرف الراء، فالزم نفسه ان يجتنب استعمال هذا الحرف في خطبه حتى استقام له ذلك، واستغنى عن هذا الحرف تحقيقاً للشرط السابق، حيث يقول الدينوري في هذا المجال:
(... فقد كان واصل بن عطاء سام نفسه للثغه اخراج الراء من كلامه، ولم يزل يروّضها حتى انقادت له طباعه، واطاعه لسانه، فكان لا يتكلم في مجالس التناظر بكلمة فيها راء، وهذا اشدّ واعسر مطلباً مما اردناه...).
ويوصي ابن قتيبة الكاتب بان ينزل الفاظه في كتبه فيجعلها على قدر الكاتب والمكتوب اليه، وان لا يعطي خسيس الناس رفيع الكلام، ولا رفيع الناس خسيس الكلام.
ويذكر المؤلف امثلته لذلك، فيورد بعضاً من العبارات التي ينبغي ان لا يخلط الكاتب بينها في الاستعمال، وان يضعها موضعها الصحيح فيقول في هذا المضمار:
(... فاني رأيت الكتّاب قد تركوا تفقد هذا من انفسهم، وخلطوا فيه، فليس يفرقون بين من يكتب اليه (فرأيك في كذا)، وبين من يكتب اليه: (فاني رأيت كذا)، و(رأيك) انما يكتب بها الى الاكفاء، والمتساوين، ولا يجوز ان يكتب بها الى الرؤساء والاستاذين لان فيها معنى الامر ولذلك نصبت...).
ويستمر ابن قتيبة في ايراد الامثلة فيقول مستشهداً بآيات من الذكر الحكيم التي تمثل اعلى واسمى درجات الفصاحة والبلاغة والبيان، والمثال الذي يجب ان يحتذي به المتأدب:
(... ولا يفرقون بين من يكتب اليه: (وانا فعلت ذلك)، وبين من يكتب اليه: (ونحن فعلنا ذلك)، و(نحن) لا يكتب بها عن نفسه الا آمر او ناه لانها من كلام الملوك والعلماء...).
واما الآيات التي يستشهد بها مؤلف كتاب ادب الكاتب فهي قوله تعالى متحدثاً عن ذاته المقدسة: «انا نحن نزلنا الذكر» (الحجر، 9)، وقوله عزوجل: «انا كلّ شيء خلقناه بقدر» (القمر، 49)، في حين انه جلت قدرته، يستخدم صيغة المفرد بشأن مخلوقاته وصيغة الجمع بشأن ذاته، فيقول مثلاً حكاية عن من حضره الموت: «ربّ ارجعون، لعلّي اعمل صالحاً» (المؤمنون، 99، 100)، فلم يقل: «ربّ ارجعون»...
ويشير الدينوري بعد ذلك الى الايجاز الذي يعتبر احدى الدعامات الاساسية، والاركان الرئيسية للبلاغة والبيان، الا انه ينبه في ذات الوقت الى ان الايجاز له مواضعه المناسبة، وحالاته الضرورية، فهو ليس مستحسناً مستساغاً في جميع الاحوال، بل ان المدار في ذلك رعاية المقام ومقتضى الحال.
فالايجاز ليس بمحمود في كل موضع، ولا بمختار في كل كتاب، بل لكل مقام مقال، ولو كان الايجاز محموداً في كل الاحوال لجرده الله تعالى في القرآن، ولكنه اطال تارة للتوكيد، وحذف تارة للايجاز، وكرر تارة للافهام، ويضرب ابن قتيبة امثلة وحالات لذلك فيقول:
(... فليس يجوز لمن قام مقاماً في تحضيض على حرب، او حمالة بدم، او صلح بين عشائر ان يقلل الكلام ويختصره، ولا لمن كتب الى عامة كتاباً في فتح او استصلاح ان يوجز...).
بعد تلك المقدمة التي يستفتح بها المؤلف كتابه، يفرد الباب الاول منه لبيان، واستقصاء ما يضعه الناس في غير موضعه، ومنها (اشفار العين) التي يذهب الناس الى انها الشعر النابت على حروف العين في حين ان الصحيح انها حروف العين التي ينبت عليها الشعر.
ثم يقول بعد ذلك مبيتاً المعاني والاستعمالات المختلفة للاشفار، وشُفْرُ كل شيء حرفه وكذلك شفيره، ومنه يقال: شفير الوادي، وشُفْرُ الرحم، فان كان احد من الفصحاء يسمي الشعر شفراً فانما سماه بمنبته، والعرب تسمي الشيء باسم غيره اذا كان مجاوراً له، او كان منه بسبب.

*******

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة