الخطبة ۸۷: من خطبة له عليه السلام وهي في بيان صفات المتقين وصفات الفساق والتنبيه الى مكان العترة الطيبة وظن الخاطيء لبعض الناس
عِبَادَ اَللَّهِ، إِنَّ مِنْ أَحَبِّ عِبَادِ اَللَّهِ إِلَيْهِ، عَبْداً أَعَانَهُ اَللَّهُ عَلَى نَفْسِهِ، فَاسْتَشْعَرَ اَلْحُزْنَ، وتَجَلْبَبَ اَلْخَوْفَ، فَزَهَرَ مِصْبَاحُ اَلْهُدَى فِي قَلْبِهِ، وأَعَدَّ اَلْقِرَى لِيَوْمِهِ اَلنَّازِلِ بِهِ، فَقَرَّبَ عَلَى نَفْسِهِ اَلْبَعِيدَ، وهَوَّنَ اَلشَّدِيدَ، نَظَرَ فَأَبْصَرَ، وذَكَرَ فَاسْتَكْثَرَ، واِرْتَوَى مِنْ عَذْبٍ فُرَاتٍ سُهِّلَتْ لَهُ مَوَارِدُهُ، فَشَرِبَ نَهَلاً، وسَلَكَ سَبِيلاً جَدَداً، قَدْ خَلَعَ سَرَابِيلَ اَلشَّهَوَاتِ، وتَخَلَّى مِنَ اَلْهُمُومِ، إِلاَّ هَمّاً وَاحِداً اِنْفَرَدَ بِهِ، فَخَرَجَ مِنْ صِفَةِ اَلْعَمَى، ومُشَارَكَةِ أَهْلِ اَلْهَوَى، وصَارَ مِنْ مَفَاتِيحِ أَبْوَابِ اَلْهُدَى، ومَغَالِيقِ أَبْوَابِ اَلرَّدَى، قَدْ أَبْصَرَ طَرِيقَهُ، وسَلَكَ سَبِيلَهُ، وعَرَفَ مَنَارَهُ، وقَطَعَ غِمَارَهُ، واِسْتَمْسَكَ مِنَ اَلْعُرَى بِأَوْثَقِهَا، ومِنَ اَلْحِبَالِ بِأَمْتَنِهَا، فَهُوَ مِنَ اَلْيَقِينِ عَلَى مِثْلِ ضَوْءِ اَلشَّمْسِ، قَدْ نَصَبَ نَفْسَهُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ فِي أَرْفَعِ اَلْأُمُورِ، مِنْ إِصْدَارِ كُلِّ وَارِدٍ عَلَيْهِ، وتَصْيِيرِ كُلِّ فَرْعٍ إِلَى أَصْلِهِ، مِصْبَاحُ ظُلُمَاتٍ، كَشَّافُ عَشَوَاتٍ، مِفْتَاحُ مُبْهَمَاتٍ، دَفَّاعُ مُعْضِلاَتٍ، دَلِيلُ فَلَوَاتٍ، يَقُولُ فَيُفْهِمُ، ويَسْكُتُ فَيَسْلَمُ، قَدْ أَخْلَصَ لِلَّهِ فَاسْتَخْلَصَهُ، فَهُوَ مِنْ مَعَادِنِ دِينِهِ، وأَوْتَادِ أَرْضِهِ، قَدْ أَلْزَمَ نَفْسَهُ اَلْعَدْلَ، فَكَانَ أَوَّلَ عَدْلِهِ نَفْيَ اَلْهَوَى عَنْ نَفْسِهِ، يَصِفُ اَلْحَقَّ ويَعْمَلُ بِهِ، لاَ يَدَعُ لِلْخَيْرِ غَايَةً إِلاَّ أَمَّهَا، ولاَ مَظِنَّةً إِلاَّ قَصَدَهَا، قَدْ أَمْكَنَ اَلْكِتَابَ مِنْ زِمَامِهِ، فَهُوَ قَائِدُهُ وإِمَامُهُ، يَحُلُّ حَيْثُ حَلَّ ثَقَلُهُ، ويَنْزِلُ حَيْثُ كَانَ مَنْزِلُهُ.
صفات الفساق:
وآخَرُ قَدْ تَسَمَّى عَالِماً ولَيْسَ بِهِ، فَاقْتَبَسَ جَهَائِلَ مِنْ جُهَّالٍ، وأَضَالِيلَ مِنْ ضُلاَّلٍ، ونَصَبَ لِلنَّاسِ أَشْرَاكاً مِنْ حَبَائِلِ غُرُورٍ، وقَوْلٍ زُورٍ، قَدْ حَمَلَ اَلْكِتَابَ عَلَى آرَائِهِ، وعَطَفَ اَلْحَقَّ عَلَى أَهْوَائِهِ، يُؤَمِّنُ اَلنَّاسَ مِنَ اَلْعَظَائِمِ، ويُهَوِّنُ كَبِيرَ اَلْجَرَائِمِ، يَقُولُ أَقِفُ عِنْدَ اَلشُّبُهَاتِ، وفِيهَا وَقَعَ، ويَقُولُ أَعْتَزِلُ اَلْبِدَعَ، وبَيْنَهَا اِضْطَجَعَ، فَالصُّورَةُ صُورَةُ إِنْسَانٍ، واَلْقَلْبُ قَلْبُ حَيَوَانٍ، لاَ يَعْرِفُ بَابَ اَلْهُدَى فَيَتَّبِعَهُ، ولاَ بَابَ اَلْعَمَى فَيَصُدَّ عَنْهُ، وذَلِكَ مَيِّتُ اَلْأَحْيَاءِ.
وفي عترت النبي:
فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ، وأَنَّى تُؤْفَكُونَ، واَلْأَعْلاَمُ قَائِمَةٌ، واَلْآيَاتُ وَاضِحَةٌ، واَلْمَنَارُ مَنْصُوبَةٌ، فَأَيْنَ يُتَاهُ بِكُمْ، وَكَيْفَ تَعْمَهُونَ، وبَيْنَكُمْ عِتْرَةُ نَبِيِّكُمْ، وهُمْ أَزِمَّةُ اَلْحَقِّ، وأَعْلاَمُ اَلدِّينِ، وأَلْسِنَةُ اَلصِّدْقِ، فَأَنْزِلُوهُمْ بِأَحْسَنِ مَنَازِلِ اَلْقُرْآنِ، ورِدُوهُمْ وُرُودَ اَلْهِيمِ اَلْعِطَاشِ، أَيُّهَا اَلنَّاسُ، خُذُوهَا عَنْ خَاتَمِ اَلنَّبِيِّينَ (صلَّى اللهُ عَليهِ وَآلِهِ وَسَلَّم)، إِنَّهُ يَمُوتُ مَنْ مَاتَ مِنَّا ولَيْسَ بِمَيِّتٍ، ويَبْلَى مَنْ بَلِيَ مِنَّا ولَيْسَ بِبَالٍ، فَلاَ تَقُولُوا بِمَا لاَ تَعْرِفُونَ، فَإِنَّ أَكْثَرَ اَلْحَقِّ فِيمَا تُنْكِرُونَ، واَعْذِرُوا مَنْ لاَ حُجَّةَ لَكُمْ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَنَا، أَلَمْ أَعْمَلْ فِيكُمْ بِالثَّقَلِ اَلْأَكْبَرِ، وأَتْرُكْ فِيكُمُ اَلثَّقَلَ اَلْأَصْغَرَ، قَدْ رَكَزْتُ فِيكُمْ رَايَةَ اَلْإِيمَانِ، ووَقَفْتُكُمْ عَلَى حُدُودِ اَلْحَلاَلِ واَلْحَرَامِ، وأَلْبَسْتُكُمُ اَلْعَافِيَةَ مِنْ عَدْلِي، وفَرَشْتُكُمُ اَلْمَعْرُوفَ مِنْ قَوْلِي وفِعْلِي، وأَرَيْتُكُمْ كَرَائِمَ اَلْأَخْلاَقِ مِنْ نَفْسِي، فَلاَ تَسْتَعْمِلُوا اَلرَّأْيَ فِيمَا لاَ يُدْرِكُ قَعْرَهُ اَلْبَصَرُ، ولاَ تَتَغَلْغَلُ إِلَيْهِ الفِكَرْ.
ومنها:
حَتَّى يَظُنَّ اَلظَّانُّ أَنَّ اَلدُّنْيَا مَعْقُولَةٌ عَلَى بَنِي أُمَيَّةَ، تَمْنَحُهُمْ دَرَّهَا، وتُورِدُهُمْ صَفْوَهَا، ولاَ يُرْفَعُ عَنْ هَذِهِ اَلْأُمَّةِ سَوْطُهَا ولاَ سَيْفُهَا، وكَذَبَ اَلظَّانُّ لِذَلِكَ، بَلْ هِيَ مَجَّةٌ مِنْ لَذِيذِ اَلْعَيْشِ، يَتَطَعَّمُونَهَا بُرْهَةً، ثُمَّ يَلْفِظُونَهَا جُمْلَةً.