شهر رمضان مائدة وقاعة الضيافة الإلهيّة. هو مَضافة عظيمة. من دخلها وكان متأهّباً لدخولها، مستعدّاً، باذلاً همّته وما يستطيعه فيها، فإنّه سيستفيد من كلّ ما أتاحه الله تعالى على هذه المائدة من النعم والخيرات. وسيحصل لنفسه على نفعٍ كبير منها. وهذه المنافع والمواهب الإلهيّة لا يتوفّر مثلها في غيره من شهور السنة. هي من مختصّات شهر رمضان.
فمن أنواع وأقسام هذه الضيافة الإلهيّة: الرحمة الإلهيّة، العزّة الإلهيّة، التوفيق الربّانيّ، القرب الإلهيّ، الشعور بالاستغناء الناشئ عن التفضّل الإلهيّ، الرزق المادّيّ، الرزق المعنويّ. كلّ ذلك من بركات شهر رمضان المبارك. كلّ ذلك من صنوف المواهب التي أعدّها الله تعالى على هذه المائدة الإلهيّة.
بعض الناس يدخلون هذه المضافة، لكنّهم لا ينظرون إلى هذه المائدة. بل يمرّون من وسطها؛ من بين المواهب والنعم الموجودة عليها، دون أن يستفيدوا لأنفسهم بشيءٍ منها. وبعض الناس قد يحصّلون لأنفسهم نفعاً منها، لكنّه نفع قليل. فنحن إذا اقتصرنا على الإمساك عن الطعام والشراب، فإنّ ما سنحصّله من هذه الضيافة الإلهيّة سيكون قليلاً جدّاً ومختصراً.
لكنّ البعض منّا يجلسون إلى هذه المائدة، بهمّةٍ عالية، وعزيمة راسخة. فيملأون جعبتهم من صنوف الرحمة الإلهيّة المبذولة عليها. ولكي يتمكّن الإنسان عند دخوله لهذه المضافة أن يمعن النظر جيّداً في النعم الإلهيّة الموجودة فيها؛ كي لا يصاب بالغفلة والذهول. كي يبقى منتبهاً لكلّ ما يراه هناك. وكي يعرف أين يجلس تحديداً، ومن أيّ بابٍ يدخل؛ كي يتمكّن من الاستفادة التامّة من الضيافة الإلهيّة؛ كي نكون أنا وأنت على جهوزيّةٍ واستعدادٍ لهذه المواهب العظيمة، فقد وضعوا لنا شهري رجب وشعبان.
فلرجب نكهة ولون خاصّ، ولشعبان نكهة ولون آخر. شهر رجب هو في الأغلب شهر الصلاة. وأمّا شهر شعبان فهو في الأغلب شهر الدعاء والصيام. شهر التوسل، وشهر المناجاة. وشهر: "واسمع دُعائي إذا دعوتك، واسمع ندائي إذا ناديتك"؛ شهر مناجاة الله المتعال. شهر وَصْلِ هذه القلوب الطاهرة بمعدن العظمة، معدنِ النور، ويجب معرفة قدر ذلك. لدينا العديد من الأدعية، المليئة بالمضامين السامية، لكن بعضها أكثر تمايزاً. هكذا هو شهر شعبان. حيث تستغل القلوب الطاهرة ــ القلوب النورانية وقلوب الشباب ــ هذه الفرصة، وتستفيد منها لتقوية علاقتها بالله.
إنّ الدعاء هو وسيلة المؤمن وملجأ المضطر، ورابطة الإنسان الضعيف والجاهل بالمنبع الفياض للعلم والقدرة. فالإنسان الذي يفقد الرابطة الروحية مع الله، ولا يتوجه إلى الغني بالذات لطلب حاجته منه، هو إنسان حائر وعاجز وضائع: ﴿قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ﴾ (الفرقان: 77).
وإنّ أفضل الأدعية على الإطلاق هو ذلك الدعاء الذي ينشأ من عمق المعرفة الوالهة بالله، ومن البصيرة العارفة بحاجات الإنسان؛ وهذا مما يمكن أن يُبحث عنه فقط في دين نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته الطاهرين، الذين هم أوعية علم النبي(صلى الله عليه وآله) وورثة حكمته ومعرفته. ونحن بحمد الله نمتلك ذخيرة لا تنضب من الأدعية المأثورة عن أهل البيت (عليهم السلام)، والتي يمنح الأنس بها الصفاء والمعرفة والكمال والمحبة، ويطهر الإنسان من الكدورات.
إن قلوبنا و أرواحنا يعتريها الصدأ بشكل مستمر أثناء مواجهتنا لوقائع الحياة اليومية. ولا بدّ من وضع هذا الصدأ في الحسبان وتلافيه بالطرق الصحيحة. وإلاّ لتعرّض الإنسان للفناء, فلربما يكون الإنسان قوياً شديداً من الناحية المادية والظاهرية لكنه سيفنى معنوياً إن لم يضع في الحسبان ضورة السعى لترميم هذا التلف.
وهذه المناجاة الشعبانيّة بين أيديكم. وأنا كنتُ فيما مضى قد سألْتُ الإمام الراحل (رضوان الله عليه) أنّه من بين هذه الأدعية المأثورة الواردة، ما هو الدعاء الذي تفضّلونه وترتاحون إليه أكثر، فقال: دعاء كميل والمناجاة الشعبانيّة. وللصدفة، فإنّ كلا هذين الدعاءين هما من أدعية شهر شعبان. فأنتم تعلمون أنّ دعاء كميل وارد أصلاً في ليلة النصف من شعبان، كما أنّ المناجاة الشعبانيّة المنقولة عن الأئمّة (عليهم السلام) منقولة أيضاً في أعمال شهر شعبان. ونلاحظ أنّ لهذين الدعاءين لحناً متقارباً، ففي المناجاة الشعبانيّة: "وإن أدخلتني النار أعلمْتُ أهلها أنّي أحبّك»، وفي دعاء كميل: «لئن تركتني ناطقاً لأضجّنّ إليك بين أهلها ضجيج الآملين ولأصرخنّ إليك صراخ المستصرخين ولأبكينّ عليك بكاء الفاقدين".
يجب أن نأنس بمثل هذه الأدعية المباركة، وأن نرقّق بها قلوبنا. إنّ هذا القلب هو شيء عجيب جدّاً. ففي بعض الأحيان يتحوّل هذا القلب إلى وسيلةٍ لارتقاء الإنسان وعروجه إلى أعلى فضاءات الروحانيّة والأجواء المعنويّة. وفي أحيانٍ أُخرى، يكون بالعكس تماماً: يتحوّل إلى حجرٍ ثقيل، إلى صخرة مربوطةٍ برجل الإنسان تُغرقه وتهوي به إلى الأعماق السحيقة؛ إلى قعر الوادي. تأخذه إلى الهلكة. فإن جعلتم قلوبكم متعلّقةً بالمال والشهوة الجنسيّة والمناصب وهذه المسائل الدنيويّة، فهو عندئذٍ سيتحوّل إلى هذه الصخرة الثقيلة، ولن يعود قلباً على الحقيقة.
* الإمام الخامنئي دام ظله.