{وَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي} من بني إسرائيل، فتحرّك باللّيل لتغطي انسحابك، لتخرج بني إسرائيل معك من دون استشارة فرعون، لأنّك في موقع القوّة لا الضعف الذي يضطرّك إلى أخذ موافقته. ولكنّ ذلك لن يخفّف من طبيعة المجابهة المسلّحة التي قرّر فرعون مواجهتك بها، {إِنَّكُم مّتَّبِعُونَ} ومطاردون، وذلك من خلال الجموع الغفيرة التي دعاها للقيام بتلك المهمّة ضدّكم.
{فَأَرْسَلَ فِرْعَونُ فِى الْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ}، يجمع الناس ويحشرهم إليه، ليثيرهم ضدّ موسى وقومه بطريقةٍ إعلانيّةٍ مضلّلة، {إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ}، فلن يكلّفنا القضاء عليهم جهداً كبيراً، ولا مدّةً طويلة، لأنهم جماعة قليلة لا تمثّل أيّة قوّةٍ في العدد والعدّة والموقع.
{وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَآئِظُونَ}، يأتون بالأعمال والمواقف التي تجلب لنا الغيظ، بما تثيره من النتائج السيّئة على مستوى قضايا العقيدة والعمل، {وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ}، نؤكد الحذر الذي يفرض علينا متابعة التحدّيات في مواقعها الكبيرة والصغيرة، لنهزمها وندمّر كلّ مواقع قوّتها قبل أن تطبق علينا بالخطة الموضوعة المرسومة التي يعمل أصحابها على اغتيالنا وتدمير مصالحنا بطريقة وبأخرى.
{فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ* وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ}، في خروجهم الذي أرادوا من خلاله ملاحقة موسى وقومه، فكانت النّتيجة أنهم خرجوا من كلّ ملكهم، وفارقوا كلّ تلك الجنّات والعيون والكنوز الكثيرة الغنيّة والسلطة الواسعة، فلم يرجعوا إليها {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ}، فأبقيناهم بعدهم وكانوا هم الوارثين لذلك كلّه. {فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ}، أي في وقت شروق الشّمس ليلاحقوهم في الضّوء، وكانوا قد قطعوا مرحلةً كبيرةً في سيرهم باللّيل، {فَلَمَّا تَراءى الْجَمْعَانِ}، ودنا بعضهم من بعض، وأبصر بعضهم بعضاً، {قَالَ أَصْحاَبُ مُوسَى} الذين عاشوا القهر والاستعباد من فرعون حتى تأصَّل الخوف في نفوسهم، وتعمّق الرّعب منه في قلوبهم، ففقدوا الثقة بأنفسهم، وابتعدوا عن التفكير في قوَّة الله من فوقهم، {إِنَّا لَمُدْرَكُون}، فسيدركنا فرعون بجنوده، وسيقبضون علينا ويقتلوننا أو يرجعوننا إلى العبوديّة من جديد.
{قَالَ كَلا}، فلن يستطيعوا اللّحاق بنا مهما حاولوا، لأنّ القضيّة ليست في مستوى القضايا العاديّة التي ترتكز على القدرة البشريّة، بل هي في مستوى التّدبير الإلهي الذي لا يخضع للأمور المألوفة في قوانين الطّبيعة، {إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ}، فهو الحافظ لي من الأعداء، وهو النّاصر لي عليهم، في ما وعدني به في بداية الرّسالة. ولذلك، فإني واثق بأنه سيدلّني إلى الطريق الآمن الذي لن يستطيعوا اللّحاق بي من خلاله.
{فَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ} وانشقّ، {فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ} أي قطعة منفصلةٍ من الماء {كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} أي كالجبل العظيم. وهكذا دخل موسى في قلب البحر، ولكن في أرض يابسة يحيط بها الماء من كلّ جهة.
{وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الاْخَرِينَ}، وهم فرعون وجنوده، وقرّبناهم إلى المنطقة التي سار فيها موسى وقومه، حتى يشعروا بالأمن في ملاحقتهم لهم {وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ} فأخرجناهم من البحر إلى البرّ، {ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ} فقد انطبق البحر عليهم بعد خروج موسى وقومه.
{إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ}، فقد رفضوا كلّ ما قدَّمه لهم موسى من آياتٍ وبيِّناتٍ، من دون أن يملكوا أيّ أساس للرّفض، فكان جزاؤهم العقاب في الدنيا والآخرة.
وعلى الأمم اللاحقة لهم أن تتفهّم هذا الدرس في ما تواجهه من دعوات الأنبياء، فتعرف كيف يأخذ الله المتمرّدين أخذ عزيز مقتدر، {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}، فلا يستطيع أحد أن ينتقص من عزَّته، كما أنَّ رحمته تتّسع لكلّ خلقه.
العلامة السيد محمد حسين فضل الله
*من كتاب "تفسير من وحي القرآن".