اشترك في معركة اليرموك وقاتل ببسالة فريدة، وكانت له مواقف شجاعة في صد هجمات الروم على الجيش الإسلامي فشترت عينه بالسيف أي جفنها السفلي ولذلك عرف بالاشتر.
وفي عام ثلاثين للهجرة كان المسلمون في مدينة الكوفة وغيرها من المدن الإسلامية غاضبين من تصرفات الولاة.
فمثلا كان "الوليد بن عقبة " وهو أخو الخليفة عثمان حاكما على الكوفة وكانت تصرفاته منافية للإسلام والدين فهو يشرب الخمر ويقضي وقته في مجالس الغناء واللهو.
ذات يوم جاء الوليد إلى المسجد سكران وصلى بالمسلمين صلاة الصبح أربع ركعات، ثم التفت إلى المصلين وقال مستهزئا:
- أتريدون أن أزيدكم؟
كان الناس غير راضين عن سيرته وكانوا ينتقدونه في الأسواق والبيوت والمساجد.
كانوا يتساءلون قائلين:
- ألم يجد الخليفة شخصا غير هذا الفاسق لكي يجعله واليا؟
- انه يتجاهر بشرب الخمر.
- انه يعتدي على حرمات الدين والمسلمين.
لهذه فكروا بطريق للحل، فوجدوا أن أفضل طريق هو أن يستشيروا أهل التقوى والصلاح، فذهبوا إلى مالك الأشتر فهو شخص تقي وشجاع ولا يخاف أحدا غير الله.
قال مالك الأشتر: الأفضل أن ننصحه أولا فإذا لم يرتدع نشكوه إلى الخليفة.
ذهب مالك ومعه بعض الناس الصالحين إلى قصر الوالي.
عندما دخلوا، وجدوه يشرب الخمر كعادته، فنصحوه أن يكف عن تصرفاته المشينة ولكنه انتهرهم وطردهم.
عندها قرروا السفر إلى المدينة المنورة ومقابلة الخليفة لإطلاعه على الأمر.
قابل الوفد الخليفة ولكنه ـ مع الأسف ـ انتهرهم وطردهم ورفض شهادتهم، فخرجوا يائسين.
فكّروا في الذهاب إلى ابن عمّ سيّدنا محمّد (صلى الله عليه وآله) علي بن أبي طالب (عليه السَّلام) فهو الأمل الوحيد في الإصلاح.
وفي تلك الفترة جاءت وفود من المدن الإسلامية الأُخرى كلّها تشكوا من ظلم الولاة وسوء سيرتهم. وذهب الصحابة إلى منزل الإمام علي بن أبي طالب (عليه السَّلام) واشتكوا عنده ما يلاقيه المسلمون من الظلم والفساد.
كان الإمام علي يشعر بالحزن لذلك، فذهب إلى قصر الخليفة ودخل على عثمان ونصحه قائلاً:
يا عثمان إن المسلمين يشتكون من الظلم. ولست أدلّك على أمر لا تعرفه، وإني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: "يؤتى يوم القيامة بالإمام الجائر وليس معه نصير ولا عاذر، فيلقى في جهنّم فيدور كما تدور الرحى ثم يرتطم في غمرة جهنّم". وانّي أُحذّرك الله، فانّ عذابه شديد.
فكّر عثمان قليلاً وأطرق حزيناً واعترف بأخطائه ووعده بأن يتوب إلى الله ويعتذر من المسلمين.
خرج الإمام علي يبشّر المسلمين بذلك وعمّت الفرحة الجميع.
ولكن مروان وكان رجلاً منافقاً دخل على الخليفة وتحدّث إليه فغيّر رأيه وقال له: الأفضل أن تخرج إلى الناس وتهدّدهم حتى لا يتجرؤوا على مقام الخلافة.
تراجع عثمان عن وعوده بإصلاح سيرته وتغيير الولاة واتبع سياسة قاسية تجاه الناس.
أشار معاوية وهو حاكم الشام آنذاك بنفي بعض الصحابة.
كان الخليفة قد نفى الصحابي الجليل أبا ذر الغفاري فمات وحيداً في صحراء "الربذة" وقام بضرب الصحابي عمّار بن ياسر وهو ابن أول شهيدين في الإسلام.
كما جلد الصحابي عبد الله بن مسعود لهذا تذمّر الناس من سياسة عثمان وولاته.
وبعث صحابة سيّدنا محمّد (صلى الله عليه وآله) برسائل إلى كافّة المدن الإسلامية ومضمونها:
أيُّها المسلمون، تعالوا إلينا، وتداركوا خلافة رسول الله (صلى الله عليه وآله) فان كتاب الله قد بدّل وسنّة رسوله قد غيّرت. فأقبلوا إلينا إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر. فأقيموا الحق على المنهاج الواضح الذي فارقتم عليه نبيّكم.
وتدفّق المسلمون الثائرون من كلّ أنحاء الدولة الإسلامية إلى المدينة المنوّرة.
كان مالك الأشتر يمثّل الثائرين فدخل على عثمان لإجراء المفاوضات من أجل إصلاح الأُمور.
وكانت مطالب الثّوار هي أن يعتزل عثمان الخلافة. لم يستجيب الخليفة لذلك.
حاول الإمام علي (عليه السَّلام) التدخّل مرّة أُخرى وإصلاح الأُمور ولكن بلا فائدة.
كان المسلمون غاضبين من سيرة عثمان وولاته وظلمهم وكان عثمان يعاند مصرّاًًًًً على سياسته.
حاصر الثوّار قصر عثمان، فطلب الإمام (عليه السَّلام) من ولديه الحسن والحسين أن يقفا للحراسة.
غير إن الثوّار تسوّروا جدران القصر، واقتحموا غرفة الخليفة وقتلوه، وفرّ مروان وغيره من المنافقين.
كان طلحة والزبير يطمعان في الخلافة فساعدا الثوّار ولكن الناس كانوا لا يفكرون إلاّ بشخص واحد ليكون خليفة عليهم وهو الإمام علي (عليه السَّلام).
تدفقت الجماهير إلى منزل الإمام وطلبوا منه أن يكون خليفة، ولكن الإمام رفض ذلك.
أصرّ مالك الأشتر وغيره من الصحابة على ذلك، وألقى مالك خطاباً حماسياً في الجماهير قائلاً:
أيُّها الناس هذا وصي الأوصياء. ووارث علم الأنبياء. الذي شهد له كتاب الله بالإيمان. ورسوله بجنّة الرضوان. من كملت فيه الفضائل. ولم يشكّ في سابقته وعلمه الأواخر والأوائل. وهكذا كان مالك أول من بايع علي بن أبي طالب وتبعته جماهير المسلمين.
وعندما أصبح الإمام علي خليفة، بدأ عهد جديد فقد أصدر أمراً بإقالة جميع الولاة الظالمين وعيّن مكانهم أشخاصاً معروفين بالتقوى والصلاح.
*******
معركة الجمل
كان البعض يطمع بالخلافة والحكم، من هؤلاء "طلحة" و "الزبير" فذهبا إلى مكّة وحرّضا عائشة بنت أبي بكر.
استغل مروان ذلك فراح ينفق من أموال المسلمين التي سرقها، وألّف جيشاً كبيراً، ورفعوا شعار الثأر لدم عثمان.
توجّه الجيش إلى مدينة البصرة، وهناك طردوا الوالي بعد أن نتفوا لحيته واستولوا على بيت المال.
وكان على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أن يواجه هذا التمرّد بحزم، فزحف بجيشه إلى البصرة.
أرسل الإمام ابنه الحسن (عليه السَّلام) والصحابي الجليل عمّار بن ياسر إلى "الكوفة" ودعوة أهلها للجهاد.
كان والي الكوفة آنذاك "أبو موسى الأشعري" فراح يدعو الناس للتقاعس عن الجهاد وعصيان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السَّلام).
مرّت الأيام ولم يعُد الحسن وعمّار بن ياسر فبعث الإمام مالكاً الأشتر في أثرهما.
كان مالك الأشتر رجلاً شجاعاً معروفاً بالحزم، وهو يدرك أن المسلمين في الكوفة يؤيدون الإمام ضد أعدائه، وان العقبة الوحيدة هي "أبو موسى الأشعري".
وصل مالك الأشتر الكوفة وراح يدعو الناس في أن يتبعوه، واجتمع حوله جمهور غفير، فاقتحم بهم قصر الإمارة وطرد الحرّاس منه.
كان أبو موسى الأشعري وقتها في المسجد يدعو الناس إلى لزوم بيوتهم وعدم الاستجابة لأوامر أمير المؤمنين. فجاء الحرّاس وأخبروه بسقوط القصر في قبضة مالك الأشتر.
طلب "أبو موسى الأشعري" مهلة يوم واحد لمغادرة الكوفة، فأُجيب طلبه.
وفي نفس اليوم أسرع مالك الأشتر إلى المسجد وخطب في الجماهير يحرّضهم لنصرة الإمام علي.
فاجتمع منهم جيش بلغ تعداده ثمانية عشر ألفاً من المقاتلين، تسعة آلاف في قيادة الحسن فسلك بهم الطريق البرّي، فيما سلك الباقون الطريق النهري لكي يلتحق الجميع بجيش الإمام علي في منطقة "ذي قار" في جنوب العراق.
اتّجه الجيش بقيادة الإمام إلى مدينة البصرة فالتقى بجيش عائشة وطلحة والزبير ومروان بن الحكم.
كان مالك الأشتر قائداً للجناح الأيمن وكان عمّار بن ياسر قائداً للجناح الأيسر، فيما وقف الإمام في قلب الجيش حيث حمل الراية ابنه محمد بن الحنفية.
بدأ جيش عائشة بالعدوان فأمطر جيش الإمام بوابل من السهام، فسقط عددٌ من القتلى والجرحى.
أراد جيش الإمام المقابلة بالمثل فمنعهم الإمام وقال: من يأخذ هذا المصحف ويذهب إليهم فيدعوهم للاحتكام عليه؟
إنّهم يقتلونه لا محالة.
وهنا انبرى شابّ وقال: أنا آخذه يا أمير المؤمنين.
تقدّم مسلم نحو جيش الجمل رافعاً المصحف.
صاحت عائشة: ارشقوه بالسهام. فأمطره الرماة بوابل من السهام فسقط فوق الأرض شهيداً.
وفي تلك اللحظات رفع أمير المؤمنين يديه إلى السماء داعياً الله سبحانه أن ينصر الحق وأهله وقال: اللّهم إليك شخصت الأبصار.
وبسطت الأيدي.
ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق، وأنت خير الفاتحين.
ثم أصدر الإمام أمره بالهجوم الشامل، وتقدّم الأشتر يقاتل ببسالة، وحدثت اشتباكات عنيفة حول الجمل.
أدرك الإمام إن عقر الجمل سوف يضع حدّاً لنزيف الدم، واقتتال الأخوة.
قاد مالك الأشتر هجوماً عنيفاً باتجاه الجمل.
كان مالك الأشتر يقتل بشجاعة وفروسية، أي انّه لا يقتل الجرحى ولا يطارد الذين يفرّون من المعركة.
كان مالك يقتدي في أخلاقه بالإمام علي (عليه السَّلام)، فهو يحبّ وصي رسول الله، وكذلك كان الإمام يحبّ مالكاً لأنّه من أهل التقوى، والله يحبّ المتقين.
وبعد معارك ضارية تمكّن جيش الإمام من عقر الجمل فانهارت معنويات الجيش المقابل وفرّ المقاتلون من ساحة المعركة.
أصدر الإمام أمراً أوقف فيه العمليات الحربية، وأمر بمعاملة عائشة بكلّ احترام وإعادتها إلى المدينة معزّزة مكرّمة.
أطلق الإمام الأسرى وأمر بمعالجة الجرحى وعفا عن الجميع.
ودخل مالك الأشتر وعمّار بن ياسر على عائشة فقالت: لقد كدت يا مالك أن تقتل ابن أختي.
أجاب مالك: نعم و لولا إنّي كبير وكنت صائماً ثلاثة أيام لأرحت منه اُمّة محمّد (صلى الله عليه وآله).
وبعد أن أقام الإمام في البصرة أيّاماً عاد بجيشه قاصداً مدينة الكوفة.
*******
في الكوفة
كان مالك الأشتر في المعارك كالأسد يُقاتل بشجاعة لا نظير لها، ولهذا كان الأعداء يخافون منه.
ولكنّه في الأيّام العادية كان يبدو كرجل فقير فهو يرتدي ثياباً بسيطة ويمشي بتواضع حتى أن أكثر الناس لا يعرفونه.
ذات يوم وعندما كان مالك يسير في الطريق، كان أحد السفهاء يأكل تمراً ويرمي النوى هنا وهناك.
وعندما مرّ مالك أمامه، رماه بنواة في ظهره وراح يضحك عليه.
فقال له رجل رآه: ماذا تفعل؟! هل تعرف مَن هذا الرجل؟
أجاب: كلاّ، مَن هو؟
ـ إنّه مالك الأشتر.
كان مالك الأشتر قد مضى في طريقه، لأن المؤمن لا يهتم لما يفعله السفهاء من الناس، وتذكّر ما كان يفعله المشركون بسيّدنا محمّد (صلى الله عليه وآله) في مكّة عندما كانوا يلقون عليه التراب والقاذورات فلا يقول شيئاً.
دخل مالك المسجد وراح يصلّي لله ويستغفر لذلك الشخص الذي رماه بالنواة.
جاء الرجل مهرولاً ودخل المسجد وألقى بنفسه على مالك يعتذر إليه وقال: اعتذر إليك ممّا فعلت فاقبل عذري.
أجاب مالك بابتسام: لا عليك يا أخي، والله ما دخلت المسجد إلاّ لكي أُصلّي واستغفر لك.
*******
معركة صفين
كان الإمام يختار الصالحين من أهل التقوى والإدارة والحزم ولاةً على المدن، لهذا عيّن مالكاً الأشتر حاكماً على الموصل وسنجار ونصيبين وهيت وعانات، وهي مناطق واقعة على حدود الشام.
كان معاوية قد أعلن العصيان للخلافة وانفرد بحكم الشام.
حاول الإمام إقناع معاوية بالطاعة فبعث برسائل عديدة وأوفد إليه من يتحدّث معه، ولكن بلا فائدة.
لهذا جهّز الإمام جيشاً وأسند قيادته إلى مالك الأشتر.
زحف الجيش باتجاه الشام ووصل منطقة "قرقيسيا" فاصطدم بجيش الشام تحت قيادة "أبي الأعور السلمي".
حاول مالك الأشتر إقناع "قائد الجيش" بإنهاء التمرّد والدخول في طاعة أمير المؤمنين الذي ارتضاه الناس خليفة لهم فرفض ذلك.
وفي الليل، انتهز جيش الشام الفرصة وقام بهجوم دون سابق إنذار، وكان هذا العمل مخالفاً للشريعة والأخلاق لأنّه غدر.
قاوم جيش الخلافة الهجوم المباغت وكبّد المهاجمين العديد من القتلى وأجبره على الانسحاب إلى مواقعه.
ومرّة أُخرى تجلّت فروسية مالك الأشتر، فأرسل إلى "أبي الأعور" مبعثواً يدعوه للمبارزة.
قال الرسول: يا أبا الأعور إن مالك الأشتر يدعوك للمبارزة.
جبن قائد جيش معاوية وقال: لا أُريد مبارزته.
وصلت إمدادات كبيرة بقيادة معاوية ملتحقة بجيش الشام.
وتقابل الجيشان في سهل "صفين" على ضفاف نهر الفرات.
احتلّت قطعات من جيش معاوية الشواطئ وفرضت حصاراً على النهر.
كان هذا العمل أيضاً مخالفاً للشريعة الإسلامية ولتقاليد الحروب.
بعث الإمام أحد صحابة النبيّ (صلى الله عليه وآله) وهو "صعصعة بن صوحان" للتفاوض:
دخل صعصعة خيمة معاوية وقال: يا معاوية إن عليّاً يقول: دعونا نأخذ حاجتنا من الماء حتى ننظر فيما بيننا وبينكم، وإلاّ تقاتلنا حتى يكون الغالب هو الشارب.
سكت معاوية وقال: سوف يأتيك ردّي فيما بعد.
خرج مبعوث الإمام، واستشار معاوية رجال فقال الوليد بحقد: امنع الماء منهم، حتى يضطروا للاستسلام.
وحظي هذا الرأي بتأييد كامل.
لقد جمع معاوية حوله كلّ الأشرار الذين لا يعرفونه حرمة للدين والإنسانية.
كان مالك الأشتر يراقب ما يجري على الشواطئ فشاهد وصول تعزيزات عسكرية، فأدرك أن معاوية يفكِّر بتشديد الحصار.
شعر جنود الإمام بالعطش، وكان مالك عطشان أيضاً، فقال له جندي: في قربتي ماء قليل اشربه.
رفض مالك ذلك وقال: كلاّ حتى يشرب جميع الجنود.
ذهب مالك إلى الإمام وقال: يا أمير المؤمنين إن جنودنا يصرعهم العطش ولم يبق أمامنا سوى القتال.
أجاب الإمام: أجل لقد أعذر من أنذر.
وخطب الإمام في الجنود وحثّهم على الاستبسال قائلاً: الموت في حياتكم مقهورين، والحياة في موتكم قاهرين.
أي أن الموت هو أن يرضى الإنسان بالذلّ. وإنّ الحياة في أن يموت المرء شهيداً.
وقاد مالك الأشتر أوّل هجوم في حرب صفين وراح يقاتل ببسالة ويتقدّم باتجاه شواطئ الفرات.
وبعد اشتباكات عنيفة تمّ تحرير ضفاف النهر وإجبار جيش معاوية على الانسحاب.
أصبح جيش معاوية بعيداً عن المياه، ولهذا فكّر في حيلة لاستعادة مواقعه على نهر الفرات.
وفي اليوم التالي سقط سهم بين جنود الإمام وكان في السهم رسالة، قرأها الجنود باهتمام.
وانتقلت الرسالة بين الجنود بسرعة وانتشر الخبر: "من أخ ناصح لكم في جيش الشام: إن معاوية يريد أن يفتح عليكم النهر ويغرقكم، فاحذروا".
وصدّق الجنود ما ورد في تلك الرسالة فانسحبوا وانتهز جيش الشام الفرصة فأعاد احتلاله للشواطئ مرّة أُخرى.
غير أن جيش الإمام شن هجوماً كاسحاً وحرّر المنطقة من قبضة الاحتلال.
شعر معاوية بالقلق، فسأل عمرو بن العاص: هل تظنّ إن عليّاً سيمنع علينا الماء؟
أجاب عمرو بن العاص: إن عليّاً لا يفعل مثلما تفعل أنت.
كان جنود الشام يشعرون بالقلق أيضاً.
ولكن سرعان ما وصلت الأخبار بأن الإمام عليّاً سمح لهم بورود النهر وترك لهم مساحة من الشواطئ كافية.
أدرك بعض أهل الشام الفرق بين معاوية وعلي، فمعاوية يفعل كلّ شيء من أجل أن ينتصر، أمّا علي فلا يفكّر في ذلك، إنّه يسير في ضوء المُثل والأخلاق الإنسانية.
لهذا تسلل بعض الجنود ليلاً وانتقلوا إلى جبهة علي لأنّها تُمثّل الحقّ والإنسانية.
*******
معاوية
كان معاوية يشعر بالقلق من وجود مالك الأشتر، لأن شجاعته وبسالته في القتال ألهب الحماس في جيش علي وبثت الذعر في جنود الشام.
فكّر معاوية في القضاء عليه عن طريق المبارزة الفردية، فعرض الأمر على مروان، ولكن مروان كان يخاف من مالك فاعتذر إلى معاوية وقال: لماذا لا تكلّف "ابن العاص" بذلك فهو ساعدك الأيمن.
عرض معاوية اقتراحه على عمرو بن العاص فاضطر لقبوله.
خرج ابن العاص يطلب مبارزة الأشتر.
تقدّم مالك نحوه وبيده رمحه، ولم يترك له فرصة للدفاع فسدّد له ضربة عنيفة جرحت قسماً من وجهه فلاذ عمرو بن العاص بالفرار.
*******
استشهاد عمّار
تصاعدت حدّة الاشتباكات وكان عمّار يقود الجناح الأيسر من جيش الإمام، ويقاتل ببسالة رغم شيخوخته. وعندما جنحت الشمس للمغيب طلب عمّار رضي الله عنه شيئاً يفطر به لأنّه كان صائماً.
أحضر أحد الجنود إناءً مليئاً باللبن وقدّمه إليه، استبشر عمّار بذلك وقال: ربّما أُرزق الشهادة هذه الليلة فقد قال لي رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا عمّار تقتلك الفئة الباغية، وآخر شرابك من الدنيا ضياح (إناء) من لبن.
أفطر الصحابي الجليل وتقدّم إلى ساحات القتال بقلبٍ عامر بالإيمان وظلّ يقاتل حتى هوى على الأرض شهيداً.
جاء الإمام وجلس قرب الشهيد وقال بحزن: رحم الله عمّاراً يوم أسلم، ورحم الله عمّاراً يوم استشهد، ورحم الله عمّاراً يوم يبعث حيّاً. هنيئاً لك يا عمّار.
كان لاستشهاد عمّار بن ياسر في ساحة الحرب أثره في سير المعارك، فقد ارتفعت معنويات جيش الإمام فيما انخفضت لدى جنود معاوية، لأن المسلمين جميعاً يحفظون حديث سيّدنا محمّد (صلى الله عليه وآله) لعمّار بن ياسر: "يا عمّار تقتلك الفئة الباغية" أي المعتدية.
وأدرك الجميع إن معاوية وجنوده هم المعتدون وإنّ علياً وأصحابه على الحقّ.
لهذا تصاعدت حدّة الحملات الهجومية في جبهة الإمام، وراح معاوية وجيشه يستعدّون للهزيمة.
*******
حيلة جديدة
فكّر معاوية بحيلة جديدة يخدع بها جيش الإمام، فاستشار "عمرو بن العاص".
قال عمرو بن العاص: أرى أن نخدعهم بالقرآن.
نقول لهم: بيننا وبينكم كتاب الله.
فرح معاوية لهذه الحيلة وأمر برفع المصاحف على الرماح.
عندما شاهد جنود الإمام المصاحف، فكّروا في إيقاف الحرب، وبذلك انطلت الحيلة على كثير من الجنود.
قال الإمام: إنّها مكيدة. أنا أوّل من دعا إلى كتاب الله وأوّل من أجاب إليه. أنّهم عصوا الله فيما أمرهم ونقضوا عهده.
ولكن عشرين ألفاً من الجنود عصوا أمر الإمام وقالوا: اصدر أمرك بإيقاف القتال وقل للأشتر ينسحب.
أرسل الإمام أحد الجنود إلى مالك الأشتر يأمره بإيقاف العمليات الحربية.
استمر مالك الأشتر في القتال وقال: ما هي إلاّ لحظات ونحرز النصر النهائي.
قال الجندي: ولكن الإمام محاصر بعشرين ألف من المتمرّدين وهم يهددون بقتله إذا لم توقف القتال.
اضطر مالك الأشتر للانسحاب وقال: لا حول ولا قوّة إلاّ بالله.
*******
التحكيم
كان مالك الأشتر يدرك أن ما قام به معاوية هو مجرّد حيلة، ولكنه انصاع لأمر الإمام حتى لا تحدث الفتنة، فكان قائداً شجاعاً وجندياً مطيعاً.
توقفت المعارك واتفق الطرفان على الاحتكام إلى كتاب الله.
فأرسل معاوية عمرو بن العاص ممثّلاً عنه في المفاوضات.
وأراد الإمام أن يختار رجلاً عاقلاً فطناً عالماً بكتاب الله فاختار عبد الله بن عباس حبر الأُمّة.
ولكن المتمرّدين رفضوا ذلك مرّة أُخرى وقالوا: نختار "أبا موسى الأشعري".
فقال الإمام (عليه السَّلام) ناصحاً: أنا لا أرضى به، وعبد الله بن عباس أجدر منه.
رفض المتمردون ذلك فقال الإمام: إذن اختار الأشتر.
فرفضوا أيضاً وأصرّوا على "أبي موسى الأشعري".
وحتى لا تحدث الفتنة قال الإمام: اصنعوا ما شئتم.
وهكذا اجتمع الممثلان للمفاوضات.
فكّر عمرو بن العاص أن يخدع "الأشعري" فقال له: يا أبا موسى إن سبب الفتنة وجود معاوية وعلي، فتعال لنخلعهما عن الخلافة ونختار رجلاً آخر.
كان "الأشعري" لا يحبّ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، فرحّب بالفكرة، فقال أمام الجميع: إنّني أخلع عليّاً عن الخلافة كما أخلع خاتمي من يدي.
ثم نزع خاتمه.
وهنا قال عمرو بن العاص بخبث: أما أنا فأُثبّت معاوية في الخلافة كما أُثبّت خاتمي في يدي.
ثم لبس خاتمه.
شعر المتمرّدون بالندم، وبدل أن يتوبوا ويعودوا إلى طاعة أمير المؤمنين فإنّهم طلبوا من الإمام أن يتوب ويعلن الحرب.
ولكن الإمام كان إنساناً يحترم العهود والمواثيق وقد اتّفق على الهدنة وإيقاف القتال لمدّة سنة.