فحديثنا عن لباس المرأة قبل أن يكون حجبا للأنوثة وإظهارا للإنسانية التي تستطيع المرأة من خلاله ممارسة نشاطها المجتمعي، إنما هو تحقيق لعلاقة العبودية بينها وبين الله وعهد منها بالتزام هذا الدين القيم، في عالم جل ما يحارب من أجله هو إسقاط نظرة الإنسان لنفسه على أنه عبد مستخلَف، ويغرس فيه أنه المركز والسيد الآمر الناهي.
والخطاب الذي يشجع المرأة على اللباس الساتر لأجل حفظ المجتمع من الفساد والانحراف، وحفظ جسد المرأة، قد يغفل علاقة العبودية لله التي تكرم المرأة، وتدفعها للالتزام باللباس الساتر ضمن جملة الفرائض التي تقوم بها لتحقيق أسمى درجات الحرية وهي عبادة الله فوق ما سواه.
فلا يكون سيماء المرأة في الإسلام -كما أسماه الشيخ فريد الأنصاري رحمه الله- له معنى إن كان تابعا للمخلوق ومصلحة المخلوق قبل أن يكون تابعا لله، وبهذا تسمو العلاقة روحيا بهذا اللباس الذي هو منظومة قيم قبل أن يكون قطعة قماش [سيماء المرأة في الإسلام بين النفس والصورة، د.فريد الأنصاري، منشورات ألوان مغربية،الرباط، 2003م].
وما تحرير المرأة من تلك العبودية ومن منظومة القيم إلا فرض قيم أخرى عليها وتسويق عبودية جديدة لغير مستحقيها، فصيحات الأزياء وممولوها يستغلون بشكل خفي أو بآخر عبر الدعاية والتسويق دعاوى تحرير المرأة من ذكورية الأديان التي تفرض عليها الستر والتغطية، مفسرين ذلك بضرورة اختيار المرأة للباسها بعيدا عما يفرضه الدين الذي جاء لحجب الأنثى وإضفاء السيطرة الذكورية عليه.
لكن هذه الدعوات تواجَه بازدواجيتها المكشوفة؛ فكيف تدّعي أن على المرأة اختيار ما تلبسه وهي لا تختار ما تلبسه بل يفرضه عليها السوق؟ وكيف تبتعد عن ذكورية الأديان واختيارهم لما تلبسه إذا كان مصممو الأزياء العالميون ذكورا أيضا؟ هل تُعطى المرأة في عالمنا رفاهية اختيار صيحات الأزياء المسوقة؟ هل تساءلنا يوما عن القيم الأخلاقية التي يتبناها أصحاب شركات الأزياء العملاقة ديور وسان لوران وجافنشي وغيرها؟
إسلام السوق
والحجاب غير بعيد عن كل ذلك، فمؤخرا بات صيحة ووجها آخر لسيطرة قيم السوق الاستهلاكية كما يقول صاحب كتاب (إسلام السوق) “فالحجاب نقل إلى سياق استهلاكي سرعان ما سيدمغه بقيمه ومعاييره الخاصة وسيدخل في صراع مع الأصل الإسلاموي الذي يرفض فكرة موضة الأزياء ويعده تعبيرا عن حالة الاغتراب الثقافي وتبذيرا ومصدرا للإغراء” [إسلام السوق، باتريك هايني، ترجمة عومرية سلطاني، الطبعة الأولى، مركز نماء للبحوث والدراسات، بيروت، 2015م، ص72].
وانتشار “الفاشينيستا” المحجبة أيضا التي هي لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء يعبر عن حالة “الاستلاب الحضاري” التي نراها ويجر أسئلة حول مقياس العبودية المطروح أعلاه وما إذا كان هو معيار التزامنا بالفرائض أم أن تديننا أصبح أيضا حسب السوق، فخضوع المرأة المحجبة بزيها الذي يفترض فيه الاحتشام لمخيالات أصحاب دور الأزياء ما هو إلا وجه آخر من اتباع قيم المخلوقين التي فرضوها عن طريق ادعاء التحرر وفك القيود، والتحكم بالعبودية بدل أن تتوجه لمستحق العبودية وصاحب الخلق والأمر. [فلسفة الزي الإسلامي، أحمد الأبيض، دار قرطبة للطباعة والنشر، الدار البيضاء، ص26].
أصبح التبارز العالمي الآن مكشوفا في تسليعه للجسد عموما وجسد المرأة خصوصا وتبذله في التكشف والتغيير والتجمل والتجديد والنضارة والتخليد، مما يعيدنا للحديث عن فلسفة الجسد وفهمنا لهذا الكيان المخلوق وتكريم الله له بنفح الروح الآدمية فيه ارتقاء به عن مستوى الحيوان، ويجرنا لفهم العلاقة بينه وبين الستر والكشف على مدى التاريخ الإنساني، وكيف نظر الدين إلى هذا الجسد باعتباره أمانة ومسؤولية ووسيلة للعمران وعنصرا من عناصر الاستخلاف، لا ميدانًا للتفاضل العقيم.
إن الحجاب كقيمة إسلامية مرتبط بتعاملنا معه وقبولنا أو رفضنا لتطويعه وسيولته وفقا للحداثة التي أذابت العالم، ولو أن الحجاب لا يعني القبح وإهمال المظهر لكنه أيضًا لا يجعل المرأة أجمل كما تروّج بعض الخطابات، ولم يُفرض ليجعلها أجمل أصلًا إن كان معيار الجمال هو ما تنشره الحداثة وتجر الناس كالقطعان إليه، وطرح هذا الخطاب للفتيات -الصغيرات منهن خصوصا- عدا عن كونه مغايرًا للحقيقة، لكنه أيضا يصادم ما يغزوهن الإعلام به من تصوير مغاير للجمال والقبح، وهنا يكون البقاء للأقوى خطابيا والأكثر تأثيرًا وتكرارًا. وربما لا يسع المقام الآن الحديث عن القيم الجمالية بعد أن مَسختها الحداثة وصار كل ما يُسوّق ويشيع جمالًا بغض النظر عن أي ذوق أو خلق.
أخيرًا أقول إن نظرتنا للحجاب وأهميته في تنمية الفضيلة في المجتمع وارتقاء التعامل الإنساني بين الرجل والمرأة، لا يجب أن تقل أهمية عن نظرتنا له على أنه شريعة إسلامية تحقق أسمى درجات الانقياد والإيمان، وربما كان على الخطاب الإسلامي توجيه دعوته والموازنة بين مستويات الخطاب، وألا تكون دعوتنا مجرد ردة فعل عن بعض الظواهر التي نراها والتي ربما ولدت تأثيرًا سلبيا لم يُقصد.
آلاء بهجت الحاجي