لا نزال نحدثك عن الادعية المباركة، ومنها دعاء الجوشن الكبير، حيث حدثناك عن مقاطع متسلسلة منه، وانتهينا من ذلك الى مقطع جديد ورد فيه ما يأتي: (يا من اليه يهرب الخائفون، يا من اليه يفزع المذنبون، يا من اليه يقصد المنيبون، يا من اليه يرغب الزاهدون،...)، هذا المقطع من الدعاء يتضمن جملة فقرات تحوم على دلالات متجانسة مشتركة، حيث يوحدها محور عام هو: توجه العبد الى الله تعالى، وهذا التوجه له مصاديق متنوعة، حيث ان العبد يتجه الى الله تعالى في جميع أموره، أنه حيناً يتجه طلباً للغفران، وحيناً لحاجات دنيوية، وحيناً لهدف عبادي محض هو: تمجيده تعالى، ويعنينا الآن ان نلاحظ نمط التوجه: كما هو في الدعاء، حيث يبدأ بفقرة: (يا من اليه يهرب الخائفون).
قبل ان نحدثك عن العبارة المذكورة يجدر بنا ان نلفت نظرك الى جملة نكات فنية وبلاغية وجمالية ودلالية، منها: ان نمط التوجه يتفاوت من فقرة الى اخرى في مقطع الدعاء، فحيناً هو (هرب) الى الله تعالى، وحيناً هو (فزع) اليه، وحيناً هو (قصد) اليه، وحيناً هو (رغبة) اليه، وهكذا.
اذن ثمة انماط متنوعة من التوجه الى الله تعالى، يحسن بقارئ الدعاء ان ينتبه عليها، حتى يفيد منها في تعديل سلوكه، هذا من جانب، وماذا عن جانب آخر؟
الجانب الآخر هو ان المتوجه الى الله تعالى، حيناً يتجه اليه (خائفاً) ، وحيناً يتجه اليه (مذنباً)، وحيناً يتجه اليه (منيباً) ، وحيناً يتجه اليه (زاهداً).
وهذا يعني ان العبد المتجه الى الله تعالى، تتفاوت حالاته من جانب، كما تتجانس كل حالة مع هدف توجهه، وبكلمة اكثر وضوحاً نجد ان العبد يتجه الى الله تعالى وهو (مذنب)، ولكن نمط التوجه هنا يتجانس مع حالة الذنب، الا وهي (الفزع) اليه، اي: الخائف، واللاجئ، والمستغيث، وطالب النصرة، حين يجمع (الفزع) على هذه الدلالات ولكن العبد في حالة اخرى يتجه الى الله تعالى وهو (زاهد)، وفي هذه الحالة فان التوجه سيكون متجانساً مع الزهد، ألا وهو (الرغبة)، حيث يقول النص: (يا من اليه يرغب الزاهدون).
اذن (الزاهد) في الحياة الدنيا، لديه (رغبة) وليس سواها، هي: مجرد رغبة الى الله تعالى دون ان تقترن بشيء آخر من حاجات الدنيا مثلاً وهكذا، نجد ان كل حالة تتجانس مع هدف خاص دون سواه وفي ضوء هذه الحقائق، نتجه الى العبارة الاولى، وهي (يا من اليه يهرب الخائفون). ترى ماذا نستلهم من هذه العبارة؟
العبارة هنا تتحدث عن (الخائف) وعن (الهروب) الى الله تعالى، بينما نجد في العبارة الثانية وهي: (يا من اليه يفزع المذنبون)، تتحدث ايضاً عن الخائف وتتحدث عن عن (فزعه) الى الله تعالى، فهنا يتساءل قارئ الدعاء: ما هو الفارق بين (الفزع) و(الخوف) اولاً، ثم ما هو الفارق بين من يخاف الله تعالى مطلقاً، وبين من يفزع اليه تعالى من الذنب؟
الجواب: الفزع هو: خوف مقترن ـ كما قلنا ـ بالاستغاثة؟ وبطلب النصرة، وباللجوء الى الله تعالى، بينما الخوف هو مطلق ينسحب على الفزع وسواه، وأما الفارق بين (الخوف) مطلقاً وبين (الذنب)، فهو ان الخائف يشمل المتقي وسواه، بينما المذنب يتحدد في صدور المعصية منه، ولذلك جاء قوله تعالى: «وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ» مثلاً، ليعني بذلك المتقيّ الذي خاف الله تعالى بنحو مطلق.
والآن بعد هذه الملاحظة، يجدر بنا الوقوف عند كل عبارة (وهذا ما نؤجله الى احاديث لاحقة ان شاء الله تعالى).
*******