البث المباشر

الجمهورية الإسلامية والصمود بوجه الضغوط الأمريكية

الأحد 11 مايو 2025 - 15:36 بتوقيت طهران
الجمهورية الإسلامية والصمود بوجه الضغوط الأمريكية

منذ انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي عام 2018، وفرضها حزمة من العقوبات غير المسبوقة ضمن سياسة "الضغوط القصوى"، وجدت إيران نفسها في مواجهة ما وصفه محللون "أكبر تحدٍّ اقتصادي في تاريخ الجمهورية الإسلامية".

توقّعت عواصم غربية عدة، وعلى رأسها واشنطن، أن تكون طهران على وشك الانهيار الاقتصادي والاجتماعي، وأن تؤدي هذه السياسة إلى تغيير في سلوك النظام، أو حتى إسقاطه من الداخل.

لكن ما جرى كان نقيضا لهذه التوقعات. لم تُبدِ إيران علامات استسلام أو تراجع، بل سلكت طريقًا معاكسًا تمامًا، حيث واصلت تطوير برنامجها النووي، وعززت من قدراتها الدفاعية، وأعادت تمتين تحالفاتها الإقليمية والدولية.

لم يكن صمود إيران مجرد رد فعل عابر، بل نتاجًا لاستراتيجية طويلة الأمد، انطلقت من داخل منظومة الحكم الإيرانية، تقوم على إعادة بناء الاقتصاد والمجتمع وفق معادلات جديدة تستند إلى "الاكتفاء الذاتي"، و"الاقتصاد المقاوم"، و”الانفتاح على الشرق".

فما هي ركائز هذا الصمود؟ وكيف تمكّنت طهران من امتصاص واحدة من أعنف حملات العقوبات في العصر الحديث، بل وتحويلها إلى فرصة لإعادة تعريف دورها في النظام الدولي؟

 

صمود اقتصادي

منذ أوائل الألفية، شرع قائد الثورة الإسلامية في ايران السيد علي خامنئي بالترويج لمفهوم "الاقتصاد المقاوم" كإطار نظري وعملي لمواجهة العقوبات والعزلة. لا يقوم هذا النموذج على العزلة التامة عن العالم، بل على تنويع الشركاء، وتعزيز الإنتاج المحلي، وتقليل الاعتماد على الغرب، لا سيما في القطاعات الحيوية.

في قطاع الزراعة، باتت إيران شبه مكتفية ذاتيًا من القمح، بحسب تقارير منظمة الأغذية والزراعة (FAO) ، وهو إنجاز مهم لبلد يعاني من شح المياه والتغير المناخي.

أما في قطاع الصناعات الدوائية، فتنتج إيران اليوم أكثر من 95% من احتياجاتها محليًا، وفقًا لمجلة The Lancet ورغم القيود المفروضة على استيراد المعدات الطبية المتطورة، نجحت طهران في تعزيز قدراتها التصنيعية، وبدأت شركاتها بالتصدير إلى دول الجوار.

الاقتصاد المقاوم لم يكن مجرد شعار، بل سياسة اقتصادية أعادت تنظيم أولويات الدولة. فعلى الرغم من انخفاض صادرات النفط بسبب العقوبات، ركزت الحكومة على دعم الصناعات غير النفطية، وفرضت قيودًا صارمة على الواردات الكمالية، وشجعت الإنتاج المحلي عبر حوافز ضريبية وتسهيلات مصرفية.

 

تماسك داخلي رغم الأزمات

لم تكن العقوبات الاقتصادية مجرد قيود على التجارة، بل حملة شاملة استهدفت كل مفاصل الحياة في إيران، بما في ذلك الطاقة، المصارف، الطيران، الشحن، بل وحتى النظام المالي العالمي عبر فصل إيران عن نظام "سويفت". وكان الرهان الأميركي أن يؤدي هذا "الخنق" إلى انفجار شعبي يُسقط النظام أو يُرغمه على التفاوض بشروط قاسية.

لكن إيران لم تشهد انهيارًا داخليًا، بل تكيفت مع الضغوط، ونجح النظام في تحويل الأزمة إلى معركة صمود وطنية. ولعب الإعلام الرسمي دورًا كبيرًا في شيطنة العقوبات باعتبارها حربًا على الشعب الإيراني، لا على النظام فحسب، وهو ما ولّد نوعًا من الالتفاف الوطني، لا سيما في ظل غياب بديل سياسي مقنع داخليًا أو خارجيًا.

ويرى مراقبون أن النظام الإيراني، بتركيبته الأمنية والسياسية والدينية، أثبت قدرة عالية على احتواء الأزمات، وإعادة تدوير الضغوط لصالح تماسكه.

 

تفكيك القنبلة الاقتصادية

انهيار العملة كان واحدًا من أبرز مؤشرات الأزمة الاقتصادية، إذ تراجعت قيمة الريال الإيراني بشكل حاد بعد انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي. ومع ذلك، لم تدخل إيران في دوامة تضخم مفرط على غرار فنزويلا أو زيمبابوي، بل تمكنت من كبح الانهيار عبر أدوات إدارية وسياسات نقدية دقيقة.

قام البنك المركزي الإيراني بوضع نظام أسعار صرف متعددة، يتيح للسلع الأساسية سعرًا مدعومًا، بينما يُترك السعر الحر لبقية المعاملات، ما حدّ من تداعيات تقلبات السوق. كما تم تقييد التعامل في السوق السوداء، وملاحقة المضاربين، وتعزيز أنظمة الدفع المحلية.

منحت الحكومة امتيازات واضحة للمصدرين في الصناعات التي تدرّ عملة صعبة، مثل البتروكيميائيات والمعادن، ما ساعد على تدفق نسبي للنقد الأجنبي. وفي مواجهة العقوبات المصرفية، شجعت طهران على استخدام العملات المحلية في التجارة مع شركائها الآسيويين، وتوسيع الاعتماد على أنظمة دفع بديلة عن الدولار و"سويفت".

 

تحالفات استراتيجية.. والرهان شرقا

مع انسداد الأفق أمام العلاقات مع الغرب، أعادت إيران توجيه بوصلتها نحو الشرق، في تحالفات لا تستند فقط إلى المصالح الاقتصادية، بل إلى رؤى مشتركة بشأن النظام العالمي.

- الاتفاق مع الصين: وقعت طهران وبكين اتفاقًا استراتيجيًا يمتد لـ25 عامًا، يتضمن استثمارات بمليارات الدولارات في البنى التحتية، والنفط، والطاقة المتجددة، والاتصالات. هذا الاتفاق لا يقتصر على الاقتصاد، بل يمثل إعلانًا عن شراكة استراتيجية بعيدة المدى، تعزز موقع إيران في منظومة دولية تقودها قوى غير غربية.

- التقارب مع روسيا: في ظل الحرب في أوكرانيا، باتت إيران وروسيا أكثر تقاربًا من أي وقت مضى. امتد التنسيق إلى قطاعات الطاقة والدفاع، وتم الاتفاق على استخدام أنظمة دفع بديلة عن "سويفت"، في محاولة لبناء منظومة مالية موازية للهيمنة الغربية.

- العضوية في منظمة شنغهاي للتعاون: مثلت هذه الخطوة تحولًا مهمًا، إذ باتت إيران شريكًا رسميًا في منظومة أمنية واقتصادية تمثل ثقلاً متناميًا في آسيا. كما فتحت المنظمة لإيران أبواب التعاون مع الهند ودول آسيا الوسطى، بما في ذلك مشاريع النقل والطاقة.

 

إيران من الدفاع إلى إعادة تشكيل اللعبة

رغم أن العقوبات فرضت تحديات قاسية، فإن إيران لم تكتفِ بالصمود، بل حولت الأزمة إلى فرصة استراتيجية لإعادة تموضعها كقوة إقليمية فاعلة ومؤثرة. تجاوزت طهران دور "الضحية" لتعيد تشكيل موقعها الجيوسياسي، عبر تحالفات متينة مع قوى كبرى كالصين وروسيا، وانخراط نشط في تكتلات إقليمية تعيد رسم ملامح النظام العالمي بعيداً عن المركزية الغربية.

في ميزان القوى الإقليمي، باتت إيران تمثل قطبًا قائمًا بذاته، يملك أدوات الضغط والردع، ويمارس تأثيره في ملفات تمتد من شرق المتوسط إلى آسيا الوسطى. وبهذا المعنى، لم تكن العقوبات نهاية طهران، بل بداية فصل جديد في صعودها كقوة إقليمية تملك مشروعًا واضح المعالم، وتستند إلى رصيد من التجربة والقدرة على التكيف في عالم متحوّل.

فإيران اليوم، ليست فقط دولة نجت من العقوبات، بل واحدة من أبرز الفاعلين في صياغة خرائط المستقبل في غرب آسيا وخارجه.

 

أحمد علي إبراهيم

"صحفي ومحلل سوري"

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة