خلال فترة تيودور في إنجلترا، والتي امتدت منذ أواخر القرن الـ15 وحتى مطلع الـ17 الميلاديين، تسبب مرض يُعرف بـ"التعرُّق الغزير" في مقتل عشرات الآلاف من الأشخاص في بريطانيا.
المرض الذي لم يعرفه البشر من قبل، وحتى الآن تتباين تفسيراته العلمية، تسبب في اندلاع سلسلة من الآثار المروعة على الضحايا قبل أن يتسبب في قتلهم، ما أصاب الملك هنري الثامن بـ"حالة من الذعر الشديد" جعلته يغير مقر الحُكم، في فترة غامضة من تاريخ المملكة المتحدة.
ترتبط التدوينات المبكرة لهذا المرض الشديد -المعروف أيضا باسم التعرُّق الإنجليزي (Sudor Anglicus)- بعودة هنري تيودور من فرنسا عام 1485، وذلك للاستيلاء على العرش الإنجليزي ليصبح بهذه الخطوة هو الملك هنري السابع.
ربما يكون المرض قد نُقل إليه من قِبَل جيشه خلال الرحلة البحرية، على الرغم من عدم وجود سجلات سابقة له في الوثائق التاريخية.
إلا أنه بعد الانتصار على ريتشارد الثالث في معركة "بوسورث فيلد"، دخل هنري وقواته إلى لندن. وبعد ذلك بوقت قصير، انتشر وباء المرض الغامض، مما أسفر عن مقتل عدة آلاف من الناس قبل أن يتلاشى بعد شهرين دون أي تفسير علمي أو طبي معروف.
وقد حدث تفشٍ آخر في أيرلندا للمرض ذاته عام 1492، ولكن لم يتم تسجيل أي تداعيات أخرى للوباء في إنجلترا حتى عام 1502.
ويُعتقد وفقا لتقرير نشرته مجلة "فارماسوتيكال" (Pharmaceutical) الطبية، أن مرض التعرُّق الغزير كان مسؤولا عن وفاة آرثر، أمير ويلز في ذلك الوقت، مما مهد الطريق لأخيه الأصغر ليخلفه، ليُصبح الملك هنري الثامن.
المرض غيّر تاريخ بريطانيا
تجدد اندلاع الوباء على نحو متزايد في أعوام 1507 و1517 و1527 بشكل غيّر تاريخ بريطانيا الذي نعرفه.
فقد بدأ آخرها في لندن، حيث انتشر على نطاق واسع لدرجة أن هنري الثامن نقل بلاط الحُكم وإدارة المملكة بعيدًا عن العاصمة.
وبعد انتشار المرض بسرعة عبر إنجلترا، ظهر المرض فجأة في مدينة هامبورغ بألمانيا. ومن هناك اجتاح أوروبا الشرقية، وسط ارتفاع معدلات الوفيات.
وأينما ظهر الوباء، كانت الأعراض تميل لاستمرار لمدة أسبوع أو أسبوعين فقط، ثم تتلاشى الموجة فجأة من دون مقدمات.
وتلاشى الداء نهائيا بحلول نهاية عام 1528، وفقا للموسوعة البريطانية "بريتانيكا" (Britannica).
ولكن.. ما مرض التعرُّق الإنجليزي؟
معرفتنا بالمرض مستمدة بشكل أساسي من روايات تاريخية وثقت تداعيات الوباء الأخير في إنجلترا عام 1551.
ففي كتاب نُشر في العام التالي، سجل الطبيب جون كايوس أن المرض بدأ فجأة مع إحساس بالخوف والقشعريرة العنيفة من البرد.
تلته أعراض بالدوار والصداع والإرهاق الشديد وآلام مبرحة في العنق، والكتفين والأطراف. وأحيانا بعد نصف ساعة من ظهور تلك الأعراض، كان التعرق الغزير يبدأ في جسم المصاب فجأة، مصحوبًا بإحساس بالحرارة والصداع والهذيان والنبض المتسارع والعطش الشديد.
وفي المرحلة الأخيرة من المرض، كان المصاب يعاني شعورا بالثقل والضغط على الجسم، وبعد 24 ساعة إما يلفظ أنفاسه الأخيرة أو يبدأ في التعافي المفاجئ والشعور بالتحسُّن.
كتب السفير الفرنسي في لندن، كاردينال دو بيلاي في خطاب يعود لعام 1528 "هذا المرض هو أسهل أنواع الموت في العالم. وهذا العام وحده أصيب حوالي ألفي شخص في لندن بالمرض".
وتابع السفير حول الأعداد الضخمة من الضحايا بالمرض، وفقا لموقع "هيستوري إكسترا" التاريخي "قبل 12 عاما، عندما حدث الشيء نفسه، مات 10 آلاف شخص في 10 أو 12 يوما، والآن يُقال إنه لم يكن حادا كما هو الحال حاليا.. الجميع قلقون بشكل رهيب".
التفشي الواسع للوباء أقلق الملك هنري الثامن آنذاك، فأمر حاشيته بالانتقال من لندن، وتنقل بين القصور المركزية الأخرى بإنجلترا خوفا من العدوى.
تفسيرات حديثة للمرض
كما تم توثيقه في ذلك الوقت، فإن وباء التعرق الغزير اختلف بسبب الأعراض عن الإصابات الوبائية التي سبقته في تلك الحُقبة من التاريخ، مثل الطاعون.
ومع ذلك تشمل الاقتراحات الطبية الحديثة للأسباب المحتملة للمرض الإصابة بعدوى فيروسية تُسمى بـ"عدوى هانتا" أو حتى الإصابة بالجمرة الخبيثة.
كما عرَّف أحد الكُتَّاب في القرن الـ20 المرض على أنه الحمى الانتكاسية، مرجحا تفشيها في الربيع والصيف عن طريق القمل والقراد.
وهذا التفسير معقول طبيا وفقا لعلوم الطب الحديثة، ويفسر كافة الأعراض ومعدلات الوفاة المرتفعة بالمرض. لذلك اقترح العلماء المعاصرون أن سبب المرض عدوى فيروس هانتا.
ومع ذلك، لا تشترك أي من تلك الترشيحات بشكل كامل في الأعراض التي وصفها كايوس والمؤرخون في بريطانيا وأوروبا.
سر غامض لم يُكتشف بعد
تلفت مجلة "ذا كونفرسيشن" (The Conversation) إلى أنه قد يكون أحد الاحتمالات لتلك الحالة الغامضة هو تفشي مرض فيروسي في ذلك الوقت ينتقل عن طريق البعوض فيما يُشبه حُمَّى الضنك.
وذلك على الرغم من أن حمى الضنك نفسها عادة ما تستمر لأكثر من 24 ساعة وتميل إلى أن تكون مصحوبة بطفح جلدي، وهو ما لم يُذكر في التوثيقات.
وإلى اليوم لا يزال الباحثون الطبيون يبحثون في المستندات القديمة عن أدلة جديدة تعيد توضيح المشهد، لكننا قد لا نعرف أبدًا سبب مرض التعرُّق الغزير الذي اجتاح بريطانيا قبل قرون من الزمان.