على الرغم من أن “الشركات العسكرية الخاصة (Private Military Companies) مصطلح ينتمي للعصر الحديث، إلا أن فكرة تشكيل ميليشيات عسكرية خاصة تتكون من أشخاص يجيدون فنون القتال وينفذون مهام محددة لصالح دولة ما مقابل أجر، سواء كان مادياً أو عينياً، هي فكرة ضاربة في عمق التاريخ الإنساني، وليست وليدة العصر الحديث.
اختلفت أسباب إصدار الدول أوامر بتشكيل ميليشيات أو مرتزقة أو مقاتلين للإيجار على مدار الزمن. فقديماً كان السبب الرئيسي هو عدم قدرة الجيش الرسمي على تحقيق طموحات الحاكم، ملكاً كان أو إمبراطوراً، لأسباب متعددة منها نقص الكفاءة القتالية أو عدم ثقة الملك في الولاء المطلق لقادة الجيش أو عدم وجود العدد الكافي من المقاتلين أو غيرها من تلك الأسباب.
ولعب المرتزقة دور البطولة في الحملات التي أرسلها ملوك وأباطرة أوروبا لاكتشاف العالم الجديد شرقاً وغرباً، ويمكن القول إن تلك الفترة شهدت البذرة الرئيسية للشركات العسكرية الخاصة في صورتها المعاصرة، وقام المرتزقة بأدوار رئيسية في استيلاء الدول الأوروبية على خيرات القارات الأخرى وبخاصة القارة السمراء إفريقيا واستعباد سكانها ونقلهم إلى الأمريكتين لتعمير العالم الجديد.
لكن مع دخول القرن العشرين والدمار الذي أحدثته الحربان العالميتان الأولى والثانية، وسعي القوى الكبرى إلى وضع قواعد جديدة لتنظيم الحياة على الكوكب، يمكن القول إن مرحلة جديدة من “تقنين” عمل المرتزقة بدأت تتشكل، لتظهر الشركات العسكرية الخاصة في صورتها الحالية، والسبب الأساسي وراء قيام الدول الكبرى، وبخاصة الولايات المتحدة والدول الأوروبية كفرنسا وبريطانيا، بتنظيم عمل “المرتزقة” هو جعل هؤلاء ينفذون المهام التي تريدها تلك الدول بعيداً عن “أيدي” القانون الدولي.
عام 1977، تمت إضافة بروتوكول خاص لاتفاقيات جنيف الخاصة بالقواعد المنظمة للحروب طبقاً للقانون الدولي، وشملت الإضافة في البند رقم 47 توصيف “المرتزق” طبقاً للقانون الدولي، وهو التوصيف الأكثر شيوعاً، رغم أن دولاً غربية من ضمنها الولايات المتحدة، ترفض التوصيف ولم توقع على البروتوكول.
وبحسب البند 47 من اتفاقيات جنيف، المرتزق هو الشخص الذي يتم تجنيده داخل دولته أو خارجها بغرض المشاركة في نزاع مسلح مقابل كسب خاص أو وعد بذلك الكسب، أياً كانت صورته أو طبيعته، ويشارك الشخص في النزاع لصالح أي من أطرافه مقابل أجر محدد.
وفي حالة وقوع الشخص المأجور في الأسر، لا يكون من حقه أن يعامل كأسير حرب، بل يعامل، في حالة ثبوت إدانته من خلال محاكمة عادلة، كأي مجرم عادي وقد يحكم عليه بالإعدام.
غني عن القول بطبيعة الحال أن هذا التوصيف لا يشمل القوات العسكرية النظامية التي تنخرط في الجيوش الرسمية للدول. ويرفض المسؤولون الغربيون، وخاصة الأمريكيين، توصيف “الشركات العسكرية الخاصة” التابعة لدولهم على أنهم “مرتزقة”، وهذه النقطة هي إحدى أبرز الملفات الشائكة طوال الوقت في أروقة الأمم المتحدة وهيئاتها المتعددة.
ومربط الفرس في مسألة التوصيف تتعلق بمصير “المرتزق” عندما يقع في أسر من يحاربهم أو عندما يرتكب “مجزرة” بحق مدنيين ويتم تصويرها، كما حدث في العراق من جانب مرتزقة شركة بلاك ووتر الأمريكية، أو بالنسبة لمقاتلين أجانب تقول القوات الانفصالية في إقليم دونباس الأوكراني إنها ألقت القبض عليهم وهم يقاتلون إلى جانب القوات الأوكرانية.
كانت “المحكمة العليا لجمهورية دونيتسك الشعبية قد حكمت بالإعدام على 3 أجانب (أحدهم مغربي بينما يحمل الآخران الجنسية البريطانية) لإدانتهم بالمشاركة في القتال كمرتزقة”، بحسب ما نقلته وكالة تاس الروسية للأنباء عن إيغور كوناشينكوف، المتحدث باسم وزارة الدفاع الروسية، الذي أكد أن الثلاثة قد تمت محاكمتهم وحُكم بإعدامهم نظراً لعدم سريان “قوانين أسرى الحرب” عليهم.
ويمكن القول إن هذه القضية الشائكة تمثل أحدث حلقات قضية المرتزقة وما تحمله من ثغرات قانونية وتداعيات إنسانية يصعب حسمها، ففي نهاية المطاف تطبق كل دولة قوانينها الخاصة عندما يتعلق الأمر بمن “يقاتلون” ضدها، وتختلف القصة تماماً عندما يحدث العكس. وتعتبر الحرب الروسية في أوكرانيا أحدث حلقات توظيف المرتزقة في الحروب، من الجانبين.
فخلال الأسبوع الأول من الهجوم الروسي، أعلن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي عن فتح بلاده البابَ أمام “من يريد القتال للدفاع عن أوكرانيا”، مضيفاً أنه سيتم تشكيل الفيلق الدولي، وعلى الفور بدأ تدفق مئات “المتطوعين” من أوروبا والولايات المتحدة ومناطق أخرى حول العالم. وافتتحت روسيا 14 مركزاً في سوريا، لجذب مرتزقة بغية إرسالهم إلى أوكرانيا”، إضافة إلى مرتزقة تابعين لشركة فاغنر “للخدمات الأمنية”.
على الرغم من أن “المرتزقة” أو “الجيوش الخاصة للإيجار” أو الميليشيات التي تتشكل بأوامر عليا فكرة ضاربة في عمق التاريخ البشري، إلا أن “الشركات العسكرية الخاصة”- وهو التوصيف الغربي أو بمعنى أدق الأمريكي الحديث- عاشت في الظل لفترات طويلة من الزمن حتى فضيحة “بلاك ووتر” في العراق والتي تفجرت عام 2007، وسلطت الضوء على تلك الميليشيات التي تشارك في جميع الحروب والصراعات المسلحة حول العالم طوال الوقت تقريباً.
وتأسست شركة “بلاك ووتر” سابقاً، قبل تغيير اسمها حالياً إلى أكاديمي، عام 1997 على يد إريك برنس، ضابط البحرية الأمريكية السابق، كشركة “أمن عسكرية خاصة” طبقاً للقوانين الأمريكية. ويقع مقر الشركة الرئيسي في ولاية كارولينا الشمالية وتمتلك أكبر موقع خاص للرماية في أمريكا يمتد على مساحة 24 كيلومتراً مربعاً.
وتعمل الشركة في جميع أنحاء العالم، وتقدم “خدماتها الأمنية” من تدريب وعمليات خاصة إلى الحكومة الأمريكية وباقي حكومات العالم على أساس تعاقدي تتقاضى بموجبه مئات الملايين من الدولارات، وتتحدث تقارير عن أن “موظفي” بلاك ووتر سابقاً “أكاديمي” حالياً، ضمن أغلى “المرتزقة” أجراً حول العالم. وتتحدث تقارير اعلامية امريكية عن أن “المرتزق الواحد من بلاك ووتر تبلغ تكلفته يومياً 1200 دولار، مقابل نحو 150 دولاراً فقط هي تكلفة الجندي النظامي في الجيش الأمريكي”.
وشارك مرتزقة بلاك ووتر في عمليات عسكرية ومهام “أمنية خاصة” لصالح الحكومة الأمريكية في أفغانستان منذ الغزو عام 2001، لكن تفاصيل تلك المهام ظلت سرية بطبيعة الحال، ولا تزال، حيث تملك وزارتا الخارجية والدفاع في الولايات المتحدة المستندات والعقود الخاصة بتلك المهام بالسرية.
والأمر نفسه ينطبق على ما قام به مرتزقة بلاك ووتر في العراق منذ الغزو عام 2003، باستثناء “مجزرة ميدان النسور” في بغداد عام 2007. كان مرتزقة بلاك ووتر ينفذون إحدى المهام المكلفين بها في العراق لصالح الخارجية الأمريكية، والمهمة كانت عبارة عن مرافقة قافلة دبلوماسية.
وفجأة ودون أي استفزاز أو تهديد، كما ثبت لاحقاً في المحاكمة الأمريكية، فتح مرتزقة “بلاك ووتر” النار في الميدان الصاخب ببنادق قنص ومدافع رشاشة وقاذفات قنابل يدوية، مما أسفر عن مقتل ما لا يقل عن 14 مدنياً وإصابة ما لا يقل عن 18 آخرين، بحسب الرواية الأمريكية، رغم أن الحكومة العراقية وقتها قالت إن أعداد الضحايا كانت أعلى من ذلك.
وعام 2014 أدين أربعة من مرتزقة بلاك ووتر وحُكم على أحدهم بالسجن مدى الحياة وعلى الثلاثة الآخرين بالسجن لمدة 30 عاماً، لكنهم خرجوا من السجن بعفو رئاسي أصدره الرئيس السابق دونالد ترامب في الأيام الأخيرة من رئاسته.
تسببت تلك المجزرة في العراق عام 2007 في تسليط الضوء على “بلاك ووتر” وأنشطتها التي لم يعد أغلبها “سرياً”، ومع ازدياد الضغوط غيرت الشركة اسمها عام 2009 إلى إكس إي للخدمات، وفي عام 2011 اشتراها مجموعة من المستثمرين الجدد وأصبح اسمها “أكاديمي”، ولا تزال تمارس أنشطتها حتى اليوم بهذا الاسم.
وبحسب تقارير أمريكية، حصلت بلاك ووتر على عقود فدرالية مع وزارة الخارجية قيمتها أكثر من 1.6 مليار دولار في الفترة من 1997 حتى 2007، كما حصلت على أكثر من 600 مليون دولار قيمة عقود سرية لصالح المخابرات المركزية الأمريكية، وما خفي أعظم بطبيعة الحال.
أما إريك برنس، مؤسس “بلاك ووتر”، فبعد استقالته منها عام 2010، تحول إلى “رجل أعمال” في مجال تخصصه وهو “الأمن”، وفي تقرير للأسوشيتد برس عام 2011، تبنى برنس عملية لتدريب 2000 صومالي لمكافحة القرصنة في خليج عدن، بتمويل من دول عربية أبرزها الإمارات، حيث يعيش برنس حتى اليوم.
كما كان إريك برنس قيد التحقيق من قبل مكتب التحقيقات الفدرالي للاشتباه في تورطه في محاولة بيع أسلحة أردنية إلى خليفة حفتر المدعوم من الإمارات كجزء من خطة زعيم الحرب للسيطرة على البلاد بالقوة خلال حملته الفاشلة على طرابلس عام 2019. وأفادت تقارير أممية أنه تم نقل طائرات من شركات برنس إلى شركة مرتزقة مرتبطة به ومقرها الإمارات العربية المتحدة.
على الرغم من أن روسيا دخلت عالم “الجيوش الخاصة” قبل سنوات قليلة فقط، إلا أن “فاغنر” أصبحت الآن تزاحم الشركات العسكرية الخاصة الأمريكية والغربية على صدارة المشهد. وحالياً تضعها بعض التقارير على رأس قائمة تلك الشركات ، متقدمة حتى على “أكاديمي” أو “بلاك ووتر” سابقاً. وكان الظهور الأول لمرتزقة فاغنر خلال الأزمة الأوكرانية الأولى عام 2014، حيث انضموا للقتال إلى جانب الانفصاليين الأوكرانيين، المدعومين من روسيا، في الأقاليم الشرقية.
وفي عام 2014، كان هناك أكثر قليلاً من 100 مرتزق، قناصة بالتحديد، جميعهم ضباط سابقون في الاستخبارات الروسية، يعملون في فاغنر، وكان يقود المجموعة في ذلك الوقت دميتري أوتكين، وهو قائد عسكري متقاعد من القوات الخاصة الروسية. لكن هذا العدد أصبح بالآلاف عام 2017، بعد أن تركز نشاط فاغنر منذ عام 2015 في الأراضي السورية. وعلى الرغم من أن الكرملين ينفي صلته بفاغنر، إلا أن رئيس شركة فاغنر الحالي يفغيني بريغوجين يعرف باسم “طباخ بوتين” ولا يكاد يظهر في أي صورة إلا بجوار الرئيس الروسي.
ومنذ عام 2015 حتى اليوم تحولت “فاغنر” إلى “جيش روسي للإيجار” بكل ما تحمله الكلمة من معان، لكن عملها كله منصب على تنفيذ استراتيجيات تخدم سياسة بوتين ، ولا يقتصر عمل “فاغنر” على إمداد المتعاقدين معها بالمرتزقة، بل تستخدمها موسكو في تشكيل السياسات الحاكمة والآراء العامة في أكثر من اثني عشر بلداً إفريقيّاً، وتستعين في ذلك بوسائل التواصل الاجتماعي وحملات التأثير السياسي.
فمن أوكرانيا إلى سوريا، الهدف هو نفسه أهداف بوتين، ثم توسعت أعمال المجموعة ليشارك مرتزقتها في الصراعات المسلحة في ليبيا، لدعم خليفة حفتر، وفي السودان لدعم قادة الجيش وبخاصة محمد حمدان دقلو نائب رئيس مجلس السيادة، وفي مالي وإفريقيا الوسطى وزيمبابوي وغيرها من الدول الإفريقية.
وبخلاف “فاغنر” و”بلاك ووتر”، هناك شركة “ديفاين إنترناشيونال” ومقرها ليما عاصمة بيرو، وهي تجند آلاف المقاتلين من الدول النامية للعمل كمرتزقة، يتقاضون أجوراً في حدود ألف دولار شهرياً، ويقومون بمهام لصالح حكومات أجنبية تتعاقد مع الشركة. وللشركة مكاتب في دبي والعراق وسريلانكا والفلبين.
“ديفاين إنترناشيونال” تعاقدت مع وزارة الخارجية الأمريكية من خلال شركة تريبل كانوبي، وهي شركة عسكرية خاصة أمريكية، لتقديم “خدماتها” في العراق- أثناء الغزو – ودول أخرى. وتتمثل تلك الخدمات فيما تقوم به شركة بلاك ووتر، وهي باختصار توفير “المرتزقة” لتنفيذ المهام التي لا تريد الحكومة الأمريكية أن تتورط فيها بشكل مباشر من خلال قواتها العسكرية النظامية.
وتضم القائمة أيضاً شركة إيغيس للخدمات العسكرية، ومقرها أسكتلندا، واشتهرت من خلال تسريبات صوتية عام 2005 كشفت تورط “موظفيها” في إطلاق النار على مدنيين عراقيين أيضاً، كما هو الحال مع “بلاك ووتر”، لكن تمت التغطية على الأمور واستمرت الشركة في “عملها” كالعادة حتى اليوم.
وتقول الشركة عن نفسهاعلى موقعها الإلكتروني: “نحن شركة رائدة في مجال الأمن وإدارة المخاطر ولدينا خبرة أعمال في أكثر من 60 دولة. لدينا قاعدة من العملاء حول العالم تضم حكومات وهيئات دولية وقطاع الأعمال الدولي. إننا مزود رئيسي للأمن لحكومة الولايات المتحدة ومستشار استخباراتي وأمني لشركة التأمين البحري لويد في لندن”.
“مؤسسة تريبل كانوبي” هي شركة عسكرية خاصة أمريكية كانت واحدة من 8 شركات للمرتزقة قامت بمهام لصالح الجيش الأمريكي في العراق، وحصلت على عقود قيمتها أكثر من 1.5 مليار دولار، وأغلب مجنديها من أوغندا وبيرو. وتنفذ مهام في دول كهايتي، حيث يتولى “موظفوها” حماية السفارة الأمريكية، وإسرائيل، حيث يقومون بتوفير مهام الحماية لمسؤولي وموظفي الخارجية الأمريكية هناك.
وهناك أيضاً شركات “داين كورب” ومقرها فرجينيا، وشركة “إيرينيس” و”يونيتي رسورسيز غروب” وجميعها شركات عسكرية خاصة تتشابه في المهام التي تنفذها مع باقي الشركات من تلك النوعية، وكان لها جميعاً أدوار متعددة ومهام “قتالية سرية” في العراق وأفغانستان لصالح الحكومة الأمريكية بإداراتها المختلفة، إضافة إلى المشاركة في الصراعات المسلحة حول العالم، وبخاصة في إفريقيا.
ولا تقتصر القائمة على تلك الشركات، لكنها الأكبر والأكثر تحقيقاً للأرباح من المشاركة في الحروب والصراعات والانقلابات حول العالم، وجميعها تأسست بأوامر “عليا” وتنفذ المهام لصالح دول وحكومات، بعضها دول عظمى، ترفع شعارات احترام القانون الدولي وحقوق الإنسان، لكنها لا ترى في تأسيس “جيوش خاصة للإيجار” مخالفة أو انتهاكاً لتلك القيم والقوانين.