البث المباشر

النقد الغربي والأدب العربي -۳

الخميس 31 يناير 2019 - 17:10 بتوقيت طهران

الحلقة 162

في اثناء الحرب العالمية الاولى وما بعدها بدأت طائفة من الطلاب والكتاب العرب ينفتحون من الوجهة الادبية والنقدية على الاداب الاجنبية وبخاصة الادب الانجليزي والفرنسي، وقد انفعل هؤلاء بالتيارات الادبية الغربية ومناهجها انفعالاً جعلهم في موقع المتلقي الاخذ اخذاً حرفياً دون تبصر ولا اكتراث للادب العربي الموروث في قيمه ومناهجه ومنطلقاته الفكرية والاعتقادية واسوء من ذلك كله ان هؤلاء الدارسين المصابين بعقدة الغرب او التغرب ارادوا لمذاهب النقد الادبي الواقدة ان تكون معياراً للادب العربي، وعندما طبقت هذه المذاهب على الادب العربي جاءت ظالمة جائرة عليه وكانت في نفس الوقت عاجزة عن استيعاب ابعاده، وقد تركت هذه المذاهب المجلوبة اردء الاثر في الانتاج الادبي ذلك انها قلبته عن ذاتيته ومضامينه الجوهرية بل جعلت غير قليل من هؤلاء الخاضعين لافكار المستشرقين ينظرون الى ادب امتهم نظرة ازدراء او سخرية، وان حسنت فهي نظرة عطف وشفقة والواقع ان الادب العربي وهو قطعة مستمدة من الفكر الاسلامي والحياة المسلمة لم يكن اقل قدراً من ادب اليونان او الادب الفرنسي الذي ازدهى به هؤلاء الادباء وافتخروا به. ان الادب العربي وليد التوحيد والاصالة والصدق في الوجود في حين يمثل الادب الغربي امتداداً للوثنية اليونانية والرومانية بكل مشاكلها وملابساتها الغربية.
لا ريب ان المذاهب الادبية والنقدية الغربية قد اعتمدت في الاساس على منهج ارسطو في الادب وما يتصل به من مفاهيم في النقد والشعر والمنطق وانها قد امتدت شأن الادب الاوروبي نفسه الذي ارتبط بالادب الاغريقي اصلاً امتدت الى مدرسة النفس ومدرسة الاجتماع.
المدرسة النفسية التي وضع اسسها فرويد اليهودي والمدرسة الاجتماعية التي اقام بناءها اليهودي الآخر دوركاين، المنهج الاجتماعي الذي كان ابرز مناهج النقد الادبي انما كان يقوم على مفاهيم دوركاين اليهودي الاصل الماركسي الثقافة المادي النزعة. وقد استمدت نظريات تين وسان فيس التي اغرقت الادب العربي استمدت مفاهيمها من الفلسفة المادية‌ الداروينية التي ترى ان الانسان بمواهبه ومعنوياته ما هو الا اثر من اثار البيئة بمعناها الاجتماعي الواسع وانه لا يكاد يفترق عن الحيوان والنبات في انعدام الارادة، هذا فضلاً عما اثبته تين من ان الفضيلة والرذيلة ليستا الى حد كبير الا نتاجاً لعملية تلقائية مثل الاحماض والقلويات وانها منتوجات مثل الزواج والسكر، يضاف الى هذا اثر نظرية‌ النشؤ والتطور الدارويني الواضحة الاثر في هذه المذاهب الادبية والتي تنكر انسانية الانسان وارادته وقيمه الوجدانية والروحية وتشبهه بالحيوان الذي لاحول له ولا قوة والتي تنظر اليه على انه شيء تافه جداً في الكون وانه تحت رحمة القوى المحيطة به ومن ثم فأن الانسانية عندها ليست الا نتاجاً عارضاً للوراثة والبيئة.
يرى الباحثون ان تين قد اشتط في مناهجه المادية في مفهوم النقد الادبي وجره هذا الشطط الى ان غدا من رواد الحتمية التاريخية او الجبر التاريخي وهذا هو المذهب او المنهج الذي قدمه في الجامعة المصرية كل من المستشرقين نيلينو واكازنوفو وهو الذي احتذى حذوه طه حسين وحاول تطبيقه في رسالته عن ابي العلاء المعري اول رسالة دكتوراه في الجامعة المصرية.
اذن هذه المذاهب الادبية على هذا النحو تبدو معارضة لمفاهيم الادب العربي وقيمه معارضة صارخة ويبدو مدى الخطر الذي وقع فيه الادباء والنقاد العرب حين اعتمدوا مباديء النقد الادبي هذه، ووضعوا النتاج الادبي العربي القديم والحديث داخل اطارها المادي المشوه الممسوخ، وقد اشار الدكتور محمد مندور في بحثه عن المنهج التاريخي في دراسة الادب الى ارتباط هذا المنهج بنظرية داروين حين قال: «ان نظرية داروين عن التطور واصل الانسان التي قصرها صاحبها على الاجناس الحية لم تلبث ان امتدت الى الاجناس المعنوية فطبقها الفيلسوف درندر على مباديء الاخلاق ثم جاء فرديناندر ونتز الناقد الفرنسي فأخذ يطبق نظرية داروين على الاجناس الادبية».
هذا النص يؤكد ان مذاهب النقد الادبي العربي الحديثة على اساس مخالف ومعارض تماماً لمضامين الادب العربي الذي يقوم على اساس وثيق من ارتباط المادة والروح معاً والذي يستمد مقوماته من التوحيد الذي هو اساس لمقومات الفكر الاسلامي ومن القرآن الكريم الذي هو اساس الادب العربي في اسلوبه وفي مضامينه.
في العصر الحديث جرت محاولات لا غراق الادب العربي في مناهج النقد الاوربي من قبل بعض الادباء الذين تولى اعدادهم وتصديرهم قادة التغريب والغزو الثقافي من خلال حركة التبشير والاستغراق، ومن هنا دفعوا هذه المناهج من مختلف الجوانب ووضعه قاعدتهم الاولى على اساس فصل الادب عن الفكر الاسلامي وفصل اللغة عن القومية والاسلام وهي النظرية الفاسدة الضارة التي اذاعها التالف طه حسين في كتابه الشعر الجاهلي والادب العربي من خلال دراساته في كلية الاداب في الجامعة المصرية حيث يقول «يجب ان نستقبل البحث في الادب العربي وتاريخه وان ننسى قومياتنا وكل مشخصاتنا وننسى ديننا وكل ما يتصل به وان ننسى ما يضاد هذه القومية وما يضاد هذا الدين، يجب ان لا نتقيد بشيء ولا نذع بشيء الا مناهج البحث الغربي» وهكذا يا اخي دعا قادة حركة التغريب الى نسيان القومية والدين وفتح الطريق امام عمله الخطير الذي احدث ابعد الاثار حين قال انه سيجتهد في دراسة الادب غير مكترث بتمجيد العرب وغير مكترث بنصر الاسلام.
وقد ارتفعت الصيحات منذرة بخطر هذا المنهج المشبوه واعلن عدد من اساطين الادب والفكر ان الادب العربي لا يطمأن الى هذه المقاييس النقدية الضائعة في الاداب الاجنبية، ودعوا الى الاحتياط في تطبيق قواعد النقد الاجنبي على الاداب العربية لبعد ما بين الادبين بعداً زمانياً ومكانياً ومضونياً وقالوا انه اذا كان لابد من الانتفاع بجهود الغربيين فلنأخذ من اصول النقد القوانين عنه التي هي في الحقيقة مشاكل فلسفية عامة، ولا شك ان الارتباط في الادب العربي والمنهج الغربي قد ابعد الادباء العرب عن الاصالة والصدق ذلك انهم قد غرقوا في مفاهيم وقيم الادب الغربي فصدروا عنه في كل كتاباتهم عن الادب العربي وعن الفكر الاسلامي ايضاً، فهم قد تعرفوا الى الادب العربي ودرسوه من داخل اطار المفاهيم الغربية المادية التي كونت الارضية الاساسية لعقلياتهم وفكرهم وعقائدهم، ومن هنا سيطر المنهج النفسي على دراسة العقاد لابن الرومي وسيطر المنهج الاجتماعي على دراسة طه حسين للمتبني فهما لم يدرسا الرجلين من خلال منطلق عربي وارضية اسلامية قوامها جو اسلامي في بيئة عربية بل من خلال مذاهب افادها الغرب المادي الوثني الاصل،‌ وهي في ذاتها نظريات افتراضية خاضعة للخطأ والصواب اضافة الى فواصل البيئات والمفاهيم والمزاج النفسي والاجتماعي المتباين بين المسلم العربي والاوروبي.

*******

 

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة