في أعماق الأرض، في كهوف غامضة بعيدة تماما عن أيدي البشر، كانت لتلك الكهوف طرقها الغريبة والخاصة لتسجيل الوقت مع مرور الزمن.
داخل هذه الكهوف يوجد ما يميزها بشدة، إنها الصواعد (stalagmites) والهوابط أو النوازل (stalactites)، أو الأعمدة الصاعدة والمتدليات. والتي تنمو ببطء شديد. يقدر معدل تنامي المتدليات بـ0.13 مليمتر في السنة، ويمكن أن يصل معدل تناميها إلى 3 مليمترات في السنة.
الصواعد والهوابط
تتكون الأعمدة الصاعدة من كربونات الكالسيوم التي تتراكم على أرضية الكهف من جراء تقاطر المياه المعدنية عبر زمن طويل. كما تتشكل الهوابط التي تتدلى من أسقف الكهوف الرطبة، بطريقة تكون الصواعد نفسها. ويعتمد لون كل منها على نوع المعادن الخام التي تدخل في التكوين الحجري للكهف.
تكون الصواعد والهوابط تشكيلات جميلة تجذب السياح لمشاهدتها، إلا أنه لا تجوز ملامسة تلك التشكيلات باليد لأن العرق والدهون يعطل ترسيب الماء عليها، وقد يغير أيضا من لونها. وتبلغ أطوال بعض هذه الصواعد 62 مترا كما هي الحال في كهف سويبا سان مارتين بكوبا.
يبدأ كل متدل بتقاطر نقطة واحدة من الماء المحمل بالأملاح المعدنية ثم نقطة ثانية ثم ثالثة وهكذا في المكان نفسه، وعند تساقط النقط فإنها تترك عالقا رقيقا من الكالسيت. وتشكل كل نقطة متساقطة أخرى حلقة أخرى من الكالسيت.
وبتتابع تساقط الماء وترسب الكالسيت يتكون الشكل المخروطي المعهود للمتدليات. وتتساقط قطرات الماء نفسها من المتدلي على الأرض مكونة صواعد مخروطية تنتصب على الأرض، ومع الوقت قد تكبر تلك الصواعد مكونة أعمدة متراصة.
حاول العلماء من قبل اكتشاف مقدار الماضي القديم المدرج في هذه التكوينات الموجودة تحت الأرض، مثل حرائق الغابات القديمة وغيرها من الكوارث والأزمات الطبيعية. إلا أنه في دراسة جديدة منشورة في (Reviews of Geophysics)، وجد الباحثون ما هو أكثر من ذلك.
فقد وجد الباحثون، بقيادة عالم الكيمياء الجيولوجية آندي بيكر من جامعة نيو ساوث ويلز في أستراليا (UNSW in Australia)، أن الصواعد لا تسجل فقط الحالات الدراماتيكية للأحداث المناخية المفاجئة والمتطرفة، بل تعمل أيضا كحافظات زمنية طبيعية، وتؤرخ مرور الوقت بشكل ثابت في طبقات الصخور المتكونة.
يقول بيكر في التقرير المنشور على موقع ساينس ألرت (Science Alert)، "يُظهر تحليلنا العالمي الجديد أنه يمكننا اعتبار نمو الصواعد على أنه مثل بندول السرعة الثابت جدا على مدى مئات وآلاف السنين".
ويضيف "بشكل عام، يمكن التنبؤ بنمو الصواعد، وهذه الخاصية الفريدة هي التي تجعلها ذات قيمة كبيرة للباحثين، فيمكنك معرفة الوقت في الماضي باستخدام حلقات النمو المنتظمة جدا الموجودة على نطاق واسع في جميع أنحاء العالم".
قام بيكر وفريقه خلال دراستهم بتحليل الصواعد من 23 كهفا عبر 6 قارات، بحثا عن أي آليات مشتركة قد تفسر تطورها. ووجدوا أن معدلات نمو الصواعد زادت تماشيا مع درجات الحرارة الأكثر دفئا، وأن التكوينات يبدو أنها تنمو فقط في المناطق ذات الأمطار الموسمية.
في حين أن العديد من الاضطرابات المناخية يمكن أن تؤثر على طرق نمو الصواعد، فبمجرد أن تتجاوز هذه الاضطرابات الشديدة، يكون معدل النمو بمرور الوقت شائعا ومتسقا نسبيا في جميع أنحاء العالم. يقول بيكر، إن متوسط ارتفاع الصواعد العالمية قد زاد بحوالي متر واحد على مدى 11 ألف عام ماضية.
تنمو الصواعد عموما بطريقة منظمة، تماما مثل حلقات الأشجار، باستثناء الحالات التي تظهر فيها الاضطرابات طويلة الأمد والمتعددة السنوات، مثل السنوات الرطبة أو الجافة الطويلة المرتبطة في السجل بأحداث مثل إلنينيو أو أحداث النينيا.
وعندما تنتهي هذه الاضطرابات وتمر، فإن طبقات نمو الصواعد تعود إلى إيقاعها المعتاد، متسقة مع الرطوبة التي تنزل عليها من الأعلى.
وقد أكد الباحثون في ورقتهم البحثية أن "معدل تراكم الصواعد لا يتغير نسبيا بمرور الوقت، لأن مصدر الماء بالتنقيط لديه ما يكفي من الحجم والتركيب الكيميائي المستقر ليكون عازلا للتغيرات السريعة".
لهذه الأسباب، يقول الباحثون إن الصواعد لديها الكثير لتعلمنا إياه عن التسلسل الزمني للماضي القديم، بأرشيف واسع من البيانات الوسيطة المتعلقة بالمناخ التي بدأنا للتو في استكشافها.