لقد كان أبو طالب سيّد قريش وشيخ بني هاشم ؛ وكان له حق مشروع في الدفاع عن النبيّ محمد ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ في منطق النظام الإجتماعي السائد في تلك الأيام، حيث إنه كان يعتبر النبيَّ ابناً له. والمرء يمكنه الدفاع عن ولده في ذلك النظام بكل أسلوب وفي جميع الأحوال حتى ولو كان ابنه خارجاً عن طريقة أهل البلاد ودينهم.
فموت أبي طالب وخديجة كان بمثابة هدم حصن حصين ذي ركنين ثابتين بالنسبة إلى النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ في تلك الظروف، ولذلك سميت تلك السنة بعام الحزن. وحيث اشتدّ فيه حزن النبيِّ وتاثره بموت حامِيَيهِ والمدافعين عن دعوته ورسالته. وكان ذلك بين العام السابع والثامن من البعثة.
واشتدت الأزمة بالنبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ بعد وفاة أبي طالب. لأن قريشاً أجمعت أمرها على سحق المسلمين ومحق الدعوة الإسلامية، فقامت بضغط عنيف على المسلمين، وبأذىً كثير للنبيِّ ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وحاولوا مراتٍ عديدةً قتله إلاّ أنَّ الله منعه منهم. فأخذ النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ يعدّ تدابير لهذه الأزمة المحيطة به وبالمسلمين.. فبالنسبة إلى المسلمين أمرَهم بالهجرة إلى الحبشة.. وقد تمت هذه الخطة بترحيل طائفتين كبيرتين منهم إليها عن طريق البحر، فتخلصوا من شرّ الكفار وكيدهم، وقد آواهم ملك الحبشة. وأكرم وفادتهم.
وأما بالنسبة إليه نفسه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ فقد ذهب إلى الطائف - وهي مدينة قريبة من مكة تقطنها ثقيف القبيلة الكبيرة - لعله يستطيع أن يهدي أهلها فيمنعوه من قريش. بيد أن هذه الخطة لم تحظ بنجاح، فقبيلة ثقيف لم تقبل الإسلام، بل سلّطت سفهاءَها وجُهَّالها على النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ فآذوه شر أذية وأرسلوا إلى مكة ينقلون إلى قريش قصة دعوته لهم إلى الإسلام، فاستعدت قريش له من جديد، فلم يأمن النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ يومئذ على نفسه من الرجوع إلى مكة بصورة عادية، فاضطرّ إلى أن يراسل بعض سادات قريش ورؤسائها يطلب منهم أن يجيروه من قريش، فأجاره واحد منهم حتى جاء إلى مكة تحت حمايته.
وعرف النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ أخيراً أن أهل مكة لايمكن أن يكونوا الحاملين للرسالة الإسلامية المقدسة إلى الآفاق، لأنَّ دعوته الملحَّة المستمرة التي ظلت فيها زهاء عشر سنوات لم تجده نفعا أبدا، ولم تُنتج غير اصرار من الكفار وعناد بالغين.
فصمَّم على نشر الدعوة بين سائر القبائل العربية الأخرى، فإذا استطاع أن يهدي قبيلة واحدة ذهب إليها وظلّ ينشر نور الإسلام من خلال أفرادها. فأخذ يدعو الناس في المواسم التي كانت العرب تتدفق فيها على مكة لغرض العبادة أو التجارة فيذهب إلى القبيلة ويقول لها :
" يا بَني فلان : إني رسول الله إليكم، وأنا آمُركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه من هذه الأنداد، وان تؤمنوا بي وتصدقوني وتمنعوني حتى أبيِّن عن الله ما بعثني به ".
وكانت قريش ترسل وراءه من يعقّب على كلامه بتحذير العرب من طاعته، وتهجّن دعواه، وكان عمّه أبو لهب يتولى هذه المهمّة في أغلب الأحوال.
أما القبائل العربية فكانت تتعصّب لآلهتها المزعومة، وتؤثر البقاء على تقليد الآباء. كما كانت تحذر من قريش إذ لو كانت تُسلم لكانت تتعرض لحرب قريش قطعاً. فكانت تردّ النبي ولا تقبل دعواه وتردُّه إما ردّاً جميلاً أو قبيحاً.
إلاّ أن قبيلة واحدة استجابت إلى دعوة النبي(صلى الله عليه و آله)، تلك كانت القبيلة العربية الساكنة في يثرب، والتي كانت منقسمة إلى طائفتين. الأوس والخزرج، وكانت الحرب بينهما قائمة على أشدها، وكانوا قد ملّوها.
نعم، استجاب أهل يثرب إلى قول النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وقبلوا دعوته. وبذلك أخذ الإسلام ينتشر في المدينة " يثرب " انتشار الضياء بعد ليل طويل.
وتمّت بيعة مسلمي المدينة الثانية مع محمد ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ في العقبة بمنى في السنة الثانية، وتمت بها الاتفاقية العسكرية بين النبي وأنصاره من أهل المدينة. وكان اللازم بموجبها على المسلمين من أهل المدينة الدفاع عن النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وعن سائر المسلمين من أتباعه بكل ما لديهم من قوى حربية.