في الحلقة السابقة حدثنا عم سعيد ان اخاه جاءه يوماً ليخبره وبقلق بالغ بتغييرات طرأت على سلوك ابنه سعيد جعلته ينطوي على نفسه ويهمل دراسته وعلاقاته الاجتماعية والاسرية، ثم طلب منه ان يتدخل في الامر لمكانته في قلب سعيد ويقنعه بالذهاب الى الطبيب لمعرفة تلك التي اوجدت هذه التغييرات وسببت ذبول هذا الفتى اليافع، ولكن العم عندما التقى ابن اخيه وسمع حديث قلبه ادرك ان علته ليست بدنية عرف ان هذا الفتى يرنو حقاً الى الآفاق العالية والاهداف الانسانية السامية وقد نفذت الى اعماق وجوده ان الحياة الدنيا مزرعة للاخرة حيث الحياة الحقيقية الخالدة، وادرك ان وسيلته لذلك هي العبادة والدين لكنه اوغل في الدين والعبادة بغير الرفق فغاب عنه ان وصايا اطباء الارواح ائمة الهدى عليهم السلام امرتنا بان نتوغل في الدين برفق لانه متين وغاب عنه ايضاً ان العبادة ذات معنى واسع يشمل جميع حركات الانسان وسكناته حتى مانسميه ترويحاً ونزهة بشرط ان يكون القيام بها بدافع الهي ونية صالحة طاعة لله عز وجل فيما امر وهذا ماهدتنا اليه كلمات الائمة الهداة عليهم السلام.
يتابع عم سعيد حديثه عن قصة ابن اخيه فيقول بعد ايام قلائل من لقائي بسعيد جاءني اخي مستبشراً هذه المرة لقد زال عنه غمام القلق الذي استحوذ عليه في المرة السابقة شكرني بعواطف جياشة ثم قال: لقد اعدت الي ولدي الذي اعرفه بل عاد الى افضل مما كان عليه سابقاً تخلى عن ذلك الانطواء والعزلة التي تقوقع فيها شهوراً طويلة عادت الى محياه الاشراقة التي عهدتها فيه وعاد كما كان يتفجر حيوية ونشاطاً في دراسته وعلاقته معنا.
لم استغرب مما قاله اخي فقد كنت واثقاً من ان العلاج الذي قدمته له علاج ناجح بلا ريب فلم يكن من عندي بل هو من نفحات اطباء الارواح الادلاء على الله عليهم السلام فشكرت الله تعالى على توفيق نقل تلك الوصفة النبوية الى ذلك الشاب الذي كان في امس الحاجة اليها، ولم استغرب ايضاً من التحسن السريع في حال الفتى فقد رأيت بوادره وعلائمه في الوقت نفسه الذي كنت اتلو فيه عليه تلك الاحاديث الشريفة النورانية ولكن الذي أثار استغرابي حقاً هو ما قاله اخي في تتمة كلامه السابق.
خفت بريق السرور في عيني اخي وحل محله شيء من علائم القلق وعدم الارتياح وهو يقول في تتمة حديثه عن ولده سعيد ولكني لاحظت ظهور حالة من الفتور في اهتمامه بامر عباداته لقد كان في السابق اشد حرصاً عليها مما هو عليه اليوم، اثار كلامه بعض القلق في نفسي انا ايضاً وخشيت ان يكون ما قلته لسعيد قد جعله يتهاون في امر الفرائض العبادية فينتقل من الافراط والتفريط وكلاهما ابتعاد عن الجادة الوسطى فسألت اباه عن ذلك فاجاب: كلا كلا ليس الامر كما ظننت انه ملتزم بالصلاة بل وفي اول وقتها مثلما كان حاله سابقاً وله في الاسبوع يوماً يصومه تطوعاً ويؤدي نوافل اخرى ولكن اقل مما كان يعمل في السابق ولذلك اخشى ان يؤدي ذلك الى اضعاف اهتمامه بها لاحقاً.
زال القلق من نفسي بعد الجواب الذي سمعته من اخي ورأيت فيما ذكره علامة اخرى من علائم استعادة سعيد لصحته وسلامته الروحية وان الاحاديث التي تلوتها له قد نفذت الى قلبه وظهرت على سلوكه فاخذ يوغل في الدين برفق ويرقى معارج القرب الالهي والكمال المنشود درجة درجة، ولكني احسست بالقلق الذي يشعر به اخي على ابنه وتذكرت ما قال ابونا لنا: أي لي ولاخي قبيل سفرنا الى العاصمة حيث قبلنا في احدى جامعاتها خاطبنا يومئذ بكلمات ملؤها الطمانينة والثقة التي نفذت الى قلوبنا مع تلك الكلمات يومها قال لنا ابونا: ما اطلبه منكم احبائي ان تكون دراستكم في الجامعة لله وان تجتهدوا فيها لذلك اذ ترونها وسيلة لخدمة عباده وما اطلبه منكم احبائي ان تحافظوا على الفرائض والصلاة اول وقتها وماعدى ذلك فهو تطوع ونافلة اقيموها كلما وجدتم في انفسكم اقبالاً عليها ففيها خير كثير.
عرف اخي مقصودي من نقل هذه الكلمات عن ابينا الذي كان شديد الالتصاق باحاديث اهل البيت عليهم السلام فقد اجابني بابتسامة تكشف عن ذلك وعن زوال قلقه ثم قال: ان الحب لخير ابنائنا وصلاحهم يدفعنا احياناً الى اهتمامنا بتوضيح الهدف السامي اليهم دون ان ندلهم على الطريق السوي اليه وقد نستعجل منهم التحرك السريع فنبعدهم عن الهدف الذي نريد منهم الوصول اليه يسرنا ان نراهم يقبلون على ما لا يطيقون مما نحب ونغفل عن عواقب هذا التوغل في الدين بلا رفق على تواصل سيرهم في الصراط المستقيم.
عند هذه الكلمات من حديث اخي تذكرت ما نقله السيد حسن الخميني عن جده الامام العارف روح الله الخميني قدس سره الشريف لقد سمع ان حفيده السيد حسن ملتزم باقامة صلاة الليل رغم انه صبي صغير فاستدعاه وامره بترك صلاة الليل.
اجل امر الامام حفيده بترك صلاة الليل التي لم يتركها هو طوال قرابة ستين عاماً وفي اصعب الظروف لكنه امر حفيده الصبي الصغير بتركها جهزه بمنهج عملي مناسب له قال له: اترك الان صلاة الليل ولكن قم بدل ذلك بثلاثة اعمال اقم الصلوات اليومية في اول وقتها واقرأ دروسك جيداً ثم العب.
*******