بلغت الفاقة ببطل قصتنا أشدها يوم لم يبق معه سوى ما يشتري به رغيفي خبز يأكل في الصباح أحدهما وفي مسائه الثاني، فلا طعام له غيرهما وكانت تلك أحدى الأزمات الحادة التي أعتاد أن يمر بها في تلك السنين التي قضاها في جوار حرم أمير المؤمنين (عليه السلام) لكنه تحمّل صعابها رغبة في هذا الجوار وفي الانتفاع من محضر أحد العلماء الربانيين هو السيد علي القاضي!
وقد عرفنا من قصة الشاب أنه وفي طريق توجهّه الى محل درس إستاذه السيد العارف القاضي اعترض طريق فقير أنهكه الجوع فرّق له وأعطاه قيمة أحد الرغيفين بعد صراع مرير مع نفسه التي كانت تأبى مطاوعته، ولكن المفاجأة كانت عندما حضر درس إستاذه القاضي فدخل في وسط الدرس مسكين فاختار الاستاذ هذا الشيخ من بين كل الحاضرين ليطلب منه ما يعطيه لهذا المسكين فأعطاه ما تبقى عنده.
إشتد به الجوع في ليلته تلك التي قضاها في صراع إشتد هو الآخر من نفسه مع إشتداد الجوع أمعنتْ نفسه في معاتبته على ما فعل، فنهاها عن إساءة الظن بربّها وذكرّها بنعم الله عليه ومنها نعمة الفوز بمثل هذا الاستاذ الصالح السيد علي القاضي، وهذا قفز في ذهنه سؤال وجد له صدىً قوياً في قلبه فماذا كان سؤاله؟!
قال الفتى مسائلاً نفسه: لماذا اختارني السيد القاضي من دون تلاميذه الآخرين ليطلب مني انا بالذات ما يعطيه لذاك المسكين؟ لا اشك بانه يعلم بفقري وقلة ذات يدي وان لم اخبره بذلك، فلماذا اختارني انا بالذات؟ اتراه كشف له الغطاء او علم بفراسة الايمان ما انا فيه من ظلمة سوء الظن بربي فاراد انقاذي منها ونقلي الى نور الثقة بما عند خير الرازقين فعرضني لهذا الابتلاء.
عندما وصل سيل الاسئلة في ذهن الفتى الى هنا انقطع فجأة عندما سمع طرقات على باب حجرته نهض ليفتح الباب مستغرباً اذ لم يألف زواراً في مثل تلك الساعة من المساء يسائل نفسه عن هوية القادم فيما لم تطل حيرته كثيراً فعندما فتح الباب وجد استاذه السيد علي القاضي امامه يستقبله بوجه يطفح بالبشر وهو يحمل تحت عبائته وعاءً تفوح منه رائحة زكية سلم عليه بمودة ثم قال له: هل تأذن لي بان اكون شريكاً لك في تناول طعام العشاء؟
ثم اخرج الاناء وكان فيه رز مع ماش ولحم لم يطعم الفتى منه شيئاً منذ امد طويل، وجد الفتى في قبه ونفسه لذة نادرة وهو يتناول هذا الطعام الشهي مع استاذه اكل منه حتى شبع ولكنه كان يحمل سؤالاً يتلجلج في صدره فلم يكن يخفى عليه حال استاذه السيد القاضي كان هو ايضاً يعيش شظف العيش وفقراً مدقعاً مع عائلة كبيرة ولم يكن يخفى عليه ان السيد يبذل جل ما يأتيه في اعانة الآخرين فمن أين جاء بهذا الطعام الشهي؟!
ومرة اخرى انقطع حبل اسئلة الفتى على صوت استاذه وهو يخاطبه: أين الشاي يا ولدي؟! الا تنوي تقديمه لنا؟! سارع الفتى الى اعداد الشاي وقدمه للسيد فشرب منه فنجاناً واحداً ونهض وذهب بسرعة وكأنه كان مكلفاً بمهمة انجزها وعليه ان ينصرف! انصرف السيد وترك الشيخ غارقاً في بحر اسئلته باحثاً عن اجوبة لها فهل تراه يجد لها جواباً في غير القاعدة القرآنية: «وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ».
*******