البث المباشر

أدب الخواطر

الإثنين 12 يوليو 2021 - 16:14 بتوقيت طهران
أدب الخواطر

إذاعة طهران-أدب الإمام العسكري:


الخاطرة الآتية - وهي تتحدث عن الشرائح الاجتماعية من حيث موقفها من امامته (عليه السلام) - تكشف لنا عن جانب آخر من (نسبية) عناصر الفن التي تفرضها سياقات فكرية خاصة.
يقول (عليه السلام): «انما خاطب الله عزوجل العاقل...، الناس في طبقات شتى، والمستبصر على سبيل نجاة، متمسك بالحق، متعلق بفرع اصيل، غير شاك ولا مرتاب، لا يجد عنه ملجأ، وطبقة لم تأخذ الحق من اهله فهم كراكب البحر يموج عند موجه ويسكن عند سكونه، وطبقة استحوذ عليهم الشيطان، شأنهم الرد على اهل الحق ودفع الحق بالباطل: حسداً من عند انفسهم، فدع من ذهب يميناً وشمالاً فالراعي اذا اراد ان يجمع غنمه جمعها في أهون السعي... واياك والاذاعة وطلب الرئاسة» (۲)...
فالملاحظ في هذه الخاطرة انها (مكثفة) بأدوات الفن بحيث لا تكاد فقرة منها تخلو من عنصر صوري ملحوظ،... فالطبقة الأولى صاغها النص في صور (استعارية) و(تمثيلية) من نحو: (المستبصر على سبيل نجاة) (متمسك بالحق) (متعلق بفرع أصيل) (لا يجد عنه ملجأ).
والطبقة الثانية: صاغها في صورة (تشبيهية) ذات طابع استمراري، أي: صورة ذات تفريع (فهم كراكب البحر، يموج.. الخ)، والطبقة الثالثة: صاغها مترسلة، الا انه وشحها بعنصر لفظي تعويضاً عن الصورة... ثم شحن المقطع الاخير من هذه الخاطرة بعنصر صوري مدهش هو: الرمز والاستدلال (فدع من ذهب يميناً وشمالاً) - رمز، (فالراعي اذا اراد ان يجمع غنمه جمعها في اهون السعي)- استدلال،... ان القارىء ينبهر مندهشاً دون ادنى شك حينما يلاحظ ان الامام (عليه السلام) يقدم في هذه الخاطرة نصاً فنياً مشحوناً بعناصر فنية مكثفة التكثيف، في حين يقدم (عليه السلام) في نص أسبق (الرسالة) نصاً يتأرجح بين الترسل والصياغة الفنية، ثم يقدم في نص ثالث: لغة مترسلة خالية من اية أداة صورية او ايقاعية: كل ذلك حسب ما يستدعيه السياق - كما كررنا،... ومادمنا قد اثبتنا هذه الخاطرة الفنية، حينئذ يجدر بنا ان نقف على بعض عناصرها الصورية وملاحظة سياقاتها الفكرية التي استدعت مثل هذا التوفر على الفن الجميل... لنلاحظ مثلاً ختام المقطع الذي توجه به الى مخاطبه: «فدع من ذهب يميناً وشمالاً، فالراعي اذا اراد ان يجمع غنمه: جمعها في أهون السعي، واياك والاذاعة وطلب الرئاسة»... ان هذا المقطع يتضمن - كما قلنا- صورة (رمزية) هي: (فدع من ذهب يميناً وشمالاً) حين يرمز باليمين والشمال الى الطبقة المتأرجحة التي شبهها سابقاً براكب البحر: يموج عند موجه، ويسكن عند سكونه... واهمية هذا الرمز تتمثل في كونه يجسد وحدة عضوية تربط بين الصورة التشبيهية (كراكب البحر) وبين الصورة الرمزية (يميناً وشمالاً)....
ومن الواضح، ان من اهم وابرز نجاح النص الفني هو: خضوعه لبناء هندسي محكم تتلاحم وتتنامى جزئياته بعضاً مع الآخر على العكس من النص الذي تتردى كل صورة فيه واد، بحيث تنفصل صور التشبيه عن الاستعارة، والرمز عن الاستدلال، وتصبح كل صورة مستقلة عن الأخرى، في حين نجد ان النص المتقدم جسد صورة موحدة عضوية‌ تترابط فيما بينها، فصورة الرمز (اليمين والشمال) ارتبطت بسابقتها (كراكب البحر يموج عند موجه، ويسكن عند سكونه)... كذلك نجد الصورة الاستدلالية (فان الراعي اذا اراد ان يجمع غنمه...) مرتبطة بسابقتها حيث جاءت في سياق اختلاف الطوائف الاجتماعية فيما بينها من جانب واختلاف الطائفة المحقة ايضاً من جانب آخر، حيث اشار (عليه السلام) الى امكانية ان يجمع الراعي غنمه متى شاء في غمرة مطالبته (عليه السلام) بأن يترك (صاحبه) من ذهب يميناً وشمالاً، ويتجه الى الطبقة المستبصرة، المتمسكة بالحق، المتعلقة بفرع الأصل...
وهكذا يكون النص قد ربط عضوياً بين الصور الفنية التي وصلت ايضاً بين موضوعات النص الثلاثة: أي، الطبقات التي صنفها الامام (عليه السلام): المحقة والباطلة، والمتأرجحة... لكن خارجاً عن البناء الفني للنص نجد ان الكثافة الصورية فيه قد فرضها سياق خاص هو: هذا التفاوت بين الطبقات الثلاث، حيث يتطلب توضيحها عنصراً صورياً مكثفاً يتناسب وكثافة التفاوت بين هذه المستويات الفكرية لدى الناس، فالمستبصر مثلاً - وهو ما ينبغي ان يتجه الى الامام (عليه السلام)- لابد ان يرتبط فكرياً بمبادىء النبوة ثم العترة غير المنفصلة عنها، وحينئذ، فان هذا الارتباط بين النبوة والعترة وامتداداتها يتطلب عنصراً رمزياً مثل قوله (عليه السلام) عن هذه الطبقة (متعلق بفرع اصيل) لأن الاصل والفرع (رمزان) للارتباط الفكري المذكور،.. كما يتطلب عنصراً استعارياً مثل (متمسك بالحق) او عنصراً تمثيلياً مثل (لا يجد عنه ملجأ) نظراً لكون هذا الارتباط هو توجه نحو الحق، ولكون الامام (عليه السلام) تجسيداً لذلك الحق، فلزم ان تكون الصورة (تمثيلية) تجسم (الملجأ) الذي يتجه اليه الاسلاميون...
والأمر نفسه بالنسبة الى الطبقة المتأرجحة، فبما ان هذه الطبقة لم تأخذ الحق من مصادره الأصيلة، حينئذ تظل في تيه وحيرة نظراً لعدم انتهائها الى شاطىء محدد، وحينئذ لزم ان يشبه موقفها براكب البحر الذي يموجه بموج ويسكن بسكونه...
اذن:‌جاءت الصور الفنية المشار اليها، محكومة بسياقات فرضتها طبيعة الأفكار التي طرحها الامام (عليه السلام) في الخاطرة المشار اليها... وهو امر يمكن ملاحظته في نمط آخر من النصوص التي قدمها الامام (عليه السلام)، ونعني بها:

*******


(۲) البحار: ج٥۰، ص ۲۹٦.

*******

 

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة