ان هذا النص قد اختزلناه واقتصرنا على مقدماته: لتوضيح بنائه اولاً ثم سماته الفنية المتنوعة...
لقد بدأت الخطبة بتمجيد الله تعالى - وهو اسلوب قد اختطه النبي (صلى الله عليه وآله) وفصله الامام علي (عليه السلام)- حيث يلاحظ ان فاطمة (عليها السلام) قد أفادت من جانب: من النبي والامام علي (عليهما السلام) أسلوبياً، واختطت منحىً فنياً خاصاً: من جانب آخر، ... انها تسلسلت موضوعياً من الحمد فالشكر فالثناء على معطيات الله تعالى، ثم صفاته تعالى، ثم نبوة ابيها، فمعطيات ذلك (على نحو ما هو ملحوظ في خطب الامام (عليه السلام))، ثم اتجهت الى الموضوع الرئيس (انتم عباد الله...) وسردت قائمة بالمعطيات النفسية والعبادية من صلاة وزكاة وصوم وحج... الخ، وهكذا وصلت فنياً بين النبوة وبين معطياتها اجتماعياً، ... بين المقدمة وبين الموضوع، فجاءت الخطبة خاضعة عمارياً لخطوط هندسية متواشجة فيما بينها.. واما الادوات الفنية التي توكأت عليها فتتمثل في حشد ملحوظ من العنصر الصوري، وفي عناية ملحوظة بالعنصر الايقاعي، فضلاً عن العنصر اللفظي: من تقابل وتماثل وتتابع وتكرار، وقسم ... الخ.
كذلك نجد ان الخطبة الاولى تحفل لنفس الادوات الفنية في الخطبة الاخيرة، فالعنصر الصوري يمكن ملاحظته في صياغة تتوالى الصور من خلالها حيناً واحدة بعد الاخرى (عائفة، قالية، لفظتهم، عجمتهم، شنأتهم، سبرتهم، قرع الصفاة، صدع القناة، تطفح ضفتاه، لا يترنق جانباه، منهلاً روياً، صافياً روياً، ري الناهل، شبعة الكافل)... الخ، فالصور في الخطبة الاولى تتوالى واحدة بعد الاخرى، .. كذلك في الخطبة الاخرى، فيما يفصح ذلك عن عنايتها (عليها السلام) بهذا العنصر الفني الذي يعمق ويبلور الدلالات، فضلاً عن كونه مؤشراً الى تمكن الشخصية من ناحية الفن على نحو ما كان الامام (عليه السلام) يعنى به ويكثف الخطب والرسائل بالعنصر الصوري المشار اليه...
انها (عليها السلام) تعنى بالصورة حتى في تبيينها لمصالح الاحكام الشرعية، فالايمان: تطهير، والصلاة: تنزيه، والزكاة : تزكية ونماء، والصيام: تثبيت، والحج: تشييد، والعدل: تنسيق، والطاعة: نظام ، والامامة: امان ... الخ.
ان هذه التعريفات لمصالح الاحكام صيغت وفق صور تمثيلية كما هو واضح... كذلك عندما تتحدث عن الحالة الاجتماعية لما قبل الاسلام، تتوكأ على عنصر الصورة ايضاً: «فانار الله بابي محمد (صلى الله عليه وآله) ظلمها، وكشف عن القلوب بهمها، وجلى عن الابصار غممها...» كذلك حينما تتحدث عن سمات الشخصية: «لفظتهم بعد ان عجمتهم، وشنأتهم بعد ان سبرتهم، فقبحاً لأفون الرأي..» الخ.
اذن: جاء استخدام الصورة منسحباً على مختلف الصعد كما لحظنا، مثلما جاء متنوعاً يتوزع بين الاستعارة والتمثيل وسواهما: حسب متطلبات الموقف، فمثلاً حينما تحدثت عن الأحكام الصلاة، الصوم... الخ، جاءت بالصور (تمثيلية)، لكنها جاءت بالصور (استعارية) في أغلب المواقف، نظراً لكون الاحكام تتطلب بعداً (تعريفياً) بها، أي: تحتاج الى تعريفها وهذا ما يتناسب مع أحد أشكال الصور (وهو التمثيل) مثل: الصبر: معونة، بر الوالدين: وقاية، صلة الارحام: منسأة، الخ حيث ان (التمثيل) هو: احداث علاقة بين الطرفين من خلال جعل احدهما تجسيماً للآخر، وهو ما يتكفل به عنصر (التعريف) بالشيء، فبر الوالدين - مثلاً- هو وقاية، أي: عرفنا البر بكونه وقاية، وهو ما تقوم به عملية (التمثيل) كما هو واضح... المهم، أن عنصر الصورة بعامة، يتنوع تبعاً لمتطلبات السياق، كما انه يتكثف ويقل او ينعدم أحياناً في سياقات لا تستدعي ذلك، ... والمهم - بعد ذلك- هو: أن الصورة تتميز بكونها مركزة، عميقة، مألوفة، ذات اثارة، وطرافة... فمثلاً تقول (عليها السلام) عن الامام علي (عليه السلام): «ولاوردهم منهلاً نميراً، صافياً، روياً، فضفاضاً: تطفح ضفتاه، ولا يترنق جانباه».
ان الصور هنا (مألوفة) أولاً، حيث ان المنهل وصفاءه وفضفضته الخ من الخبرات اليومية التي يواجهها الانسان، ... بالرغم من الفتها ثم بالرغم من تواليها وكأنها متماثلة (روي، صافي، نمير، فضفاض) الا ان كل واحدة من هذه السمات تحمل دلالة خاصة وليست مجرد عبارات او صور مترادفة، فالنمير غير الصفاء، وهما غير الرواء، وهي جميعاً غير الفضفضة، ... وبما انها (عليها السلام) في صدد التعريف بمعطيات الامامة لعلي (عليه السلام) حينئذ لابد ان تتنوع هذه المعطيات بحيث تكون رياً، ونميراً، وصفاء الخ، أي ان دقة المعطيات تطلبت دقة في صياغة الصور «فصفاء» الماء يحقق نوعاً من الاشباع يختلف عن الاشباع الذي يحققه حينما يكون «فضفاضاً» فالحالة الاولى (نوعية) والحالة الاخرى (كمية) كذلك فان المنهل حينما يكون (روياً) يختلف عن كونه (نميراً)، فالنمير هو الزكي من الماء، وأما (الروي) فهو ما يحقق الارواء الكامل للعطش، والاول هو (نوعي) والآخر(كمي) وهكذا...
اذن: جاءت هذه الصور (بالرغم من الفتها) ذات صياغة عميقة ومركزة لا اثر فيها للكلام الزائد على الحاجة وهو امر يتناسب مع الشخصيات المصطفاة التي (تعصم) من خطأ الكلام.. كذلك نجد ان عنصر (الطرافة) مصحوباً بالعمق، يطبع هذه الصياغة الصورية، .. فهي (عليها السلام) حينما رسمت صور المنهل: نميراً، صافياً، روياً، فضفاضاً، اتبعتهما بصورة تفصيلية هي: أن هذا المنهل (تطفح ضفتاه، ولا يترنق جانباه) هذه الصورة: استكمال للصور السابقة وليست مجرد تفصيل لا ضرورة له، بل هي صورة ضرورية لاستكمال المعطيات التي تستهدف (عليها السلام) توضيحها... فالمنهل لا يجسد مجرد تحقيق الاشباع المطلوب (من كونه نميراً او رياً الخ) بل هو يفيض بمعطياته بحيث يحقق المزيد من الاشباع من جانب، وانه يفيض على البشرية جميعاً وليس على احد او طائفة او مجتمع دون سواه من جانب آخر، ليس هذا فحسب، بل ان هذا المنهل يتسم بكونه دائم العطاء، لا انه يتوقف حيناً او يتكدر، انه منهل (لا يترنق جانباه) بعد ان يكون منهلاً (تطفح ضفتاه) ان ضفافه تطفح بالمعطيات، وهذه المعطيات لا تتوقف ولا يصيبها كدر... اذن: كم جاءت هذه الصورة المألوفة جداً، محتشدة بعناصر (الطرافة) و(العمق) و(التنوع)، متجانسة بذلك مع طبيعة المعطيات التي تستهدف (عليها السلام) بأن توضح مستوياتها للقارىء....
وهذا كله فيما يتصل بعنصر (الصورة)...
اما ما يتصل بالعنصر الايقاعي واللفظي، فان السمات الفنية لهذا الجانب نجدها موسومة بنفس الطابع... ففي صعيد «الايقاع» نجد ان العبارات في غالبية الخطب تمضي (مقفاة) من حيث (القرار)، و(متوازنة) من حيث الجمل، و(متجانسة) من حيث الاصوات ... كما انها تخضع من حيث تكثيف الايقاع أو تقليله او عدمه: الى طبيعة السياق الذي يفرض هذا التكثيف او التقليل او العدم، ... لذلك نجدها (عليها السلام) بعد أن حشدت الخطبة الاخرى بمزيد من العبارات المقفاة-، اذا بها تتجه الى العبارة المرسلة حينما تتحدث عن معطيات الاحكام الشرعية (الصلاة، الصوم، الحج، بر الوالدين، صلة الارحام.. الخ) حيث لا نجد حتى جملة واحدة تخضع للعبارة المقفاة، بل تعوض ذلك بعنصر الصورة التمثيلية كما اوضحناه، والسر في ذلك ان (الاحكام الشرعية) مادامت تمثل ظواهر موضوعية: كل واحد منها يحمل دلالة خاصة حينئذ فان هذا التنوع لا يتطلب (وحدة ايقاعية) بل يتطلب (تنوعاً) في العبارة، .. ولذلك جاءت العبارات جميعاً ذات طابع (مترسل) خلافاً لسائر الموضوعات المطروحة في الخطبة، وهذا يفصح عن سمة طالما أشرنا اليها وهي: ان المعصومين (عليهم السلام)، لا يعنون بالاداة الفنية بما هي مجرد اداة، بل يوظفونها من اجل الموضوع، مما يجعل لنتاجهم طبيعته الخاصة المتفردة بالنحو الذي لحظناه.
*******