عندما تتحرك الملايين من الجماهير نحو رحاب كربلاء، وعبر مسيرة كبرى، يتبادر إلى أذهاننا السؤال، كيف نستثمر هذه المسيرة الضخمة في خدمة المبادئ والقيم الرفيعة التي جاء بها ذلك الذي تحركت إليه تلك الجماهير حباً وشوقاً.
والإجابة على هذا السؤال ترتبط بالإمام الحسين عليه السلام نفسه؛ ذلك أن كل تلك التحركات كانت من أجله، فلذلك كان أحسن ما يقدم لها هو القيم الرسالية العظمى التي نهض الإمام (ع) من أجلها، وقد رأينا أنه يمكن اختصارها في أربعة معان كبرى:
أولها ـ الأربعين وتبليغ الدين:
إن تلك المسيرات في حقيقتها نوع من البلاغ العملي للدين، ذلك أن البلاغ الذي ورد الأمر به في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ الله وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا الله وَكَفَى بِالله حَسِيبًا﴾ [الأحزاب: 39] لا يشمل الجوانب النظرية فقط، بل يشمل الحركة العملية أيضاً، والتي تمثلها المسيرات والتظاهرات وما يقام فيها من أنشطة وغيرها.
ولذلك، فإنه يمكن استثمار هذه المسيرات في إيصال الرسالة الإسلامية غضة طرية نقية كما جاء بها رسول الله، وذلك عبر نشر كل ما روي عن أهل بيت النبوة من أحاديث كان للإمام الحسين (ع) دور في تبليغها؛ فالإمام الحسين لم يكن ثائراً سياسياً فقط، وإنما كان قبل ذلك محدثاً وعالماً ومفتياً ومرجعاً كبيراً، لا يمكن لمن يريد أن يبحث عن أصول الدين وفروعه ألا يمر عليه.
وأما الأمر الثاني، فهو التبليغ العملي للدين فقد كانت جميع حركات الإمام الحسين عليه السلام مرتبطة بهذا الدور الرسالي الذي ورثه عن جده وأبيه وأخيه، وأداه مثلما أدوه، حتى استحق ذلك اللقب العظيم الذي استحقوه جميعاً، وهو [القرآن الناطق]؛ فقد كانت سلوكاته جميعاً تعبر عن القيم القرآنية والسلوك الرفيع أحسن تعبير.
والوصايا الكثيرة التي وردت عن رسول الله (ص) تدل على ذلك وتنوه به، وتدعو إلى اعتباره إماماً وسيداً، لأن رسول الله(ص) لا يمكن أن يوصي بمن يرى أنه يمكن أن يزيغ أو يضل، ولو في أبسط سلوك من سلوكاته، فقد كان الإمام الحسين عليه السلام من صغره الباكر يمارس دوره الرسالي عبر سلوكه وأخلاقه وتعليمه العملي للدين.
ثانيها ـ الأربعين ومواجهة التحريفات:
فتلك المسيرات يمكن استثمارها في الاقتداء بالإمام الحسين (ع) في مواجهة التحريفات التي حولت الدين الإلهي الممتلئ بالقيم النبيلة إلى دين بشري ممتلئ بالأهواء والخرافات والضلالات، مثلما قام بذلك سائر الأئمة، لأنها من ضمن المسؤوليات الموكلة لهم.
ومن أهم تلك التحريفات التي ينبغي مواجهتها التحريفات العقدية التي أدخلها علماء البلاط الأموي إلى العقيدة الإسلامية، والانحلال الأخلاقي والفساد السياسي، وغيرها، والتي كان سببها الأكبر الاغترار بالدنيا، والركون إلى أهلها.
ولهذا نرى الإمام الحسين عليه السلام يكثر في مواعظه من التحذير من أصل كل تلك التحريفات، ومثل ذلك مواجهته التشويهات المرتبطة بأئمة الدين، والتي اعتمد فيها على التعريف بفضائل أهل البيت وبيان مكانتهم.
ثالثها ـ الأربعين ومواجهة الاستبداد:
وتلك المسيرات أيضاً يمكن استثمارها في مواجهة الاستبداد بكل أشكاله، والذي مثله الإمام الحسين (ع) خير تمثيل؛ لأنه ضحى بنفسه وأهله وكل ما يملك عبر تلك الملحمة الكبرى ليتحقق انتصار الدم على السيف، ويبقى ما حدث له درسا وعبرة للمسلمين جميعا، بل للعالم أجمع، في أن الإسلام هو دين العدالة.
ولهذا نراه يبشر بالمبادئ التي ضحى من أجلها، حتى يسمع العالم جميعاً عن القضية التي سيتحرك من أجلها؛ لأن مقصوده لم يكن الشهادة في حد ذاتها، وإنما مقصوده كان حفظ الإسلام وقيمه من أن يمسها التحريف الذي يريده الأعداء.
رابعها ـ الأربعين والامتداد الرسالي:
فتلك المسيرات أيضاً يمكن استثمارها في الدعوة لتحقيق الامتداد الرسالي، ذلك أنه لا يمكن لأحد أن يعرف قيمة ما قدمه الإمام الحسين عليه السلام من تضحيات ما لم يعرف الدافع الأكبر لذلك، وهو ليس دافعاً محصوراً في الزمن الذي عاشه، وإنما هو دافع ممتد لكل الأجيال، ليحضرها لأن تصبح أهلا لتلك الصرخة التي صرخها حين قال: (هل من ناصر ينصرنا، هل من معين يعيننا، هل من ذاب عن حرم رسول الله).
فهو لم يقصد بذلك نصرته في ذلك الحين، ولا نصرة شخصه، ولا مواجهة يزيد وحده، وإنما قصد بها نصرة الإسلام الذي انتهض من أجله، ومواجهة يزيد الذي يمثل الاستبداد والظلم في كل العصور.
وصرخته تلك تشبه الصرخة التي نادى بها إبراهيم الخليل، عندما راح يؤذن في الناس بالحج بين الرمال والصخور، وقد شاء الله أن يؤتي ذلك الآذان أكله في الوقت المناسب، كما قال تعالى: ﴿ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾ [الحج: 27]
ولهذا فإن أولئك الذين يضعون ما فعله الإمام الحسين عليه السلام ضمن حسابات الربح والخسارة لم يفهموا حركته أبداً، وكيف يفهمونها، وهم يستعملون عقولهم القاصرة مع الله ورسوله الذي أذن لتلك الحركة أن تكون بذلك الشكل.
ولو أنهم تأملوا في آثارها عبر التاريخ، وكيف أصبح الإمام الحسين عليه السلام رمزاً لا يضاهيه أي رمز في مواجهة الطغيان، وفي انتصار الدم على السيف، لعادوا إلى عقولهم، وعرفوا أن الأمر أكبر من أن يكون تخطيط عقول بشرية، وإنما هي خطة إلهية في مواجهة المشاريع الشيطانية، ولذلك كان المتولي لإخبار رسول الله بما سيحصل للإمام الحسين ملائكة الله، الذين أرسلوا خصوصا ليخبروا بذلك الحدث العظيم الذي اهتز له كل شيء.
ولذلك؛ فإن أهم المعاني في حياة الإمام الحسين عليه السلام، وفي نهضته الكبرى، هي تحوله إلى رمز إسلامي يواجه الطغيان والاستبداد، ويمثل العدالة بأسمى معانيها، ويكون بذلك أكبر مرتكز من مرتكزات تأدية الرسالة، وأكبر دليل على فساد مقولة [الدين أفيون الشعوب].
الكاتبة والباحثة الجزائرية "نورا فرحات"