البث المباشر

جهاد علي الأكبر عليه السلام

الثلاثاء 16 إبريل 2019 - 12:40 بتوقيت طهران
جهاد علي الأكبر عليه السلام

لقد أدى الأنصار أدوارهم على أحسن ما يرام، فمضوا إلى حيث نعم الله ورضوان ربهم وجنان وعدهم إياها، إنه لايخلف الميعاد.

ولم يدع علي واحداً يسبقه، بعد اذ انفرد الإمام وأهل بيته، فكانوا البقية الباقية من الشجرة المحمدية، والوحيدون على وجه الأرض، من آل الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم) فطفق بعضهم يودع بعضاً. ومال أحدهم على الآخر يعانقه بحرارة وشوق.. وصف المؤرخون ذلك المشهد الرهيب واتفقوا على هذا المعنى:

(لما قتل أصحاب الحسين(عليه السلام) ولم يبق معه إلا أهل بيته خاصة، وهم ولد علي بن أبي طالب (عليه السلام) وولد جعفر وولد عقيل، اجتمعوا يودع بعضهم بعضاً، وعزموا على الحرب، فتقدم علي بن الحسين(عليه السلام)، وكان من أصبح الناس وجهاً وأحسنهم خَلقاً وخُلقاً).

أما وداع علي لأهله من النساء كأمه واخواته وعماتهِ لاسيما عمته الحوراء زينب(عليها السلام)، فقد حفل بالآلام والأشجان.. فقد آن فراق ذكرى المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) هكذا شعرن وأحست كل منهن..

ظهر علي بأنه شديد الحرص على السبق للساحة وعلى أن يكون أول ضحية وقرباناً لله سبحانه وتعالى (1).. وهذه الظاهرة تحتاج إلى وقفة... فلا شك أن المسؤوليات الجسام لاتناط إلا بأهلها، وخليق بهم تحمل عبئها وما يترتب عليها من مضاعفات، لأنهم سدنة الرسالة، وحراس المبادئ ذات الأصالة.. فهم لايختارون التأخير عن دورهم، الأمر الذي يفسر حالات التنافس بين الهاشميين والأنصار، وعمليات الرهان على الأسبقية، كما أشرنا حيث حسم الإمام ذلك الموقف لرغبة الأنصار المجاهدين على رضى منه..

أما وأن علياً يسبق اخوته من الهاشميين. فذلك ما يفسره نفس المعنى، فنظراً لكونه نجل الإمام القائد المنحدر من صلبه الشامخ، فهو يشعر بخصوصيته، لا لكي يسلم وينعم، بل لكي يبادر ويعمل ويضحي فيكون المثل الأعلى...

وليس هذا من باب المفاضلة والمكابرة، بقدر ما هو من باب الإيثار، فخليق به أن يتقدم على الجميع مؤثراً سلامتهم وعدم نظرهِ لجراحهم أو مواقع مصارعهم..

ولما كانت القضية قضية الإسلام الحسينية، فلايحسن به أن ينتظر إلى آخر شوط وآخر دور، فهو نجل القائد، ومن باب أولى أن يكون هو المتقدم..

وهكذا يتجلّى علو التربية ورفعة التوجيه وسمو الآداب وجلال التهذيب المتوفر في شخص علي الأكبر... فما كانت تربية أهل البيت تنص على معنى يخالفه عملهم، ليس فيهم قوال غير فعال... وانما جبلوا على ممارسة تطبيقات مقررات الرسالة والدين الحنيف وحتى الآداب والمثل البسيطة والمفاهيم الخلقية العملية..

الإستئذان للنزال

اتجه نحو أبيه الإمام، فاتخذ له موقفاً أمامه، وظل صامتاً مطرقاً برأسه، نظر إليه والده الحسين فأدرك ما يريد، فكل ما ظهر عليه من لامة حربه ومدرعته واسراجه لفرسه يدل على عزمه للمضي على ما مضى عليه من سبقوه، يدل على لهفته لمباشرة الجهاد المسلح..

وراح الحسين ينظر إليه بنظرات ملؤها الرفق والحنان والإشفاق، أخذ يطيل النظر إليه فاتخذت عواطف الأبوة الطاهرة مستقرها بين جوانح الأب العظيم..

دار التفاهم على صعيد الصمت.. وتمّ تبادل البيان من خلال مؤشرات موقف الأشجان.. ولم يكن الفراق عجيباً ولا غريباً، إذا (خط الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة). (لا محيص عن يوم خط بالقلم، رضى الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه فيوفينا أجور الصابرين) كما في خطابه التاريخي بمكة..

ترى هل عز على الحسين فراق حبيبه وريحانته وذكرى رسول الله؟ هل يا ترى يمنعه عن التسرع أو يؤجل دوره إلى حين؟ نعم عزّ عليه ولكنه لايمنعه أو يؤجل جهاده..

عزّ عليه عزاّ لا حد له، بيد أن الحسين يسيطر عليه أمر أكبر وأخطر، ذلك هو عز القضية التي من أجلها نهض بنهضته وصدع بمبدأ الجهاد.. فبعز رسالته هان عليه عزّ الأحبة وآلام الوحدة والغربة.. فالموقف شجي ومحرج لكنه في غاية التحرج في قضية الدين بحيث هونت عليه فقد الحياة وحراجة تقديم البنين..

وأخذت الآهات مأخذها في داخل صدره، وراح ينظر إليه.. إلى أشبه من وطئ الحصى بجدهِ النبي المصطفى.. وأغر ورقت عيناه بالدموع.. وطفق إليه ليضمه ليحتضنه ويلثمه.. ووقف الشباب الهاشمي أمام المشهد الحزين، وقد دام العناق طويلاً.. فماذا تتصور عن عناق صدق الأشواق.. عناق لحظات الفراق.. أجل أنها آخر فرصة لتبادل القبلات المنغصة..

وفهم علي الأكبر، وأدرك من تلك الاجراءات الأبوية أنه لا مانع من خوض غمار الحرب الرسالية فوراً، فمال إلى جواده الذي أعده وأسرجه فامتطى صهوته واتجه نحو تأكيد الحقائق، وراحت عيون الهاشميين ترمقه بحب عظيم واشفاق كبير فكيف بأبيه الحسين الذي أخذت عيناه ترافقه، واستمر يلاحقه بنظراته وتابعه بقلبه البصير الذي يخفق على النهاية والمصير، لهذا الفتى المحمدي، لقد وجدناه يحول طرفه ليرمق السماء وليناجي ربه، رافعاً شيبته الشريفة وقد أرخى عينيه لتسيل الدموع كل مسيل:

(اللهم أشهد على هؤلاء القوم، فقد برز إليهم غلام أشبه الناس خَلقاً وخُلقاً ومنطقاً برسولك محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكنا إذا اشتقنا إلى وجه رسولك نظرنا إلى وجهه...).
(اللهم فامنعهم بركات الأرض وفرقهم تفريقاً، ومزقهم تمزيقاً واجعلهم طرائق قدداً، ولاترضي الولاة عنهم أبداً، فانهم دعونا لينصرونا ثمّ عدوا علينا يقاتلونن) (2).

في تلك الأثناء كان علي(سلام الله عليه)، يبتعد رويداً رويداً متجهاً نحو الحشود البشرية المتراكمة كالغنم النائمة وقد وبخ الإمام، قائد الأعداء، عمر بن سعد بن أبي وقاص، وتوعده مؤكداً له استحالة حصوله على نيل مصالحه من قتال عترة الرسول وإبادتهم وقطع رحمهم، فصاح به:

(ما لَك! قطع الله رحمك ولا بارك الله لك في أمرك، وسلط الله عليك من يذبحك بعدي على فراشك، كما قطعت رحمي، ولم تحفظ قرابتي من محمد رسول الله) (3).
ثمّ حول طرفه إلى ولده الذي دنا من الجيش الهجين وأخذ ينظر إليه، وقد رفع الإمام صوته وهو يتسلى بتلاوة قول الله تبارك وتعالى(4):
إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.
سمع الجميع تلاوة الإمام الحسين سلام الله عليه، سمعوا حقيقة كون علي الأكبر ممن اصطفاه الله سبحانه، وارتضاه، وأنه ماضِ إلى حيث أداء حق الاصطفاء وحق المسؤوليات في ظل العز والإباء..

محاولة أموية لاستمالته

ساد في العصر الجاهلي البائد صراع وخراب أدى إلى سفك الدماء وإراقتها دونما حساب، وذلك بفعل الروح العشائرية والعصبية القبلية، وقد اشترك في تلك الحروب والمعارك أفراد وجماعات، لا ناقة لهم فيها ولا جمل - كما يقول المثل.

فلايتأخرون عن إشعال نار معركة لأدنى سبب تافه وصلة قربى رخيصة، ولربما كانت صلة مصطنعة وهمية أو مجرد استلحاق لا غير.. ويكفينا أن نتذكر أدوار زياد بن أبيه ومهامه الاجرامية الشنيعة عقيب استلحاق معاوية له بأبيه صخر بن حرب(أبي سفيان) إذا أضحى زياد بن أبي سفيان، وصار أبو سفيان والد زياد بالاستعارة، فكان عليه أن يؤدي حق النسب والرحم، وقل حق الاستلحاق، والرابطة الوهمية.. وقد جرت على الأمة ويلات ومآسي نتيجة لوهم النسب هذا ونتيجة لتمكين معاوية لزياد من رقاب المؤمنين.

فالمعاني الجاهلية التي عادت لتسود في زمن بني أمية كان لها الأثر البالغ في صنع كثير من الأحداث وفي حرب أهل الحق وآل الرسول.. ويحدث أحياناً استمالة بعض العناصر من طرف ما إلى طرف آخر من هذا المنطلق ووفق منطق الصراع القبلي.. فما أن يُلاحظ وجود عناصر أو عنصر واحد له صلة رحمية حتى يعرضوا عليه منطق حمية الجاهلية.. وقد أشرنا إلى أن جدة علي الأكبر لأمهِ، وهي ميمونة من بني أمية.

(ولهذا دعاه أهل الشام (حسب قول البخاري) إلى الأمان، وقالوا: إن لك رحماً بأمير المؤمنين يزيد بن معاوية، يريدون رحم ميمونة بنت أبي سفيان) (5).
وهذا ما أشار إليه الزبيري، ولم يقل أهل الشام أو أن القائل هو شامي وإنما عراقي.
(وكان رجل من أهل العراق دعا عليّ بن الحسين الأكبر إلى الأمان، وقال له: إن لك قرابة بأمير المؤمنين يعني يزيد بن معاوية، ونريد أن نرعى هذا الرحم! فإن شئت أمناك) (6).
وثمة شيء آخر وهو أن قائد الجيش، عمر بن سعد بن أبي وقاص من أم أموية وهي أخت ميمونة أي من بنات أبي سفيان(7).

فللنسب والرحم سلطان على نفوس الناس، يسوقهم حيثما اشتهى من بيده زمام اللعبة، كسلطان الطائفية اليوم في السياسة الدولية المعاصرة، حيث ان السُني أو الشيعي، ثمّ المسيحي أو اليهودي، أو من له أدنى رابطة بأي من تلك الطوائف يمكن أن يُسخر ويستغل ويستخدم، وهو ما نلاحظه ونلمسه لمس اليد..

ولأن سلطان العصبية مستحوذ على الأمويين، وأذنابهم من الشاميين والعراقيين، ولأن سطوة القبلية مهيمنة عليهم، برزت أطروحة حمية الجاهلية بلا حياء ولا خجل وعُرضت على علي الأكبر ظناً منهم بجدواها، وقد كانوا من البلادة والغباء بحيث قارنوا أفذاذ الأمة كعلي الأكبر بأنفسهم هم شذاذ الآفاق ونبذه الكتاب، ونسوا أن علياً ونظائره لايستجيبون لتلك الدعوات حتى وإن بلغ السيل الزبى..
فما موقف علي من تلك الأطروحة وذلك العرض؟؟

لابدّ أن ندرك بأن العرض هذا رخيص، وعلي يتجاوب مع العرض الثمين النفيس، الذي يكون أقل ما يدفع له الجسد والروح .. وقد سبق له أن استجاب لعرض لايدانيه عَرض آخر، لم يقدمه شامي ولا عراقي، عرض ليس من أجل يزيد والرحم.. وانما قدمه رجل آخر، وأي رجل ذلك الذي هز مهده جبرائيل، سبط المرسلين ونجل سيد الوصيين وابن الصديقة الطاهرة سيدة نساء العالمين.. أي رجل هذا وأي عرض يحمل.. إن هذا الرجل بذاته وعظمته يكفي قبل أن يقدم ما عنده من عرض مبدئي، فهو بذاته عرض رسالي نفيس لا يقاس.
أجل إن لعلي الأكبر عهداً ووعداً بالمصادقة على ميثاق وقعه حول ما قُدم له، حيث أطروحة الحسين الحرة، ولهذا أجاب أهل العرض الرخيص بجواب حدي بقوله:
(لقرابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحق أن ترعى(8) .. ثم هجم عليهم..
فلا رحم ولا قرابة أقدس مما وصى القرآن بها وحرص بشدة عليها، فأي يزيد أم أية رحم أموية هذه؟!
(لقرابة رسول الله أحق أن ترعى من قرابة يزيد بن معاوية.. ثم شد عليهم) (9).
وبهذا فقد قابل علي منطق الجاهلية الرعناء، بمنطق الرسالة والقرآن العظيم: (قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) قرآن كريم.

وأعظم ما في الموقف أنه لم يقل لهم أنه أبي وأنا ابنه فعليّ أن أدافع عنه، ولم يذكرهم بأنه سليل الرسول ولهذا يراعي رحمه وصلته بالهاشميين، وانما كان جوابه جواب المؤمن بالرسالة وحتمية حفظ قربى الرسول، وقد يكون مستساغاً أن يعلن كونه يراعي نسبه المقدس ولم يعلن ذلك وإنما قرر بصيغة جوابه، الواجب الشرعي على كل فرد مسلم كأمر مفروض لا محيص عنه ولا مناص منه (فقرابة رسول الله أحق أن ترعى) لا لأنها مجرد قرابة الرسول وإنما لأنها قد أنيطت بها الرسالة والدين الحنيف.

أخيراً .. كان علي في غنى عن تلك البادرة البليدة، لأنه أسمى من تلك العروض التافهة، لكن العدو كان مضطرب العقلية مرتبك الموقف.. كما أننا في غنى عن الوقوف الطويل هنا، لولا الحاجة الماسة للتأكيد البياني على الأخلاق الجاهلية والقيم والمثل الجاهلية التي حورب بها الإمام الحسين وآله وأنصاره، من حيث عورضت بها الرسالة من قبل وحورب بها مسبقاً جده الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم)..

المجاهد العنيد

الجولة الأولى:

وامتشق حسامه المهند من غمده، ونزل مخترقاً صفوف العدو المتكبر، فراح الأكبر في كبرياء العز يضرب الأجلاف ويجندل الجبناء، ويحصد بهم فيوقع أكبر الخسائر في أوساطهم.. راح يضربهم فوق الأعناق ويضرب منهم كل بنان..

ظهر تأثيره عليهم حينما دخل دائرتهم وأخذ يخوض في وسطهم العسكري، ليمزق جمعهم ويفرق صفوفهم ويشتت شملهم الشريد، فقلب وقوفهم وحالة سكونهم إلى حركة دائمة، وركض وهروب فهزيمة فالرجل من إذا هرب نجا..

وغاب شخص علي الأكبر بينهم غياباً تاماً يتجلى للعيان بما يلعبه فيهم ويؤثر عليهم، فلا يظهر منه غير نشاطه المتمثل بهز العسكر وزعزعة الجيش إذ كان نزاله المسلح بكل طاقاته وقدراته مما أعيى الفرسان المدججين والكماة الناصبين، واستمر في فعالياته البطولية يخرق الصفوف ويتحدى السيوف.. نزل فيهم نزول الأسد الجريح، وخاض بهم خوضاً لم يشهدوا له مثيلاً قط، فما يترك كتيبة إلا وعاد إليها وما يلبث أن يرجع لمن فرقهم بسيفه الصقيل، مضى يتصرف بهم حسبما يريد، وقد عجزوا عن وضع حد له وإيقاف قواه التي تواصل استعراضهم فتكيل لهم الضرب وتنزل بهم الخسائر الجسيمة.. (ولهذا حرصوا على أن ينتقموا منه بعد قتله، وذلك بتمزيق جسده).

حتى إذا ماجهلوه وظنوا أنه علي بن أبي طالب قد خرج إليهم، لأنهم لم يصدقوا أن هذه الحملات الشجاعة لغيره، طفق يكشف لهم عن هويته المقدسة واسمه الشريف - كما قيل عن سبب ارجوزته التالية - . أو أنه أراد توضيح شخصيته ومهمته المنوطة به فبادر معلناً لهم، وهو ما زال ماضياً بعزم لا يلين، ينشدهم أنشودته الخالدة وأرجوزته المجيدة:

أنا علي بن الحسين بن علي نحن ورب البيت أولى بالنبي

تا لله لا يحكم فينا ابن الدعي أضرب بالسيف أحامي عن أبي

ضرب غلام هاشمي علوي(10)

أعلن لهم أنه نجل الحسين حفيد أمير المؤمنين علي..

كما أعلن رفضه لحكم الطلقاء وسياسة ادارة الأدعياء فلا وفاق عليها مهما بلغ الثمن: (تا الله لا يحكم فينا ابن الدعي).
أبلغهم أنه سيواصل سيره بسيفه المصلت فوق رؤوسهم ذاباً عن الدين الحنيف ومحامياً لأبيه سيد الأمة..
نبههم أن صرامته وتصلبه، وضرباته الفتاكة لها ما وراءها من رصيد هاشمي، فقوة ضربته وعزيمة ساعده، وتحمله لمشاق المعارك وهول الحروب انما له أصالته بدءاً من هاشم خير الكيان القرشي.. تلك المعاني السامية والإيحاءات الجدية تصك أسماع الأعداء، وهو يكرر انشودته ويكر عليهم كرات جده الكرار فلا يعرف أي معنى للفرار..
(فلم يزل يقاتل حتى ضج أهل الكوفة لكثرة من قتل منهم، حتى روي أنه على عطشه قتل مائة وعشرين رجلاً) (11).

لم يفت في عضده العطش بل حتى الجراح المعضلة، يسمو يحدق فيهم متعالياً فوق الجواد الناهض .وإذا ما تحاوموه بجمع وكتائب يردهم ويجبرهم على التقهقر والنكوص قسراً..

يرمي الكتائب والفلا غصت بها في مثلها من بأسـه المتوقـد

فيـردها قسـراً على أعقـابها في بأس عرنين العـرينة ملبد

وما همّ بالعجز، وهو شامخ على صهوة جواده بجراحه الدامية المتدفقة دماً عبيطاً، حتى إذا زاد ألم العطش وأخذ منه مأخذاً إلى جانب الجراح والدماء السائلة، رجع وهو يأمل أن ينال شربة من الماء لو وصل إلى المخيمات..

العودة المؤقتة

وعاد ولكن ليرجع، عاد كيما يعود إليهم، إذ توعدهم ثم أنه على موعد مع الله سلفاً، موعد لا يخلفه في مكان وزمان سوى.. غير أنه الآن عطشان لحد قد يمكن العدو منه، فهو ظمآن إلى درجة تفقده الرؤية الجيدة، فلا يرى الأوباش ولا يميز الأشياء.. عاد..

عاد وهو يحمل رأس أحد فرسان الأموية المدعو، بكر بن غانم، الذي تحدى علياً وصمم على قتله بقوله (لأثكلن أباه)، لكن علي الأكبر تلقاه فبارزه حتى صرعه وأرداه وحمل رأسه وهو يحس بالجهد الشديد الوطأة فوصل المخيم الحسيني وقد رمى بالرأس، وهو يردد:

صيد الملوك أرانب وثعالب

وإذا برزت فصيدي الأبطال

هذا ما جاء في رواية .. بينما أجمعت الروايات حول عودته المؤقتة، على جفاف حشاشته، ويبوس فمه، وذبول شفتيه، حتى بلغ لسانه أقص حدود الذبول بعظم الظمأ الذي ناله..
فهل كان متيقناً، أو معتقداً حصوله على جرعة ما ء يطفي بها لهيب العطش؟ فحن نقرأ له كونه طلب من أبيه شربة من الماء.. ( يا أبه: العطش قد قتلني وثقل الحديد قد أجهدني، فهل إلى شربة من الماء سبيل، أتقوى بها على الأعداء) (12).
فترقرقت واغرورقت عينا أبيه.
وأي سبيل هذا يا سيدي.. أم كيف ؟
ليت شعري .. أو ما يرى عليّ حال أهله وذويه، ويبوس حتى شفتي أبيه، وإن فاقد الشيء لا يعطيه..
وكأني به يجيب فيقول : أجل وهو كذلك فأنا أدرى بسر الحال، ولكن الأمل.. إنه الأمل في إطفاء غائلة الظمأ...

إنه يعلم جيداً، بيد أن أمله كان قوياً وأراد أن يقتنع أو يقنع نفسه فقط، فهي حالة نفسية ألحت عليه بالعودة وإلا فالماء غير موجود (لاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قضاه) قرآن كريم.
وهذا الحد الأدنى من أمل الإرتواء النسبي لم يتحقق، ولذا دمعت عينا أبيه الحسين، ولا أدري كيف دمعت وسالت الدموع حينما أجاب الأب العطشان ولده بقوله : (واغوثاه.. ما أسرع الملتقى بجدك فيسقيك بكأسِه شربة لا تظمأ بعدها أبد). وفي رواية أنه أجابه بقوله:
(يا بني قاتل قليلاً فما أسرع ما تلقى جدك محمداً صلى الله عليه وآله وسلم فيسقيك بكأسه الأوفى) (13) .

وعن الخوارزمي: (فبكى الحسين وقال : يا بني، عز على محمد وعلى علي وعلى أبيك أن تدعوهم فلا يجيبونك وتستغيث بهم فلا يغيثونك، يا بني هات لسانك، فأخذ لسانه فمصه، ودفع إليه خاتمة وقال له: خذ هذا الخاتم في فيك وارجع إلى قتال عدوك، فاني أرجو أن لا تمسي حتى يسقيك جدك بكأسه الأوفى شربة لا تظمأ بعدها أبد) (14).

ثم انه عليه السلام انتزع الخاتم ليضعه علي في فمه تحت لسانه .. وهذه عملية اسعافية قد تفيد ان للخاتم - أو أي شيء بنفس حجمه - دور في إثارة الغدد لتفرز ما يسعف الحال(15).

وبعد أقل القليل من الماء، فعطف ليودع أمه التي روي عنها أنها كانت شديدة القلق عليه حتى أغمي عليها وأفاقت ورأسها في حجر ولدها العائد من الجولة الأولى والذي لابد له من جولة ثانية كيما ينال شرف الشهادة المقدسة..

وراح يودع الجميع ليواصل المسيرة الفردية المسلحة رغم مكابدته لوطأة العطش وضنى الظمأ، وقد كتب في حالته هذه أحد الشعراء المؤمنين قائلاً فيه:

ويـؤوب للتـوديع وهـو مكابـد لظمـى الفؤاد وللحديد المجهـد

صادي الحشا وحسـامه ريان من مـاء الطلـى وغليله لـم يبـرد

يشـكو لخير أب ظماه وما اشتكى ظمأ الحشا إلا إلى الظامي الصدي

كانت حشـاشته كصـالية الغضـا ولسـانـه ظـمأ كشـقة مبـرد

فانصـاع يؤثـره عليـه بريقـه لو كـان ثـمة ريـقه لم يجمـد

ومـذ انثنى يلقى الكريهة باسـماً والموت منـه بمسـمع وبمشهد

لـف الوغى وأجالها جول الرحى بمثـقـف مـن بأسـه ومهـند

الجولة الثانية:

(ما أسرع الملتقى بجدك فيسقيك بكأسه الأوفى شربة لا تظمأ بعدها أبد)...
وما أروع هذا الارتواء الروحي والشربة المعنوية والجرعة المشبعة بالمعاني الجليلة، وقد عملت عملها في نفس علي الأكبر، فغدا لى الحلبة في جولته هذه وهو أشد اشتياقاً للارتواء الأبدي بماء الكأس الأوفى لجده المصطفى من حوض الكوثر وجنة عدن..
انها لبشارة مبهجة، لا يعيها أو يستوعبها فيتأثر بها إلا ذوو العلم والإيمان واليقين بما ينتظرهم من نعيم الفردوس ويفيض من على موائدها أو ضفاف أنهارها.
وتقدم البطل، العملاق العطشان الراوي من الإيمان..

وامتشق حسامه فرن رنينه إيذاناً ببدء فعالياته . وشقَ الرمال معتلياً صهوة جواده الذي خلف وراءه غبرة غليظة ممتدة .. شد عليهم ليكتسحهم كسحاً، ويكرد جحافلهم كرداً..
(فزحف فيهم زحفة العلوي السابق، وغبّر في وجوه القوم، ولم يشعروا أهو (الأكبر) يطرد الجماهير من أعدائه، أم أن (الوصي) عليه السلام يزأر في الميدان، أم أن الصواعق تترى في بريق سيفه، فأكثر القتلى في أهل الكوفة حتى أكمل المائتين) (16).
هذا وهو يؤكد لهم بأن ثمة حقائق قد تجلب للحرب هذه، وهي حقائق ثابتة، ولا مجال للتفريط في حق تلك الحقائق ذات البراهين والمصاديق الواضحة البينة على الساحة فأثناء شنهِ لحملاته، صرح لهم مؤكداً وبأسلوبه الجميل من خلال أرجوزة جميلة وأنشودة ثانية جليلة، كررها على مسامعهم بمنطقة المسدد:

الحرب قـد بانت لها حقائق وأظهرت من بعدها مصادق

والله ربّ العرش لا نفـارق جموعكم أو تغمـد البوارق

فبناء على تلك الحقائق وما تبعها من مصاديق عملية، فهو يواصل دورهُ أبداً دون أن يترك الساحة، كيما يقوم بتدعيم المصاديق، ولن يفارق مهمته قط، لأنه سليل أهل الحق وسادة الحقيقة وربان الحقائق التي بدأت جلية على أيديهم وواصلوا الكفاح من أجلها، والجهاد خلال الصراع في خضم التنازع على البقاء والإبقاء، وأنه سيبقى وسيثابر على ثباته ويكرر وثباتهِ بتحدٍ وصرامة وغلظة: (والله ربّ العرش لا نفارق).
فاضمروا له الكيد، وبيتوا له المكر، إذ أوغر صدورهم وملأها رعباً وقلل من شأن شجعانهم، مستصغراً فرسانهم.

مضى بلا ملل يؤدي أعماله في ضوء أقواله، ويحقق منطق انشودته الخطيرة، وليبر بقسمه براً لا حدّ له، عبر صولاته المحمدية، صولة إثر صولة وسط الحلبة في آخر جولة، زاحفاً زحفه الجهادي باطشاً بطش الأسد الغاضب.

ويكاد ينهار البطل العقائدي العطشان، فقد تقاسمت طاقاته كل من: التعب والارهاق، والظمأ الشديد، والجراح التي توزعت على جسده الشريف، فأخذ الدم يتدفق وينساب من جراح جسمه كالميزاب..
لكنه ظل شامخاً بجراح جسده يقاتل قتالاً شديداً إذ بلغت فيه روح التفاني حد الاستهانة بالدنيا واستصغار شأن الحياة..
قتال من ليس لسلامته أدنى أمل. وعلى هذا الأساس ومن هذا المقياس، عليك أن تتأمل وتحسن تقدير موقف هذه الشخصية الشابة، الشخصية العقائدية العملاقة.. فالتضحية من أجل القضايا العادلة، والثبات الدائم، والمثابرة والتوثب على العدو مما لا غنى عنه، إذ أن الصمود قوة نستمدها من الصامدين، والصبر نستلهمه مفهوماً حركياً، لا مفهوماً انهزامياً، مفهوماً إيجابياً حساساً لا سلبياً رديئاً..

والصبر مفهوم حركي علينا أن نستلهم من رواده أبعاده ومراميه، ومنهم نحدد معانيه..
ما برح علي يجول في أوساط معسكرهم يلقنهم أقسى الدروس، ولا يكادون يحددون له ساحة أو موقعاً - كيما يضيقوا عليه - حتى يوسعها عليهم بشنه للهجمات.. وشاهد بعضهم جسده الذي سالت منه الدماء كل مسيل، فأدركوا أنه قد ضعف عن القتال أو يكاد.. ولاحظوا وهم في رعب وذعر وانهزام أنه قد يجف جسده من الدم كما جف من الماء.. وعندها سيشفون به صدورهم الموغرة.

الانتقام

(عليّ آثام العرب إن مر بي وهو يفعل مثل ما كان يفعل إن لم أثكله أباه) (17).
هذا ما قاله أحد المرتزقة في معسكر العدو، وقد التاع وتعذب من شدة حملات علي الأكبر وصولاته حتى بلغ من البغض له والحنق عليه والحقد بحيث صمم على التصدي لهذا المجاهد العطشان، ولا شك أن هذا المرتزق قد ذاق أنواع العذاب من هروب وهزيمة وجبن من سيف علي الأكبر، ولكنه حينما لاحظ تعب عليّ وارهاقه تجرد من جبنه واستجمع جرأته وقال قولته تلك..

انه المدعو (مرة بن منقذ بن النعمان العبدي) الذي تتضح روحه الجاهلية من كلماته ومنطقه (عليَّ آثام العرب.. والحق أن آثام العرب يستحقها وهي عليه وهو بمستواها، إذ أنه كاره ومعادٍ وقاتل لأشبه الناس بسيد العرب والعجم، وبالرغم من المنطق القرآني الناهي لمثل ذلك المعنى: (وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) نجد أن ذلك الجندي الجاهلي مصمم على تحمل أوزار العرب، مع أنه مستوزر كثيراً من الأوزار، وهكذا أحب أن يحمل على ظهره هو ومن على شاكلته أوزاراً ثقيلة لا طاقة لهم ببعضها.. (وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ) قرآن كريم.

ولولا العار عليه من قبل رفاقه لصمم ولأقسم باللات والعزى ومناة الثالثة الاخرى، لكن صيغة تصميمه تلك أقل كشفاً لمضمونه الجاهلي كما يتوهم، وعلى كل حال فإن الأهداف والدوافع الدفينة قد انكشفت، وتكشفت عن الحرب الجارية هذه حقائق لم تخف أو تنطمس.
الحرب قد بانت لها حقائق وأظهرت من بعدها مصادق ولكي لا نهمل النص السابق علينا أن نلاحظ ما فيه ونرى ما يمكن أن نستوحيه . قال: (... إن مر بيّ)، كما قال : (.. وهو يفعل مثل ما كان يفعل).

يبدو جلياً أن علياً كان لا يترك لهم جمعاً إلا ومر به ولا كتيبة إلا وهاجمها، وكأنه كان يستعرضهم بحملاته استعراضاً عسكرياً مرعباً، بحيث أنه ما أن يترك كتيبة إلى غيرها حتى يعود إليها وإلى غيرها، وهكذا دواليك بنشاط منقطع النظير بحيث أنهم يتوقعون معاودته وكرته عليهم ثانية لهذا توقع ذلك الجندي فقال (.. إن مر بي).

ويبدو أنه كان يفعل بهم فعلاً لم يشهدوه طوال حياتهم العسكرية من شاب مسلح بمفرده، فكان استعراضه للجيش رهيباً، ان مرة العبدي لاحظ حرص علي الأكبر على تلقين جموعهم دروساً قاسية وتعليم جحافلهم حقائق بطولية رسالية لاتنسى لاحظ حرصه على عدم إهمال أي كتيبة دون أن يطعمها بالقتلى والجرحي ويختم لها بالهزيمة المنكرة فحقد حقداً قوياً . (عليَّ آثام العرب، إن مرّ بيّ وهو يفعل مثل ما كان يفعل إن لم أثكله أباه).

فانتظر دور الكرة العلوية على كتيبته الأموية، وقد نزع منه لباس الهروب والهزيمة، وكأنه نسي أنه جبان جلف جافي.. فراح يتربص ويلتمس الفرص، ليطعنه ولو عن بُعد منه، وبينما كان الشجاع العطشان يستعرضهم رغم ضعف بدنه ذي الجراح المثخنة المكثفة، ويزحف على جموعهم بالتتابع، كأنما هو زحف منتظم، وبينما كان يشق طريقه مقاتلاً بقواه الباقية، دنا الجندي المرتزق فتأهب مستجمعاً جرأته على الله ورسوله، وجسارته على الحقائق مسدداً رمحه الطويل في ظهر علي(18) (سلام الله عليه) فغرز الرمح - أو السهم - فيه، فانحنى علي على جواده، ثم ثنى له العدو بضربة على رأسه الشريف، ففجه، حينها أطلق علي الأكبر صوته بالسلام علي أبيه:

(يا أبتاه عليك مني السلام. هذا جدي يقرئك السلام ويقول لك عجل القدوم إلين).
ثمّ شهق شهقة فاضت أثرها روحه الزكية..
لكنهم لم يتركوه، فثمة دور ومهمة لهم. ترى ماذا فعلوا به وبجسده الذي أذاقهم مرّ طعم المواقف المسلحة؟؟؟

مقتبس من كتاب (حياة علي الاكبر عليه السلام) - تأليف: محمد علي عابدين

1- وقيل أنه ليس الأول ، بل لقد أدرجه ابن أعثم في الفتوح : ج 5 ، ص 207 فجعله آخر من قتل، وهذا ما لا شهرة فيه..
2- الفتوح ج 5 : ص 2 ـ 7 ، 208 ، والمقتل للخوارزمي ج 2: ص 30 بتفاوت لفظي.
3- نفس المصدرين.
4- نفس المصدرين.
5_ كتاب سر السلسلة العلوية ـ لأبي نصر البخاري ص 30 وهو من أعلام القرن الرابع للهجرة . حقق كتابه السيد صادق الصدر ، طبعة النجف الأشرف.
6- كتاب نسب قريش ـ للزبيري ص 57 وهو من أعلام القرن الثالث للهجرة ، حقق كتابه المستشرق أفرنستال.
7- وسيلة الدارين ـ للزنجاني ص 292.
8- نسب قريش للزبيري : ص 57 .
9- سر السلسلة العلوية للبخاري ص 30.
10- الارشاد للشيخ المفيد، وغيره كالمقتل للخوارزمي وأعيان الشيعة، وفي الفتوح بعض الزيادة عن هذا .. وفي الطبري والكامل نقصان عنه... وهكذا بتفاوت جلي...
11- مقتل الحسين ـ للخوارزمي ح 2 ص 30 وفي الفتوح جاء (فلم يزل يقاتل حتى ضج أهل الشام من كثرة من قتل منهم، فرجع إلى أبيه وقد أصابته جراحات كثيرة) ج 5 ص 209 بمعنى أن ثمة تسليم بوجود بعض الشاميين .
12- الفتوح ج 5 ص 209 . مقتل الحسين ـ للخوارزمي ح 2 ص 30 ـ 31 .
13- الفتوح لابن أعثم : ج 5 ص 209.
14- مقتل الحسين ـ للخوارزمي ج 2 ص 31 .
15- مقتل الحسين ـ للسيد المقرم هامش ص 313 .
16- مقتل الحسين ـ للمقرم : ص313 .
17- الطبري ح 4، ص 340 .
18- وفي كتاب اللهوف لابن طاووس أنه سدد له سهماً قائلاً.. الشهيد
 

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة