البث المباشر

قاسم سليماني وصراع التجديد الحضاري

الأحد 2 يناير 2022 - 11:43 بتوقيت طهران
قاسم سليماني وصراع التجديد الحضاري

ما يتعين علينا أن ننتبه له أن الشهيد قاسم سليماني لم يكن مجرد قائد عسكري يضع الخطط ويشرف على إيصال السلاح للمجاهدين ويقود المعارك بنفسه بل كان صانع حضارة من طراز فريد لأسباب من أهمها أن المواجهة التي قادها وحقق الانتصار فيها كانت في مواجهة مع البرابرة الجدد أعداء الحضارة والإنسانية والتمدن أيا كان تعريفنا للحضارة.

 

(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) الروم9.

 

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآَثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ * فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ) غافر 82-85.

 

انتشر في الفترة السابقة شعار تجديد الخطاب الديني وتكاثرت الهلاوس التي تحمل بعنف على الخطاب الديني القديم الذي لم يعد قادرا على مواجهة تحديات العصر وأهمها ما سمي بخطاب التطرف والإرهاب!!.

 

مع بداية هذه (الصرعة) تعاطى الكثير معها بنية حسنة بافتراض أن الكلام به قدر من المصداقية قبل أن يتضح أنه لا يتسق مع حال قائليه ولا مع الواقع من قريب ولا من بعيد.

 

تبين أن هذه الشعارات هي مجرد جزء من عملية تحسين الصورة ليس إلا، وألا رغبة ولا قدرة لدى هؤلاء على إحداث أي تغيير فعلي ليبقى الحال على ما هو عليه.

 

لا شك أننا نحن المسلمين نعاني من صراع داخل نفس الحضارة وهو صراع لم يبدأ قبل قرن أو قرنين بل منذ فجر الإسلام ومنذ اللحظة التي تعرض فيها الإمام علي بن أبي طالب ومدرسة أهل البيت للإقصاء فهم وحدهم من يمثل الوجه الحضاري الحقيقي للإسلام وليس أبدا من حاربوه من القاسطين والناكثين والمارقين.

 

في رأينا أن إسقاط الدولة الفاطمية والإجهاز على إرثها الحضاري شكل واحدة من أكثر الضربات إيلاما التي تلقاها المشروع الحضاري الإسلامي وهو بداية التمهيد لصعود الغرب على أعناق أمتنا المنكوبة ولولا المنجز الحضاري الذي راكمته بلاد فارس في القرون التالية لكان حال المسلمين أسوأ بكثير مما هو عليه الآن.

 

نختلف مع الذين يوجهون نقدهم الحاد تجاه الدولة الصفوية ويضعون ما يسمى بالتشيع الصفوي مقابل التشيع العلوي ويتجاهلون ربما بسبب قلة معلوماتهم أنه لولا الحماية التي وفرتها هذه الدولة للتشيع لما بقي على الأرض تشيع من أي نوع لا علوي ولا صفوي وهذه هي خلاصة تجربة مصر بعد الإجهاز على الحضارة الفاطمية.

 

في مصر والشام وفي هذه المرحلة تعرض الشيعة لحملات إبادة جماعية أنهت وجودهم تماما في مناطق متعددة ومن ضمنها مدينة القدس وهي حملة بدأها السلاجقة ووصلت إلى ذروتها مع الانقلاب الأيوبي وهو ذات النموذج الذي استلهمه المخطط الصهيوهابي في حملته الأخيرة على بلاد الشام.

 

ورغم أن الخطاب الديني يحتاج إلى مراجعة دائمة فليس كل فهم بشري للدين هو فهم مقدس أو معصوم ولا شك أن الحركات التحريفية والدس والتزوير قد تسببت في كثير من المصائب والنكبات إلا أن تغيير المفاهيم أو تصحيحها ليس كافيا لتصحيح مسار الأمة ودفعها نحو الأمام لتكون حيثما ينبغي أن تكون فالأمر يحتاج إلى إرادة ونية صادقة تقرن الأفعال بالأقوال كما لا يمكن الوصول إلى هذه الغاية ما لم تصطف الأمة خلف قيادة راشدة تتأسى بالنهج المحمدي العلوي.

 

مؤخرا وفي يوليو 2018 وبعد أكثر من ثلاثة أعوام من الحصار المطبق الذي عانت منه بلدتي كفريا والفوعة التابعتين لمحافظة إدلب في الشمال السوري وعديد محاولات الاقتحام التي قامت بها الجماعات الإرهابية الوهابية فضلا عن القصف العشوائي الذي لم يسلم منه الحجر والبشر لا لذنب ارتكبه هؤلاء الأبرياء سوى أنهم من شيعة أهل البيت عليهم السلام اكتمل تنفيذ الاتفاق القاضي بتهجير أهل البلدتين حيث أفشلت الجماعات الإرهابية اتفاقا سابقا في أبريل 2017 إثر تفجير إرهابي بسيارة مفخخة استهدف منطقة تجمع الحافلات التي تنقل الأهالي في منطقة الراشدين غرب حلب. وأفاد مراسل المنار أن عدد الشهداء والجرحى تخطى الـ 220.

 

وأفادت وكالة سانا بأن إرهابيين فجروا سيارة مفخخة في منطقة تجمع الحافلات وسيارات الإسعاف التي تنقل 5 آلاف مواطن من أهالي كفريا والفوعة المتوقفة منذ أكثر من 24 ساعة في منطقة الراشدين.

 

ولفتت الوكالة إلى أن التفجير الإرهابي “تسبب باستشهاد وإصابة عشرات المدنيين أغلبهم من الأطفال والنساء ووقوع دمار كبير بالحافلات وسيارات الإسعاف”.

 

في كتاب (تاريخ حلب) لكامل الحلبي الغزي: لم يزل يوجد في قضاء إدلب وجبل سمعان عدة قرى يقطنها الشيعة مثل كفرية الفوعة والنغاولة ونبل والغالب على أهل هذه القرى الثراء والغنى لطيب تربة أراضيهم وجودة معرفتهم بالفلاحة إلا أنهم ليسوا اصحاب نفوذ وهم إمامية اثنى عشرية وفيهم علماء يسافرون في طلب العلم إلى بغداد ومشهد الحسين، والفوعة قرية عظيمة تضاهي قصبة وأهلها معروفون بالتشيع من قديم الزمان وفيهم أولوا أنساب علوية عالية.

 

استقر سكان البلدتين في أراضيهم مئات السنين إلى أن هبت رياح عاد وثمود فاقتلعتهم من أرضهم وديارهم ظلما وعدوانا.

 

المخجل أن ما جرى على كفرية والفوعة في القرن الحادي والعشرين وقبلها نبل والزهراء هو ذاته ما جرى لبلدان أخرى ربما لا يتخيل المرء أنها كانت يوما ما ذات أغلبية شيعية.

 

من هذه البلدان مدينة القدس حيث يقول عارف باشا العارف في كتابه (تاريخ القدس): أصبحت القدس فاطمية سنة (969م) وكان فيها يومئذ عشرون ألفا من السكان جلهم من الشيعة وكانت مشهورة بخصب تربتها وصابونها وتينها وقطنها وعنبها ولكنها من الناحية السياسية كانت تالية في الأهمية لمدينة الرملة.

 

ومن المؤسسات الفاطمية في بيت المقدس (البيمارستان) وهو أول مستشفى أسس فيها وكان ينفق عليه مبالغ طائلة تأتي عن طريق البر والإحسان وكان بها أيضا دار العلم وهي فرع لدار الحكمة التي أسست في مصر عام 1004 للميلاد.

 

كما يذكر عارف باشا أن الظاهر لإعزاز دين الله الفاطمي قام بإعادة إعمار المسجد الأقصى بعد أن تعرضت المدينة لزلزال كاد يودي بقبة المسجد الأقصى لولا أنه ركض لتعميره فجاء أحسن مما كان عليه من قبل.

 

تعرض شيعة القدس ومسلموها عامة للإبادة بعد ذلك مرتين مرة على يد الأوباش السلاجقة أجداد أردوجان ثم على يد الغزاة الفرنج حيث شطبت تلك الحقيقة التاريخية من التاريخ ولم يعد يأتي أحد على ذكرها.

 

بتاريخ 21-7-2014 تحدث الصحفي البريطاني باتريك كوكبيرن في جريدة الإندبندنت البريطانية عن خطة إبادة الشيعة التي اعتمدها آل سعود والتي مهدت لاجتياح داعش للعراق ناقلا عن رئيس المخابرات البريطانية الأسبق السير/ ريتشارد ديرلوف الذي التقى رئيس المخابرات السعودي السابق بندر ابن سلطان وقت أن كان سفيرا للمملكة الوهابية في واشنطن، قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 إبان الحكم البعثي في العراق حيث قال له (مليار مسلم “سني” في هذا العالم لم يعد بوسعهم تحملهم فترة أطول بعد الآن).

 

ويقول باتريك كوكبيرن: أن هذه اللحظة جاءت عندما اجتاح داعش الوهابي الموصل ونفذ العديد من المجازر الجماعية ضد التجمعات الشيعية في العراق مما أدى لإبادة الآلاف من الرجال والنساء والأطفال[1].

 

دعك إذا من الأساطير والخرافات التي يرددها البعض عن أخطاء إيران التي تسببت في (ردة فعل) السنة الغاضبين الذين يعانون من (التهميش) ومن سياسة (المالكي الطائفية) وغير ذلك من الخرافات التي أدمن البعض تكرارها هروبا من استحقاقات الواقع البائس المرير.

 

الذي نجزم به أن الإنسان هو مادة الحضارة الأولية وهو صاحبها ومنشؤها إلا أنه قطعا ليس الإنسان الفرد بل الإنسان الذي ينتمي إلى أمة تعرف قيمة العلم وتثمن قيمة القانون والأعراف الأخلاقية السائدة بل وتدفعها إلى الأمام.

 

الحضارة ليست منتجا فرديا بل منتج جماعي يعمل النظام السياسي على دعمه وحمايته وأن يبذل من أجل ذلك الأموال والأنفس حفاظا على ما هو قائم وجلبا للمزيد.

 

الحضارة بناء وزراعة وقيم إنسانية وقوة عسكرية وروح قتالية استشهادية تحفظ قيما دينية تؤمن بالعدل والوفاء بالوعد وتشكل العمود الفقري للكيان الحضاري ولولا هذه القيم والعقائد لما أمكن ادعاء وجود مثل هذه الحضارة ولا حتى في العالم الافتراضي!!.

 

وحسب علي شريعتي في كتاب (العودة إلى الذات): فالحضارة هي مرحلة سامية من النضج الثقافي والمعنوي في المجتمع وتربية الروح الفردية الإنسانية وتهذيبها والتسامي بها ومن أجل تحويل نصف بدائي إلى متحضر فهذا يحتاج إلى أيديولوجية وخطط ومشروعات وعمل وتضحية وتحمل وألم وصبر ورياضة وتغيير في الأصول والمبادئ الاجتماعية وثورة فكرية وعقائدية وتغيير للقيم والمبادئ والوصول إلى رؤية كونية منفتحة أو بكلمة واحدة: ثورة أيديولوجية. ص 186.

 

الحضارة لا توجد في الاستهلاك والمظهر والكماليات بل توجد في الرؤية والفكر وعمق الإحساس والعلاقات الإنسانية والأخلاقية ومنظومة القيم وقوة الثقافة وغناها والدين والفن والاستعداد للخلق والتحليل والاختبار والقياس.

 

لا تحتاج العصرية إلا إلى التقليد ولكن الحضارة على عكسها تماما فهي نوع من الفوران الداخلي والتحرر من التقليد.

 

التحضر ثورة في الفكر ووعي وتمييز ورؤية كونية وتحليل للحياة والمجتمع والدنيا وتقييمها وتتضح من السلوك الاجتماعي والتكتل السياسي والحياة الفردية في المجتمع. ص 187.

 

الحضارة تعني حراثة الأرض وتسميدها ومدها بالمياه ثم بذر البذور ورعايتها وتطعيم النبات ومقاومة الآفات ثم يأتي النمو وهو ما لا يمكن له أن يحدث بين يوم وليلة بل يحتاج إلى كدح وعمل متواصل وصبر وإرادة وذكاء واستعداد أما الحضارة الاستهلاكية فهي ليست حضارة بل سوق لا أكثر.

 

إن ما يجعل الأرض – حسب شريعتي- صالحة للإنبات هو الأيديولوجية, رؤية كونية متحركة وأهداف مشتركة أو ما يعبر عنه بكلمة واحدة بالإيمان وهو ما يوجد حركة وقدرة ووسائل ووحدة في المجتمع.

 

ثقافة الهند الروحية العميقة والمسيحية والحضارة الإسلامية والحضارة الأوربية الحديثة كل واحدة منها كانت وليدة حركة فكرية وقومية ودينية. 189

 

لقد ظن البعض أن الفلسفة والثقافة والعلوم والتقنية هي التي تصنع الحضارة وهذه غفلة ذهنية عجيبة لأنهم وضعوا المعلول مكان العلة وكل هذه الأمور هي النتيجة الحتمية للحضارة الحقيقية. ص 190.

 

ما يتعين علينا أن ننتبه له أن الشهيد قاسم سليماني لم يكن مجرد قائد عسكري يضع الخطط ويشرف على إيصال السلاح للمجاهدين ويقود المعارك بنفسه بل كان صانع حضارة من طراز فريد لأسباب من أهمها أن المواجهة التي قادها وحقق الانتصار فيها كانت في مواجهة مع البرابرة الجدد أعداء الحضارة والإنسانية والتمدن أيا كان تعريفنا للحضارة.

 

رأينا كيف أجهز هؤلاء الوحوش على التراث الحضاري لأمتنا وقاموا عن سابق عمد بتدميره بمطارق الوحشية والهمجية.

 

رأينا كيف كان الهاجس الأول لهؤلاء الوحوش هو تدمير قواعد وأسس الحضارة في مجتمعاتنا وإعادتها إلى عصر (الجاهلية الأولى) وكيف أن ما قاموا به كان عملا مدروسا ومخططا يكمل ما بدأه برابرة العصور الماضية الذين دمروا مكتبة القاهرة وحرموا عالمنا الإسلامي من هذه الكنوز التي كنا وما زلنا في أمس الحاجة إليها.

 

رأينا كيف أن الخطوات الواسعة التي خطتها أقدام هذا المجاهد العظيم قد أزالت خطوط التقسيم والتشرذم التي حولت عالمنا الإسلامي إلى أشلاء فهذا عربي وهذا فارسي وسهلت على أعداء الأمة الانفراد بكل قطر على حدة كي يسهل افتراسه وابتلاعه.

 

ومثلما نؤمن بأن المؤمنين أخوة نؤمن أيضا أن الحضارة الإسلامية في عصرنا الراهن هي كتلة واحدة لا يمكن لها أن تنمو وتزدهر وتترعرع دون وحدة وانصهار (إنما المؤمنون إخوة) وتمازج وتعاون (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) ولذلك فلا بد لنا أن نثمن جهاد الشهيد الكبير قاسم سليماني ورفيق دربه العظيم أبو مهدي المهندس وأن نضع ما قاما به في إطاره الصحيح وهو إعادة تجديد ما اندرس من حضارتنا الإسلامية التي تشمل أمة واحدة (مثلُ المؤمنين في تَوادِّهم وتَرَاحُمِهِم وتعاطُفِهِمْ مثلُ الجسَدِ إذا اشتكَى منْهُ عضوٌ تدَاعَى لَهُ سائِرُ الجسَدِ بالسَّهَرِ والْحُمَّى).

الذي نوقن به أن الدور الجهادي الذي قام به قاسم سليماني ليس فقط كان حفاظا على وجود الأمة الإسلامية وما بقي لها من إرث حضاري لم تطله أدوات الدمار الشامل التي ما تزال تسعى لإكمال دورها بل شكل تمهيدا لأي نهوض حضاري جديد يعيد أمتنا إلى مكانها اللائق بها ضمن خضم الصراع الحضاري الذي يبذل كل ما لديه من جهد لإعادة أمتنا إلى مزبلة التاريخ.

دكتور أحمد راسم النفيس

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة