البث المباشر

الشرارة الأولى

الأربعاء 9 أكتوبر 2019 - 11:32 بتوقيت طهران

اذاعة طهران – قصص الصالحين : الحلقة : 60

 

تسلل السأم الى الجارية، وشعرت بالقرف والإحتقار معاً، وهي تسمع صوته الرخو المخمور، وكلماته المفككة غير المترابطة، كلما دعته الى النهوض من النوم... ماذا تفعل..؟ ...إنها تخشى إن ألحت عليه، أن لا تجد رأسها في مكانه...!!
يا لسذاجتها...! تصورت أنها أصبحت نصف أميرة، عندما أعفيت من عمل التنظيف داخل القصر... لتغدو الخادمة الخاصة لولي العهد...
فها هي تكابد العذاب في مهمتها الجديدة، بنحو آخر...!
لطالما استشعرت التقزز والغثيان، وهي تطوف في غرف القصر وقاعاته، فاحصة قطع الأثاث والطنافس والسجاجيد والستائر... خشية من أن تكون قد لوثت... فكثيراً ما يعجب أصدقاء الأمير... لا فرق بينهم: قيس كان، أم سمير، أم خلف... أن يوزع فضلاته هنا وهناك كيفما اتفق...!
لاينبغي أن يثير هذا الكلام العجب... فهذه الأسماء التي اعتاد الناس تسمية ابناءهم بها ، لا تمثل شخصيات آدمية هنا ... أجل... أجل... إنهم أصدقاء الأمير، ولكن ليسوا من طائفة البشر... وما وجه العجب أن يكون للرجل المرشح لخلافة المسلمين أصدقاء من فئة القرود...؟؟!!
إن مأساتها الحقيقية تبدأ، إذا ما رغب الأمير باستضافة أحد أصدقائه اولئك في مخدع نومه... يا له من ذوق أعرابي متوحش..!!
تنهدت، وقالت تخاطب نفسها : ... تخلصتِ من حضانة القرود، لتبتلي بحضانة أبي القرود... ضحكت وقالت: حقاً ما قيل إن شر البلية ما يضحك..!!
صمتت... وكأنها استكثرت على نفسها الضحك... وعادت تندب حظها... فإلى متى تبقى ترعى هذا الخامل المدلل، الغارق في القذر...؟! ...لا تريد التحدث عن الوضع المقزز الذي رأته عليه قبل يومين... حيث عاد الى فراشه ثملاً آخر الليل... ليغرق بعد ساعة في بركة من القيء... يا لحظها السيء... حتى ذلك القدر البسيط من الأمن والإستقرار الذي كانت تنعم به سابقاً افتقدته الآن... فلا هي تأمن ثورة الأمير المخمور، ولا هي تستقر في مكان معين... بل عليها أن تطوف معه حيث طاف...!
جاءها الصوت الرخو من غرفته، منادياً عليها...
خفق قلبها... كما لو حسبت أنه اطلع على سرها... راحت تعدو نحوه... فوجئت برئيس الحرس، وثلاثة من رجاله الأشداء، قد اقتحموا المكان... أصابها الخوف والذهول معا.... طرق سمعها ذات الصوت، لينقذها من محنتها...
- اعدّي كل شيء لنعود الى القصر...!
انقلبت عائدة، وهي تقول:
- نعم يا سيدي...!
لم يفتها الالتفات الى حالة الإرتباك الشديد السائدة بين الرجال... نظراتهم وحركاتهم، تشي بأمر يسعون الى إخفائه... بل خبر مهم يريدون التستر عليه...!!
حالة من الإرتباك والإضطراب تمكنت من والي المدينة، وأصابته بشلل التفكير والحيرة العميقة التي لا يهتدي معها الى فعل شيء...!
فالكتاب الرسمي الذي تسلمه من الشام قبل قليل يحمل نبأين هامين، ويطالبه باتخاذ إجراء على جانب كبير من الخطورة...اراد ان يمنح نفسه فرصة اطول للتفكير ...نادى على الحاجب، قائلاً:
- لا تدخلن عليَّ أحد...! ثم نهض من كرسيه، ألقى الكتاب عليه وراح يذرع الغرفة جيئة وذهاباً...
لم يكن أمر النبأين هو الذي أهمه... فهو يعرف أن عمه: معاوية بن أبي سفيان يعالج من مرض خطير، قد يأتي عليه في أي وقت... وليس من العجيب أن يجهز عليه اليوم قبل غد ، فيموت... وإذا ما مات، فإن أمر الخلافة سيؤول الى يزيد... وهذا الأمر لم يعد سراً على أحد داخل البلاط أو خارجه، فضلاً عنه هو، باعتباره أحد أعضاء الأسرة الحاكمة... وهل ينسى الإجراءات القمعية التي طالبه معاوية بفرضها إبان مجيئه للمدينة، ليتاح له إسكات المعارضين من أجل تمرير البيعة ليزيد...؟!
تناول الكتاب ثانية وراح يحملق فيه...
تقافزت الكلمات أمام عينه بتحد وصلف...
- خذ البيعة من الحسين، ولا ترخص له في التأخير... وإن أبى عليك فاضرب عنقه وابعث إليَّ برأسه...!!
ألقى الكتاب بنفور، وهتف بغضب:
- يا ويلي.. يا ويلك يا وليد بن عتبة!
خطى نحو كرسيه، قبل أن يتهاوى عليه وينادي على الحاجب...
دخل الحاجب عجلاً، وقال:
- نعم يا سيدي...!
رد بصوت شبه مبحوح:
- ادع لي مروان بن الحكم..!
رد الحاجب على عجل:
- هو ذا من ساعة... حبسته من الدخول عليك، نزولا عند امرك..!
- دعه يدخل، ويحك..! ...رد الوالي متعجلاً الأمر...
دخل مروان بادي الحزن... وقبل أن يفوه بالسلام... دفع إليه الوليد الكتاب، وقال:
- ما رأيك بهذا؟!
ألقى مروان نظرة على الكتاب، دون أن يبدو عليه الإهتمام، ثم رفع رأسه وقال:
- إن الحسين لا يقبل بهذا...! ثم أحّد النظر الى الوليد، وأردف:
- لو كنت مكأنك لضربت عنقه!.... حدج الوليد مروان بنظرة طويلة وقد بان الكدر العميق على وجهه، وقال:
- ليتني لم أك شيئاً...!
ثلاثون رجلاً تعلقت أنظارهم بشفتيه... لا يعلمون لأي شيء دعاهم الحسين ليلاً... لكنهم ليسوا بحاجة أن يعرفوا... يكفي أن يفوه ابن رسول الله بما يريد حتى يثبوا أمامه، وثبة رجل واحد...!
رفع الحسين رأسه بعد اطراقة قصيرة، وقال:
- إن الوليد قد استدعاني في هذا الوقت... ولست آمن أن يكلفني فيه أمراً لا أجيبه إليه... فكونو معي...!
تحفز القوم، وراحوا يرهفون السمع أكثر فأكثر... واصل الحسين، موضحاً ما يريد:
- إذا دخلت، فاجلسوا على الباب... فإن سمعتم صوتي قد علا؛ فادخلوا عليه لتمنعوه عني...!
...سارت الخطة في طريقها المرسوم... ودخل الحسين على الوالي... فوجد عنده مروان ...فالقى التحية وجلس... ولم يطل بحث الوالي عن منطلق للحديث... فالتفت نحو الحسين (ع) ناعياً إليه معاوية... فرد الحسين:
- إنا لله وإنا إليه راجعون...
مد الوليد يده الى كتاب بقربه وتناوله... ثم لوح به دون أن يفضه وهو يقول:
- لقد جاءني هذا الكتاب من الخليفة، يأمرني أن آخذ له البيعة منك...!
حدجه الحسين بنظرة واثقة، وقال:
- إني أراك لا تقنع ببيعتي سراً،حتى أبايعك جهراً، فيعرف ذلك الناس... رد الوليد وقد كست وجهه علامة الرضا:
- أجل..! ...فقال الحسين:
- تصبح وترى رأيك في ذلك... ابتسم الوالي وقال:
- انصرف على اسم الله... حتى تأتينا مع جماعة الناس...!
وكأفعى تتهيأ لنفث سمها، مد مروان عنقه وقال:
- والله لئن فارقك الحسين الساعة ولم يبايع، لا قدرت منه على مثلها أبداً... ولكن احبس الرجل، فلا يخرج من عندك، حتى يبايع أو تضرب عنقه...!
وثب الحسين (ع) نحو مروان، ملقياً عليه نظرة مزلزلة، وقال رافعاً صوته:
- ويلي عليك يا بن الزرقاء..! ...أنت تأمر بضرب عنقي..؟! كذبت والله ولؤمت...!!
وفوجئ الوالي ورفيقه بكوكبة من المسلحين، تقتحم المكان...!!
أحاط الرجال بالحسين، وأيديهم على قوائم سيوفهم، فيما التفت الحسين نحو الوالي، وصارحه قائلاً:
- أيها الأمير... إنا أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة... بنا فتح الله، وبنا ختم... ويزيد فاسق، شارب الخمر، قاتل النفس المحرمة، معلناً بالفسق... ومثلي لا يبايع مثله...!! ...قال الحسين ذلك، ثم خرج يتهادى بين رجاله.
تابعهم مروان بعينيه... حتى إذا ما رآهم قد غادروا المبنى... التفت نحو الوليد وقال:
- عصيتني..!! ...لا والله لا يمكنك مثلها من نفسه أبداً...
بدا الغضب على وجه الوليد، فدنى من مروان صارخاً:
- ويحك.. انك أشرت عليّ بذهاب ديني ودنياي... والله ما أحب أن أملك الدنيا بأسرها، واني قتلت حسينا...! تنهد بقوة ثم أضاف:
- سبحان الله، أقتل حسيناً، لما ان قال: لا أبايع...! ثم سكت كما لو قد زايله الغضب قبل أن يردف ، وهو ينظر الى بعيد :
- والله ما أظن أحداً يلقى الله بدم الحسين، إلا وهو خفيف الميزان، لا ينظر الله إليه يوم القيامة ولا يزكيه، وله عذاب أليم...!
إبتسم مروان إبتسامة صفراء، وقال وقد وشت عيناه بحقيقة ما يضمره:
- فإذا كان هذا رأيك، فقد أصبت فيما صنعت...؟!
مواجهة بيضاء تلك التي خاضها الحسين مع السلطة المحلية في المدينة االمنورة ...لكنها قطعت وبشكل نهائي كل جسور التواصل الممكنة بين الطرفين ....!
كان الامام الحسين في طريقه عائدا الى بيته ، وحوله رجاله الاوفياء ، وهو يفكر، انه لابد له ان يقطع برأي نهائي خلال الساعات المتبقية من ذلك النهار...!

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة