البث المباشر

الصور التشبيهية والتمثيلية في كلام امير المؤمنين عليه السلام

الثلاثاء 24 سبتمبر 2019 - 14:59 بتوقيت طهران

إذاعة طهران- على خطى النهج: الحلقة 4

مستمعينا الأكارم في كلّ مكان !
سلام من الله عليكم ورحمته وبركاته
يغمرنا السرور ، وتحيط بنا البهجة ونحن نجدّد اللقاء بكم عند محطّة أخري من محطّات رحلاتنا الأسبوعيّة بين رحاب نهج البلاغة من خلال برنامجكم علي خطي النهج ، برجاء أن نوفّر لكم أوقاتاً حافلة بكلّ ما هو نافع وممتع ، تابعونا ...
مستمعينا الأعزّة !
مايزال حديثنا يدور حول براعة فنّ التشبيه وصوره وأساليبه في نهج البلاغة حيث يستوقفنا في هذا المجال الحديث التالي الذي يمثّل جواباً من الإمام(ع) لأحد السائلين :
وَ قَالَ (ع) لِسَائِلٍ سَأَلَهُ عَنْ مُعْضِلَةٍ : " سَلْ تَفَقُّهاً وَ لاَ تَسْأَلْ تَعَنُّتاً ، فَإِنَّ اَلْجَاهِلَ اَلْمُتَعَلِّمَ شَبِيهٌ بِالْعَالِمِ وَ إِنَّ اَلْعَالِمَ اَلْمُتَعَسِّفَ شَبِيهٌ بِالْجَاهِلِ اَلْمُتَعَنِّتِ
وأوّل ما يستوقفنا في التشبيه الذي ورد في هذا القول ، بساطته واستعانة الإمام عليه السلام بأداة التشبيه وهي هنا كلمة شبيه فهو إذن من نوع التشبيه المفصّل ، ولعلّ السبب في ذلك هو أنه في مقام التفهيم والإيضاح ولذلك استدعي الأمر أن يورد التشبيه بهذه الصورة التفصيليّة المبسّطة ، ثم إنّ مقتضيات البلاغة لا تستدعي إيراد تشبيه المتعلّم الجاهل بالعالم والعالم المتعسّف بالجاهل علي صورة التشبيه البليغ الذي تحذف فيه أداة التشبيه ، وكأنّه عليه السلام أراد أن يفهمنا أن الجاهل الذي يكون قصده التعلّم يكاد يكون عالماً بفضل نيّته التعلّمَ وعدم مكابرته واعترافه بجهله سلفاً ، وأنّ العالم الذي لوّث علمه بالتعسّف والمكابرة يوشك أن يكون شبيهاً بالجاهل المعاند الذي لايريد الاعتراف بجهله .
وقال عليه السلام في فضل العلم والأدب والفكر السليم المؤدّي إلي الوصول للحقائق دونما شكّ وشبهة :
"العِلمُ وَراثَهٌ كَريمَهٌ ، وَ الآدابُ حُلَلٌ مُجَدَّدَهٌ ، وَ الفِكرُ مِرآهٌ صافِيَهٌ
حيث نلاحظ هنا أنه سلام الله عليه لجأ إلي التشبيه البليغ المجمل الذي لا تذكر فيه أداة التشبيه ولا وجه الشبه ، وأنه عمد إلي تشبيه ما هو معنوي وغير حسّي أي العلم و الأدب و الفكر بما هو مادّي ومحسوس وهو الوراثة و الأدب و المرآة الصافية ، ثم إنّ الطرف الأول من التشبيه أي المشبّه مفرد في حين أنّ الطرف الثاني المشبّه به مركّب مؤلّف من كلمتين هما الصفة والموصوف زيادة في الإيضاح ، و تعظيماً لشأن المشبّه وهو العلم والأدب والفكر ، نظراً إلي أنه في مقام بيان فضل العلم ومكانته و دور الأدب في تزيين سلوك الإنسان وأخلاقة و التعويل علي الفكر في بلوغ الحقائق الخالصة كما هي من غير لبس ولا تضليل ؛ فالعلم هو خير ما يرثه الإنسان بل هو إرث كريم نفيس لأنه هو الذي يصنع الإرث المادي ، و أمّا الأدب وحسن التعامل مع الآخرين فهو بمثابة الحلل المتجدّدة التي يزيّن بها الإنسان ظاهره وهيئته ، فيما التفكّر والتعمّق في باطن الأمور والظواهر وتأمّلها هو الوسيلة الفضلي في إدراك الأمور علي حقيقتها فكأنه المرآة الصافية التي تُري الإنسانَ الأشياء علي حقيقتها دونما تحريف ولا مواربة .
وفي معرض حديثه ( عليه السلام ) في أحد أقواله الكثيرة عن الدنيا والتحذير منها ، استخدم فنّ التشبيه ولكنّه عمد عليه السلام إلي أسلوب التشبيه التمثيلي الذي يقوم فيه المتكلّم بطرح صورتين حسّيتين من أجل تقريب الصورة الكليّة إلي ذهن المتلقّي بشكل أفضل ، كما نلاحظ في قوله :
" مَثَلُ مَنِ اغْتَرَّ بِها ( بالدنيا ) كَقَوْم كانُوا فِي مَنْزِل خَصِيب فَنَبَا بِهِمْ إِلى مَنْزِل جَدْيب .
فنحن نواجه هنا صورتين ؛ صورة المغرور بالدنيا الراكن والمطمئنّ إليها والمنخدع بمظاهرها ، وفي الطرف الآخر نواجه الصورة المشبّه بها وهي صورة مجموعة الناس المسافرين الذين يصادفون في طريقهم منزلاً خصباً مريعاً تتوفّر فيه أسباب الراحة من عناء السافر ولكنّهم ومن أجل بلوغ وجهتهم مضطرّون لا محالة إلي مغادرة ذلك الموضع الذي تطمئنّ إليه النفس ليتجاوزوه إلي موضع آخر تكرهه النفس لجدبه وجفافه ولأنه لايزيدهم إلّا عناء ومشقّة بدلاً من أن يزيلوه ذلك العناء وهذه المشقّة فيه ؛ وهي صورة تشبيهيّة جميلة ومؤثّرة يرسمها لنا أمير المؤمنين بقدرته الفذّة علي التصوير عن الدنيا وكونها مجرّد منزل مؤقّت سيرحل الإنسان عنه عاجلاً أم آجلاً حاله في ذلك كحال المسافر الذي يمرّ في طريقه بالعديد من المنازل التي يضطرّ إلي تركها من أجل بلوغ هدفه ، وعلي هذا فإن العاقل هو الذي ينبغي أن لا يغترّ بالدنيا ولا ينخدع ببهارجها ومظاهرها الزائلة لا محالة ، وأن يكون همّه الأوّل والأخير الهدف الأخير من رحلته ألا وهو الآخرة بنعيمها الباقي والمخلّد .
مستمعينا الأكارم !
تكثر الصور التشبيهيّة التمثيليّة في كلام أمير المؤمنين سلام الله عليه ، عن هذه الصور ومكانتها الفنّية ودورها في تقريب مراد المتكلّم إلي ذهن السامع كان لنا حديث مع ضيفنا علي الهاتف السيد حسن الكشميري الباحث الاسلامي من مدينة قم المقدسة الذي تفضّل في هذا الصدد قائلاً :
الكشميري: بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.
تنوعت طرق التشبيه التي استعملها الامام صلوات الله عليه من خلال خطبه فمرة يعمد الامام الى التشبيه بالنسبة للمخلوقات التي يتناول فيها إبداع خلقت الباري وصنع الباري سبخانه وتعالى وأحياناً يستعمل الامام التشبيه في تقليد الصورة او لتوضيح المعنى أكثر الى ذهن الانسان. فنلاحظ بالنسبة الى البعد الأول تناول الامام خطبة مفصلة وواسعة عن النملة وكيف أن هذه النملة لها شروطها وحياتها الخاصة ثم يتحول الامام الى طاقات هذا المخلوق البسيط ويتحول الامام الى وظائف هذا المخلوق "ولو فكرت في شراسيف بطنها ومافي جوفها وما في رأسها" يتكلم الامام عن كل أجزاء وفصول وأعضاء وتركيبة هذا المخلوق ليعطي الانسان صورة عن عظمة الخالق وبديع صنعه. ومرة يتكلم الامام عن الخفاش، له خطبة مفصلة. لاأغفل، عندما يتكلم الامام عن النملة ينهي الخطبة بهذه الجملة يقول عليه السلام "وفاطر النملة هو خالق النخلة" الامام يريد أن يقرر هذه المعاني للإنسان لكي يستطيع الانسان أن يستوعب بكامل الدقة وبكامل الملاحظة ما اودع الله سبحانه وتعالى في مخلوقاته من صفحات تكشف لهذا الانسان عظمة الخالق ولطف الخالق وبالتالي مراقبة الخالق لكل حركة صغيرة وكبيرة تدور في هذا الكون وفي الأكوان الأخرى.
المحاورة: أيها الأخوة والأخوات ثم طلبنا من ضيفنا الكريم أن يورد لنا بعضاً من الأمثلة والنماذج في نهج البلاغة فيما يتعلق بهذا النوع من التشبيه فأجاب سماحة السيد حسن الكشميري عن هذا التساؤل:
الكشميري: الأمثلة تنوعت، مرة الأمثلة تكون جغرافية ومرة معنوية ومرة تكون على مستوى الخلقة، مرة يستعمل الامام امير المؤمنين أمثلة لهذا الانسان ليفهمه كيف يتعامل بطرفي الحياة يعني بين الزهد وبين الاستفادة من نعم الخالق. الامام صلوات الله وسلامه عليه يستعرض هذا في نهج البلاغة عندما إلتقى بصديقين مهمين قديمين له وهما عاصم وعلاء وكانا يختلفان في برمجة الحياة، فعاصم كان متهوراً في الاستفادة من النعم وأخوه بالعكس كان منغلقاً على نفسه بحيث حرم نفسه من كل الملذات. الامام إستغل قصة هذين الرجلين او هذين الصديقين ليعطي درساً لأحباءه وكل من يريد أن يفهم الطريق الصحيح في هذه الحياة فذهب الامام الى عاصم فوجده يسكن داراً فسيحة وواسعة وفيها من الحدائق الغناء وغيرها. إستقبل هذا الرجل الامام علي بعد فراق دام طويلاً، سأله الامام: ياعاصم ما تصنع بهذه الدار الوسيعة وأنت اليها في الآخرة أحوج؟ طبعاً هذا الصديق إلتوى قليلاً لما سمع هذه الكلمة ولكن الامام عاود وعلق قائلاً: بلى إنك لتبلغ بها الآخرة اذا آويت اليها يتيماً او أطعمت فيها جائعاً او كسوت فيها عرياناً، فتح له باب الأمل. ثم سأله عن أخيه علاء. فقال إنه شمر عن الحياة ويعيش عيشة كفاف. فذهب اليه الامام وهو يقول: قد إستهان بك الخبيث، أما علمت بأن الله خلق النعم لعباده؟ فقال: لم اذن أنت يامولاي تأكل هذا الطعام البسيط، الخبز الجشب واللبن الحامض؟ قال الامام: أختلف عنك لأني أنا مسؤول والله سبحانه وتعالى قضى على أمراء المسلمين أن يتساووا مع ضعفة الخلق. هذه كلها امثلة الامام يستعملها ليعطي صورة للإنسان ليفتح له النوافذ لكي يعرف كيف يتعامل مع هذه الحياة ليضمن لنفسه سلوكاً ناجحاً في الدنيا وفي الآخرة.
المحاور: مستمعينا الأفاضل بعد هذا الحديث الذي تفضل به خبير البرنامج على الهاتف مشكوراً نعود بكم الآن لنواصل تطوافنا في عالم التشبيه البديع بين رحاب نهج البلاغة.
إخوتنا ، أخواتنا المستمعين والمستمعات !
والحديث عن الدنيا وصفاتها من مثل الزوال والفناء والغدر وما إلي ذلك يكثر - كما أسلفنا - في نهج البلاغة بالنظر إلي أنّ أمير المؤمنين سلام الله عليها كان معروفاً بزهده فيها وعدم تعلّقه بها ونبذه لها ما دامت تبعد الإنسان عن جادّة الصواب ، وما دام الإنسان يتّخذها هدفاً وغاية له في حياته ولا ينظر إليها علي أنها مزرعة للآخرة وسبيل لنيل رضوان الله تعالي ودخول جنّته من خلال استغلال نعيمها ومظاهرها في رضاه .
ومن بين التشبيهات الجميلة والبليغة التي غدت مضرباً للمثل ، وقولاً تردّده ألسنة الحكماء كلّما دار الحديث عن الدنيا وغدرها وسرعة فنائها وزوالها ، قولُه عليه السلام :
" مَثَلُ الدُّنْيَا كَمَثَلِ الْحَيَّةِ ، لَيِّنٌ مَسُّهَا ، وَ السَّمُّ النَّاقِعُ فِي جَوْفِهَا ، يَهْوِي إِلَيْهَا الْغِرُّ الْجَاهِلُ ، وَ يَحْذَرُهَا ذُو اللُّبِّ الْعَاقِلُ .
وهو تشبيه لا نجد ما هو أجمل منه من حيث الصورة الحسّية التي يقدّمها لنا عليه السلام والتي شبّه الدنيا بها ؛ صورة الحيّة التي تزدهي عليها الألوان الزاهية ، وتزدحم علي جلدها النقوش الزاهية الخلّابة في حين أنّها تحمل في داخلها الموت الزؤام ، والسمّ القاتل ؛ فمن عرف هذه الحيّة علي حقيقتها حذر منها وابتعد عنها بل وهرب منها ، ومن كان غرّاً جاهلاً جذبته ألوانها ، وأغواه لين ملمسها ؛ فاقترب منها وربّما أمسك بها لتحمل عليه علي حين غرّة ولترديه قتيلاً ليروح ضحيّة جهله وانخداعه بالمظاهر الخلّابة وعدم نظره في حقيقة الأمور !
أحبّتنا المستمعين !
ترقّبونا في الحلقة القادمة من برنامجكم علي خطي النهج لنكمل تجوالنا بين رياض البلاغة الغنّاء حيث سنخصّصها هي الأخري للحديث عن فنّ التشبيه في النهج علي أمل أن نتطرّق إلي الفنون البلاغية والبيانيّة الأخري في حلقات قادمة بإذن الله ، في أمان الله .

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة