البث المباشر

تأملات في سورة "النصر" المباركة

الأربعاء 16 نوفمبر 2022 - 19:24 بتوقيت طهران
تأملات في سورة "النصر" المباركة

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: "إِذَا جَاء نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ* وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا* فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا" (النصر: 1-3).

ويقول المفسّرون إنّ المراد بالفتح هو فتح مكّة، أو إنّ من أبرز مصاديق السورة فتح مكّة. وقبل الشروع في تفسير السورة المباركة، نطلّ في هذا المقال على أسباب فتح مكّة.

ودخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكّة فاتحاً لأسباب عديدة:

 

أوّلاً- منع المسلمين من أداء فريضة الحجّ 

مكّة كانت مقرّ عبادة المسلمين، ومحجّةً لهم، وقبلتهم، فلم يكن بمقدورهم أن يتجاهلوا فتح هذه البلدة المباركة. لماذا تمّ الفتح؟ أما كان يمكن أن يحجّ المسلمون إلى مكّة دون خطر، كما كان للعرب جميعاً قبل الإسلام حقٌّ في حجّ بيت الله الحرام؟.

الجواب هو لا؛ لأنّ أهل مكّة، وخصوصاً قريش، لم يسمحوا أبداً أن يحجّ مسلمٌ واحدٌ إلى مكّة. فإذا مُنِع أحد المسلمين من الحجّ، فيجب عندها أن يُفرض الحجّ بالقوّة. إذاً، إنّ منع المسلمين من ممارسة هذا الواجب، وهو ركنٌ في الإسلام، كان من الأسباب الرئيسة التي دفعت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لفتح مكّة.

 

ثانياً- حياكة المؤامرات ضدّ المسلمين 

كانت مكّة ميدان للمؤامرات ضدّ المسلمين. فخلال ثماني سنوات، من تاريخ هجرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى تاريخ فتح مكّة، حِيكت عشرات المؤامرات من قِبَل جماعة قريش ضدّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ووقعت مجموعة من الغزوات أيضاً؛ منها مؤامرة الأحزاب التي انتهت بمعركة، ومنها غزوة “بدر”، و”أُحُد”، وغيرها الكثير من الغزوات.

فالرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم كان يرى أنّ مكّة باتت قاعدةً للعدوان، ومن الطبيعيّ أنّه يحقّ لكلّ أمّة ضرب قاعدة العدوان؛ فأراد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أن يحجّ تأكيداً للسبب الأوّل في فتح مكّة.

 

ثالثاً- صلح الحديبيّة

1- توقيع الصلح 

خرج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم للحجّ، فاصطدم بمنع المشركين له في “الحديبية”، ثمّ جرت بعض الأحداث التي كانت نتيجتها توقيع “صلح الحديبية” معهم، على الرغم من أنّ أمر الصلح لم يكن من مصلحة المسلمين، وكان فيه اعترافٌ كبيرٌ بقوّة المشركين، وقد عارضه بعض صحابة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، ولكنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فرضه بأمر من الله سبحانه وتعالى.

ومن بين بنود الصلح أن لا يحجّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في تلك السنة، وإنّما في السنة المقبلة، وحينما يدخل مكّة، يخرج منها جميع أهل قريش، فيذهبون إلى أعالي الجبال، وينظرون من مكان بعيد إلى المسلمين وهم يحجّون.

ولا بدّ هنا من إثارة مسألة في غاية الأهميّة؛ إنّ الحاج حينما يطوف حول الكعبة، يصل إلى ما بعد “حجر إسماعيل” الجانب الذي فيه باب الكعبة، مقابل مقام “إبراهيم”، ثمّ يأتي الجانب الآخر من الكعبة المقابل لـ”حجر إسماعيل“، ومن بعدها الجانب الثالث الذي فيه يقابل باب “الحطيم” في الحرم المكّيّ.

وفي هذا الجانب بالتحديد، يُستحبّ أن يهرول الحاجّ بصورة تشبه الركض، وأن يضرب برجله الأرض. وهذه السُّنة سنّها الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنّه صلى الله عليه وآله وسلم عندما وصل هذا الجانب، لاحظ أنّ المشركين يراقبونه من على جبل أبي قُبيس ووديان مكّة، إذ راحوا يشاهدون المسلمين.

فبدأ صلى الله عليه وآله وسلم يمشي بقوّة وبعزم ويضرب برجله الأرض؛ حتّى يظهر بمظهر القادر القويّ المتين. وطبعاً، آلاف المسلمين بدؤوا يضربون بأرجلهم الأرض بقوّة، مثله تماماً، وكان في مشهدهم نوعٌ من المبارزة، وإظهار القوّة والتحدّي، وعدم الظهور بالضعف، فأصبحت هذه سُنّة مستحبّة؛ ونحن حينما نطوف ونصل إلى الجانب الثالث، يستحبّ أن نهرول ونضرب بأرجلنا الأرض.

 

2- الإخلال ببنود الصلح

حجّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم حسب صلح “الحديبية” في السنة التي تلت الصلح، ولكن سرعان ما نقضه المشركون في بنود عدّة. ومن جملة هذه البنود الحقّ في إرجاع أهل مكّة الذين لجؤوا من مكّة إلى المدينة، وبالعكس. وخان المشركون الاّتفاقيّة، وحاولوا أن يُبقوا الخارجين عنهم في مكّة، وهم كانوا قلّة جدّاً.

أمّا الذين هربوا من مكّة، واستسلموا للإسلام وللنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فقد أرجعهم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى مكّة، ولكنّهم لم يدخلوها، فشكّلوا عصابة، وبدؤوا يغزون بيوت جماعة قريش وأموالهم وقوافلهم، حتّى أنّ أهل قريش طلبوا من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أن لا يُرجعهم؛ لأنّه لم يكن من مصلحتهم إعادة هؤلاء الهاربين إليها.

ومن بنود صلح “الحديبية” التي نقضها المشركون أيضاً؛ أن يكون حلفاء النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في أمان من المشركين، وحلفاء قريش في أمان من المسلمين. فحصل تحالف بين قبيلة بني خزاعة مع المسلمين، وبين قبيلة بني بكر بن عبد مناة مع قريش. وقد كان بين القبيلتين شرّ عظيم وخصام قديم، فاحتدم الأمر بينهما، وخالف المشركون صلح “الحديبية”، إذ ساعدوا بني بكر بن عبد مناة على بني خزاعة، وقتلوا منهم جماعة. عندها، أُخبر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بالواقعة، وبأمر من الله، عزم بالفعل، أن يدخل مكّة فاتحاً؛ لأنّهم نقضوا اتّفاقيّة الهدنة.

 

(*) مسيرة الإمام السيّد موسى الصدر، ج 10، سورة النصر، الجزء الثاني، ص 258، بتصرّف.

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة