البث المباشر

الأدب العربي المهجري -٤

الخميس 31 يناير 2019 - 19:43 بتوقيت طهران

الحلقة 186

كانت الحملة التغريبية التي استهدفت الأدب العربي متعددة الوجوه وكان من وجوهها عدد من أدباء المهجر النصاري هم جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وامين الريحاني الذين يمثلون اكبر واهم هؤلاء المتغربين، وقد عني الأدب المهجري بالحملة العنيفة على اللغة العربية والدين والثورة على الالوهية والاسراف في الاباحة ومهاجمة القيم الاخلاقية في الحب والزواج، واهتموا اسلوباً بأدخال صيغة التوراة والمجاز الغربي والاسراف في النهج الروماني الغارق في الضلال.
صوّر جبران خليل جبران مفاهيمه وانحرافاته في مقال مطول ذكر فيه عن نفسه انه متطرف بمبادئه حتي الجنون وانه خيالي يفسد اخلاق الناشئة ولو اتبع الرجال والنساء المتزوجون وغير المتزوجين اراء جبران في الزواج لتقوضت اركان العائلة، وانهدمت مباني الجامعة البشرية واصبح هذا العالم جحيماً وسكانه شياطين، هو فوضوي ملحد وقد قرأنا له كتاب الاجنحة المتكسرة فوجدناه سماً في الدسم، يقول جبران هذا ما يقول الناس عني، مصيبون فأنا متطرف حتى الجنون،‌اميل الى الهدف ميلي الى البناء وفي قلبي كره لما يقدسه الناس، ولو كان بأمكاني استئصال عقائدهم وتقاليدهم لما تردد دقيقة. اجل ان هذه الاعترافات الجبرانية تكشف بوضوح عن سمات غريبة عن الادب العربي وقيمه ومزاجه الروحي، سمات دخيلة مسرفة في التحدي والتشويه ومع ذلك فقد سقط ادب جبران ولم يحقق النتائج التي عول عليها دعاة التغريب والقائمون على الارساليات التبشيرية في بوستن.
وقد اشار ميخائيل نعيمة وهو يحلل شخصية صديقه جبران الى انه كثير الشكوك شديد الحرص على شخصيته، يخشى ان تمس بأقل ملاحظة او اشارة، وبقدر ما كان يكره النقد من اي نوع كان يستعذب المديح مهما كان ويفعل المستحيل للحصول عليه. اجل كانت مفاهيم جبران في الحياة والمجتمع والادب في غاية‌ التردي والانحلال وهو يجمع بين نظرية نيتشه في عبادة القوة ومعاداة المسيحية وبين عقيدة التناسخ والدعوة الى الكتابات المكشوفة والصور العارية، ويجمع الكتاب على ان اثر ينتشه في ادبه كان بعيد السوء، وان كتاب نيتشه «هكذا تكلم زرادشت» قد اثخن على جبران تلك المفاهيم المنحرفة التي نشرها. يقول نعيمة ما عرف جبران نيتشه حتى ينسى كل من عرفهم قبله من كبار الكتاب والشعراء وعلى قدر ما كان يطيب له ان يختلي به كان يلذ له في البدأ ان يحدث غيره عنه وان يهدي اصحابه ومعارفه اليه، حتى انه قال ان كتاب «هكذا تلكم زرادشت» في نظري اعظم ما عرفته كل العصور، وما استأنس جبران بزرادشت نيتشه حتى احسن بوحدة‌ اقصى من ذي قبل تكتنفه اينما سار وبغربة تفصله عن ماضيه الى حد انه صار يخجل امام نفسه من كل ما كتبه او صوره في ذلك الحين.
والواقع انه تتمثل في ميخائيل نعيمة مطابقة بهذه المفاهيم او قريباً منها في خطوطها العامة‌ بيد ان نعيمة كان فيلسوف هذا الاتجاه ومنظره فقد كان كتابه الغربال رمزاً لهذا المفهوم الذي يسخر بالأدب العربي واللغة العربية والطراز العربي جميعاً. وقد اعترف نعيمة‌ بأن اسلوبه في بداية حياته لم يكن اسلوباً عربياً صرفاً بل كانت تطغى عليه القوالب الافرنجية الروحية بالاخص، ومن هنا كان تلك الاستهانة البالغة باللغة العربية ومحاولة اخراجها من موقعها الصحيح لغة أمّة ولغة فكر الى مفهوم اللغات التي يجري عليها ما يجري من التغيير والتحويل المستمر. وقد كانت مقالته نقيق الضفادع ممثلة لهذا المفهوم الذي يعلي من شأن العامية لان اللغة الفصحى قد دخلت في نظره في خطر التحجر، ويبدو ترابط العمل في هذا المخطط من خلال كلمة «فيليب حتي» استاذ التاريخ في الجامعة الامريكية في بيروت عام ۱۹۲۳ حين كتب الى نعيمة معلقاً على كلمة يقول: «انك حككت بها جرحي وترجمت عن فكري وعن عواطفي» واذا كان جبران قد تقمص النبوة في كتابه النبي فأن نعيمة قد تقمص شخصية شبيه هي مرداد الذي اثاره على الدعوة الى ما اسماه عقيدة التقمص جرياً وراء مفاهيم وفلسفات مغايرة للمفاهيم التوحيدية التي تأسس عليها الفكر والادب العربي. وقد سؤل نعيمة عن موقف هام في حياته فقال، ان هذا الموقف يوم عرف عقيدة التقمص، اما موقفه من العالمية والقومية فهو واضح اضافة الى ادخاله مفاهيم وثنية برهمية مجوسية، ومن هنا يبدو خطأ هذه الاراء ويبدو تباينها العميق مع قيم الفكر الاسلامي والانساني التي قام على اساسها الأدب العربي كما يتجلى اختلافها مع المزاج والقيم والعقائد الاسلامية، وهذه هي فلسفة مدرسة المهجر المنحرفة عن اصول الاديان والاخلاق والنظم الاجتماعية، اما الدعوة‌ الى ما يسمونه الامميه فإنها دعوة ضالة تريد ان تقضي على مقومات الأمة في أشد المواقف خطراً واقسى ما مر بها من ازمات اتجاه النفوذ الأجنبي والغزو الصهيوني ذلك انه ما يدعونه بالاممية او الانسانية انما تعني تقبل الانصهار في الحضارة الغربية والفكر العالمي وبذلك تضيع الشخصية الاصيلة للأمة وينمحي وجودها وكيانها الواضح الممتد في التاريخ خمسة عشر قرناً وهذا هو ما يعنيه نعيمة ودعاة مدرسة المهجر. معنى هذا ان المعاني التي رددها نعيمة وجبران لا تتفق مع ذاتية‌ الأدب العربي وانها مما يرفضه مزاج الأمة وان بلغ حماسهم له آخر مداه، وقد اثبتت هذه السنوات الطويلة التي تزيد على السبعين عاماً فشل هذه الدعوة‌ وانهيارها.

*******

 

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة