البث المباشر

مصادر الأدب العربي بين الأصالة والتزييف

الخميس 31 يناير 2019 - 17:32 بتوقيت طهران

الحلقة 166

من اكبر الاخطار التي واجهت الادب العربي عبر النظريات والمذاهب الغريبة الوافدة على ايدي دعاتها المروجين لها، قضية الاعتماد على المصادر الزائفة لتصوير شخصية الادب العربي، وكان ابرز من تزعم هذه الحملة التزويرية الظالمة هو المتغرب طه حسين الذي سار على خطى المستشرقين وجلهم من اليهود الحاقدين على الاسلام والمسلمين، ومن اهم هذه المصادر الزائفة المعتمدة الكتب التي تجمع اخبار الندماء والجلساء والمغنين والمضحكين امثال كتب اسحق بن ابراهيم الموصلي وابن خردا دله والمروزي وابن المرزبان وبعض مؤلفات الثعالبي والاغاني لابي الفرج الاصفهاني وغيرها. وكان لكتاب الف ليلة وليلة نفس الاثر اذ اهتم به عدد كبير من المستشرقين وقالوا عنه انه اكبر مصدر لتصوير المجتمع الاسلامي، يقول احد الباحثين: «عجبت من جعل كتب الادب التي يراد بها عادة الفكاهة ميزاناً يوزن به رجال التاريخ وتؤخذ به تراجم العظماء ودهشت من جعل ما كان يفعله خلفاء العرب وقضاتهم دليلاً على تجرد العرب من الحضارة، ولو جعل دليلاً على تجرد اولئك الخلفاء والقضاة انفسهم من الفضيلة لكان اقوم سبيلاً».
مثل هذه المصادر غير صالحة لانذار احكام عامة حاسمة على النحو الذي اندفع اليه طه حسين لاعتماده على مصدر واحد هو كتاب الاغاني وعلى ما جاء فيه من عدد من شعراء المجون امثال ابي نواس وبشار والضحاك وحماد عجرد، فهو يقول ان القرن الثاني للهجرة كان عصر شك ومجون وقال عن هؤلاء الشعراء انهم يمثلون عصرهم حقاً اكثر مما يمثله الفقهاء والمحدثون واصحاب الكلام، هذا الكاتب كان يستمد اراءه هنا من مصدرين اولهما كتاب الاغاني وثانيهما شعر الماجنين من الشعراء، والواقع انه لا كتاب الاغاني ولا اخبار هؤلاء المجان قادرة على تمثيل عصر بأكمله في بيئاته وفي اتجاهاته ومذاهبه الاجتماعية والفكرية، وقد توصل طه حسين الى حكمه هذا بأستقراء حال طائفة من الادباء والشعراء المترفين فرأى فيهم الشاك والماجن فأخذ العصر كله بجريرة هؤلاء وحكم بأن العصر عصر شك ومجون، والقاريء لكتاب الاغاني يخيل اليه من كثرة ما يذكر من مجون هؤلاء انهم في جو يسيل فسقاً ومجوناً والحاداً وعليه يتذكر ان مؤلف هذا الكتاب اهتم بتاريخ طائفة واحدة فقط هم الشعراء والمغنون وليس ذلك تاريخاً لسائر العصر، وهناك عوامل خاصة جعلت طائفة من الشعراء المستهترين ماجنين.
لا شك ان اصدار مثل هذه الاحكام يدخل في ذلك المنهج الغريب الواقد الذي استمد اصوله من الفلسفة الغربية المادية اساساً والذي اعتمد المنهج الديكارتي الاعتماد الذي صور الانسان حيواناً او المنهج النفسي الذي صوره متهالكاً على اللذات وانه جرى وراء المذهب اليهودي الذي بثه دوركاين او فرويد والذي يهدف الى تعرية البطولة والسخرية بالابطال، وتلمس المعايب لهم وذلك في نطاق تدمير كل مقومات الادب العربي وبطولات المسلمين والنتيجة ان المثقفين لا يجدون في بطولات امتهم ولا تاريخهم ولا ادبهم ما يريدون من مثل اعلى ولذلك يرتدون الى بطولات الغرب فيعجبون بها.
الاستاذ ابراهيم عبد القادر المازني يصور هذه النزعة التي حاول الدكتور طه حسين ادخالها في الادب العربي الحديث كأسلوب لنقد الادب العربي الموروث واتخاذ هذا الاسلوب وسيلة للطعن في التراث والاسلام والامة، يقول المازني «لقد لفتني من الدكتور ان له ولعاً بتعقب الزناة والفساق والفجرة في كتابيه حديث الاربعاء وقصص تمثيلية، ها هو حديث الاربعاء ماذا فيه؟ كلام كثير عن العصر العباسي وللعصر العباسي وجوه شتى، في وسعك ان تكتب عنه في عدة جهات وتتناول فلسفته او علمه او شعره وجده وهزله، ولكن الدكتور طه يدع كل جانب سوى الهزل والمجون ويروح يزعم انه عصر مجون ودعارة واباحية متغلغلة الى كل فرع من فروع الحياة، فلماذا لا يرى الماجنين والخليعين صورة منه ولم يكفي طه حسين ان يعمد الى طائفة معينة من شعراء العصر العباسي وان يرسم من سيرتهم صورة يزعمها صورة العصر، من هو ينكر ان غير هؤلاء من العلماء والشعراء‌ يمثل العصر العباسي ويقول المازني انه ما من عصر يمكن ان يكون له جانب واحد وانه لم يخل زمن قديم او حديث مثلما يصف طه حسين وليس هو وقفاً على ذلك العصر.
والواقع ان ما وصف بأنه منهج ادبي حديث لم يكن في الحقيقة الا محاولة لاغراق الادب العربي في مستنقعات التغريب وتدمير كل مقومات هذه الامة من خلال الخوض في كتاب الاغاني واعتماده اساساً لرسم صورة اجتماعية وهي صورة زائفة مغرضة مضطربة بعيدة عن مناهج البحث العلمي والنظرة المنصفة، هذا الاتجاه الذي يقوم على اقحام الادب في مختلف دوائر النشاط العقلي وعلى اخراج الادب نفسه من التقيد بقانون الاخلاق الذي يحرس المجتمع، هذا الاتجاه المغرض المزور للحقائق يقول عنه الاستاذ فريد وجدي ان واحداً من الادباء انتدب لالقاء محاضرات عن الادب في العصر الاموي فكان مما قاله عن الحاكم الماجن الخليع الوليد بن يزيد ان الخليفة الوليد بن يزيد انما قتل لانه كان يود ان يعيش على ما يقتضيه فن الحضارة فكان جزاءه ان لقي حتفه، ويعلق فريد وجدي على هذا الرأي فيقول ان ارادة التاريخ على هذا الوجه هو جناية على التاريخ وحقائق الاجتماع ويشين الدين ويسيء الى سمعة الشعب الذي يقتل رجلاً يريد ان يعيش عيشة حضارية كما زعم المحاضر، والحقيقة ان الوليد هذا كان متجرداً للهو والبطالة شغوفاً للفسق والاباحية مستخفاً بالدين والقرآن مجاهراً بالكفر، فهل هذه السيرة المنحطة الضالة الممعنة في اهمال الرعية والانحراف الى المجون والكفر تعتبر من مقتضيات الحضارة؟
قال طه حسين عن الماجنين الاباحيين ان هؤلاء الشعراء كانوا يمثلون عصرهم حقاً وقال معقباً خسرت الاخلاق من هذا التطور وربح الادب فلم يعرف العرب عصراً اكثر فيه مجوناً واتقن الشعراء التصرف في فنونه والوانه ثم كان من كثرة المجون او بعبارة اصح كان فساد الخلق في هذا العصر والعصور التي وليته ان ظهر جديد منه في الغزل لم يكن معروفاً في الجاهلية ولا في صدر الاسلام ولا في ايام بني امية وانما هو اثر من اثار الحضارة العباسية، اجل اذا سمعت رجلاً يقول ان الاخلاق فسدت وخسرت وان الادب ربح من وراء ذلك افلا ترى انه يحامي عن هذا الفساد ويسوغ هذه الخسارة؟ نعم وبلاريب بل انت تحس من كلامه الرضى والارتياح، ثم يمضي هذا الكاتب الواقع في قفص التغريب فيرد سير امثال الوليد ومطيع بن اياس والحسين بن الضحاك ووالبة ابن الحباب وابان بن مروان بن ابي حفصة. ويخلص الى القول ان القرن الثاني للهجرة على كثرة من عاش من الفقهاء والزهاد واصحاب الشك والمشغوفين بالجد انما كان عصر شك ومجون وعصر افتتان والحاد عن الاخلاق المألوفة والعادات الموروثة والدين ايضاً، وهذا تشويه وتمويه يريد ان يغرق شعور المسلم بهيمنة النزعات المنحرفة، وان مجانبة القيم هي السائدة في الحياة وهذا كما ترى مكر خبيث.

*******

 

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة