البث المباشر

الأساس المنسي لبناء الادب العربي -۲

الأربعاء 30 يناير 2019 - 11:50 بتوقيت طهران

الحلقة 157

الادب العربي نشأ في الجزيرة العربية فهي البيئة التي تشكلت فيها الخميرة الاساسية لللغة العربية ويرجع ذلك الى قرون عديدة سبقت الاسلام. ويمكن القول ان الجزيرة العربية عرفت مجتمعين احدهما في جنوب الجزيرة والاخر في وسطها وهما مجموعتا قحطان وعدنان وكانت كلها جماعات متناثرة، وقد تشكل العنصر العدناني في وسط الجزيرة نتيجة هجرة ابراهيم (عليه السلام) وزوجته هاجر وولده اسماعيل الى مكة حيث بئر زمزم، وكان الحدث الاكبر هو رفع ابراهيم واسماعيل قواعد البيت اي الكعبة وتجمع قبائل جرهم وغيرهم، وقيام دين التوحيد في المنطقة بنبوة اسماعيل بعد ابراهيم (عليهما السلام) وتكاد تجمع المصادر على ان اسماعيل هو اول من تكلم العربية وكان ذلك قبل الاسلام بثلاثة الاف عام تقريباً، ولا يعرف التاريخ من وقائع عصر ما قبل الاسلام اي الجاهلية الا شذرات قليلة واعظم حصيلة في هذا الشأن هو ما اورده القرآن الكريم وقد قسمت الجاهلية الى عصرين، الجاهلية الاولى والجاهلية الاخيرة التي تمتد الى القرنين من الزمان قبل الاسلام.
النصوص التاريخية تشير الى ان كلمة عربي لم تستعمل في الشعر الجاهلي او الاثار السابقة للاسلام وان القرآن ذكر هذه الكلمة وان الاسلام هو الذي اعطاها دلالتها الحقيقية اذ اقام وحدة الامة، وكانت العرب قبائل متفرقة لا يجمعها رابط، وقد كان للحنيفية السمحاء ودعوة التوحيد التي نادى بها ابراهيم واسماعيل اثرها البعيد في القيم الاخلاقية وفي مقدمتها الكرم وحماية الزنار والمروءة والاريحية. وهذا يذكر بحديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) «انما بعثت لاتمم مكارم الاخلاق» اي ان مكارم الاخلاق قد سبقت على ايدي الانبياء وجاء الاسلام ليتممها ويضعها في اصفى قالب واصدق نهج. وكان اختيار منطقة الجزيرة لرسالة الاسلام مرتبطاً على نحو ما بالرسالة الاولى الحنيفية التي جاء بها نبي الله ابراهيم، من هنا ربط القرآن بين الرسالة‌ الاولى والرسالة المجددة فقد اعلن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) انه جاء مجدداً للحنيفية السمحاء التي اقامها ابراهيم وفي نفس الوقت نجد ابراهيم يتطلع الى ان يبعث الله في العرب رسولاً منهم يحمل لواء التوحيد ويرفعه الى العالمين جميعاً.
كانت جاهلية العرب جاهلية ساذجة ولم تكن على شاكلية جاهلية اليونان والفرس والهنود والفراعنة ذات جذور عميقة وفلسفة مشكلة ذات طابع وثني عريق وانما كانت قشرة غالبة بدأت بالانحراف عن التوحيد الى عبادة الاوثان والى اشراك الالهة المرتجاة في الوساطة والزلفى الى الله تعالى.
وقد كشف القرآن الكريم عن زيف هذا الاتجاه وحرر العقيدة من كل عوامل الوثنية والشرك والتعدد، تلك اذن هي البيئة التي نشأ فيها الادب العربي، بيئة الصحراء والافق الطلق والشمس المشرقة والرؤية البعيدة والسماحة الذاتية وبيئة المراعي والامطار والتطلع الى فضل الله في اطار الصبر والمصابرة. وكانت هذه المعاني قبل الاسلام قد اصابها الاضطراب ووجهت بها الجاهلية الى المطامع والاهواء والاستعلاء والغرور بيد ان الاسلام لم يلبث ان ردها مرة اخرى الى اصولها الحقيقية وجردها من الهوى وجعلها خالصة لله.
العرب قبل الاسلام كانوا موحدين بدعوة ابراهيم (عليه السلام) ثم سقطوا في الوثنية وقد ظلت طائفة منهم تتعبد على دين ابراهيم حتى جاء الاسلام، ومن هنا فأن كل ما لديهم من سمات الايمان والخلق والكرم انما صدر عن ذلك الاصل القديم ثم جدده الاسلام فمنحه مضموناً رباني المحتوى انساني المظهر. وقد تقدم الاسلام الى العرب والى الناس جميعاً لا بأعتبار انه دين جديد ولكن بأعتبار انه دين الانسانية الاقدم خالصاً من جميع الشوائب التي الحقتها به الاجيال المتعاقبة، ونجح الاسلام في ربط الناس في مجتمع اوسع من العائلة او القرابة او القبيلة ولم يبق اثراً للتمييز على اساس العرق او اللون او اللغة او الوطن واعتبر وحدة الجنس اساس الوحدة البشرية فلم يعرف مجتمع الاسلام مفهوم العنصرية بل صهر الاسلام ذلك كله واقام منهجه الخالص في الامة الكبيرة الواحدة.
والعرب من غير الاسلام لم يكونوا شيئاً بل حتى لم يكونوا يسمون عرباً وبالاسلام اصبحوا امة ثم نقلهم هذا الدين الالهي الخاتم الى المجال العالمي، ان الرسالة الاسلامية قد كونت العرب ككل جديد واقامت لهم الوحدة على اساس العقيدة والفكر وكان وما يزال الحصن المنيع الذي رد عنهم العوادي وحطم الغزاة، وقد صحح الاسلام مفاهيم القيم التي كانت قد انحرفت من مباهاة وفخر وعصبية وتكاثر واستعلاء وارجعها الى اصولها الحقيقية بطلب الحق فجعل البطولة في الحرب وتفوق العالم في العلم وكرم الكريم في الانفاق لا من اجل الشهرة والظهور بل ابتغاء مرضاة الله تبارك وتعالى.
اما المضمون الذي تشكل الادب العربي في اطاره فهو قاعدة التوحيد واسس الاساس في المعتقد الاسلامي ومن ثم فهو لب الادب، والانسان في الاسلام مستخلف في الارض له طبيعته الاصيلة الجامعة بين الروح والجسم والعقل والقلب وهي طبيعة متكاملة لا تضارب فيها ولا صراع، وقد جاء الاسلام بفكرة رئيسية هي فكرة الحق في كل شيء فما يتصل بالكلام عن الله وعن الكون وعن المعرفة وعرض التحجر على الابائية والتقليد الباطل ودعا الى اليقين بعيداً عن الشك والظن، وفرق بين المعارف الجوهرية والمعارف غير الجوهرية التي ليس لها قيمة الا ان تكون زينة فقط وحث على نبذ الحديث الذي يظل الناس بغير علم، والقرآن الكريم لما كان المصدر الاصيل للمعرفة الاسلامية وجب ان يكون المثل الاعلى للادب العربي لانه مصدر العطاء في البيان وفي الفكر جميعاً وحفظ القرآن رابطة الفكر والبيان بين الشعوب الاسلامية وغيرها من الشعوب، وحفظ اللغة العربية ان تتمزق الى لهجات وهو الذي نشر هذه اللغة في الافاق حتى وصلت الى الصين في الشرق وفرنسا في الغرب وهو الذي حفظ اللغة العربية لساناً مبيناً خلال اربعة عشر قرناً حتى ان احد القدماء لو عاد الينا الان لتحدث الينا وتحدثنا معه بهذه اللغة وهو ما لم يقع في اي لغة اخرى من اللغات الحية.
ومرد ذلك الى احتفاظ العربية بمستوى بلاغة القرآن ومن هنا انطلقت الدعوة الى مهاجمة الفصاحة العربية والخطابة والشعر عن طريق احياء اللهجات العامية وعزل الناس عن لغة القرآن وذللت وحدة الفكر الجامع بين المسلمين تحقيقاً لاهداف معادية، والعربية بهذا المفهوم ليست لغة العرب وحدهم لكنها لغة فكر وثقافة ودين لاكثر من الف ميليون من المسلمين.

*******

 

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة