البث المباشر

مع موسى في لقاء العبد الصالح

الإثنين 28 يناير 2019 - 14:41 بتوقيت طهران

الحلقة 108

هوذا نحن نلتقي مرة اخرى مع الحب والمعرفة، الحب الروحي الصاعد المسافر على اجنحة المعرفة العلوية او المعرفة العميقة القيمة التي يحلق بها الحب الروحي ويكشف امامها المغاليق والاسرار، لن نبتعد نحن مع القرآن الكريم في عباراته ودلالاته وبالتحديد نحن في سورة‌ الكهف، في مقطع من سورة الكهف، والكهف نفسه رمز حصين للمعرفة المخبوءة المكنوزة المظنون بها على غير اهلها، فما هي حكاية هذا المقطع من سورة الكهف المباركة.
الشاطيء رمادي باهت والبحر امامه ساكن قرير، والمكان مضبب بشيء يشبه السر، ليس هناك بحر واحد، هناك بحران يلتقيان اي هناك سران قد اجتمعا فأزداد الامر غموضاً فوق غموض، اقدام موسى بن عمران (عليه السلام) تدب على رمال الشاطيء وقواقعه، العصا تنغرس في الرمال واحياناً يبلل الموج نهايتها، وتحس العصا انها تعيش زمنين في وقت واحد، طرف مغموس في مياه مالحة باردة وطرف يلتقي اشعة ‌الشمس الدافئة والمياه سر والشمس هي ايضاً سر وزمن القصة سر هو كذلك، لا يقول لنا: القرآن الكريم متى كان ذلك.
لا يقول لنا: أين كان ذلك، حدد القرآن المكان ولم يحدده، ان موسى يقرر امراً مفاجئاً، ان موسى يقرر لفتاه وهو فتى لا يذكر القرآن اسمه انه سيمضى حقباً ومسافات وازمنة حتى يبلغ مجمع البحرين. أين كان مجمع البحرين هذا؟ كان ملتقى البحرين هذا، لا يقول لنا القرآن شيئاً عن المكان فهو يحدده ولا يحده كذلك.
يقول المفسرون: ان رجلاً من قوم موسى سأله يوماً، من اعلم الناس في الارض اليوم يا موسى؟
فقال: انا، قالها بأعتباره كليم الله ونبياً من اولي العزم الكبار، فأوحى الله جل جلاله اليه ان يذهب الى مكان ليلتقي بعبد من عباد الله، اترى موسى قد ذهب ليتعلم؟
هل اخبره الله عزوجل انه قد قال: ما لا ينبغي لمن في مثل مقامه النبوي ان يقوله حين اعتقد انه اعلم الناس فهو رغم كونه نبياً وكليم الله تعالى فقد يكون في الارض من هو اعلم منه، هل ذهب موسى لهذا السبب؟ ام ذهب لان الله امره بذلك ليرى لوناً آخر من العلم الذي يختلف عن علمه؟ الآيات القرآنية لا تفصح بسر ذهابه بل تخفي هذا السر وهكذا يذهب موسى امامنا كأنه يمشي في ضباب، تأمل يا اخي العبد الذي ذهب اليه موسى ليتعلم منه ويتبعه.
ان العبد بغير اسم يقدمه القرآن مجهولاً بغير اسم، «فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا» تأمل معي هذه العبارة «فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا»ان العبد الصالح المنسوب الى الله عزوجل يظهر في نسيج القصة مدثراً بالغموض متشحاً بالضباب، رجل بلا اسم، مثل تلميذ الخضر، مثل المكان الذي ذهب اليه وهذا الغموض الذي يرتقي الى حد الرهبة الساكنة غموض مقصود ومتعمد لخدمة الغرض الاصيل في القصة، وهذا لون من الفن الرفيع في القرآن.
نريد ان نتأمل هذه الايات لنرى اعجاز الاسلوب الذي جاءت به القصة، «وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا، فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا، فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا، قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا، قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا، فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا»، تأمل يا اخي ظهور العبد على مسرح الاحداث، ان صوراً غريبة تقع امامنا قبل ان يظهر هذا العبد، في البدء نرى موسى مصراً على عدم اليأس فهو لن يتوقف عن الترحال والبحث حتى يصل الى مجمع البحرين ويصل موسى مع فتاه بعد رحلة شاقة الى المكان المحدد وينسى فتى موسى حوتاً صغيراً، ينسى سمكة كانت مشوية على النار مهيئة لغداء موسى، ينساها تماماً فتعود السمكة الى الحياة وتتسلل فِي الْبَحْرِ عَجَبًا، امر بالغ العجب ان تعود السمكة الى الحياة وتعود الى البحر بعد ان طهيت على‌ النار، لكن الاسرار تزداد كلما تقدمت سطور القصة ونحن لا نعرف لماذا وقعت هذه الخارقة او المعجزة في هذا الوقت بالتحديد وسنفهم فيما بعد ان هذه المعجزة اشارة‌ موحية من الله تعالى بتحديد المكان الذي سيعثر فيه موسى على العبد الرباني بعد ان تسللت السمكة الى البحر.
سار موسى وفتاه حتى تعب موسى واحس بالجوع وقَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا وتذكر فتى موسى كل ما حدث تذكر انه رأى السمكة تقفز من السلة الى البحر وتسبح فيه وتمضي في طيات الموج مثل سر صغير يذوب في سر اكبر، نسي فتى موسى كل شيء عما رآه، انساه الشيطان ان يحدث موسى بما وقع وذلك امر غريب لان ما وقع كان جديراً بأن يذكره فهو معجزة وكان جديراً بأن يحدث عنه موسى لانه ربما كان اشارة لموسى بشيء، وفهم موسى (عليه السلام) الاشارة الالهية على الفور قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ، هذا ما نريده بالضبط، هذه المعجزة او هذا السر اشارة الى سر آخر سنجده في هذا المكان وعاد موسى مع فتاه يقصان آثار اقدامهما حتى عادا الى المكان الذي تسلل فيه الحوت «فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا» ينسب الله تبارك وتعالى هذا العبد الى نفسه وينسبه الى عباده الذين اتاهم رحمة من عنده ويقدم الله سبحانه العبد بوصفه عبداً «وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا».
هذا العبد من عباد الله الذي اتاه الله رحمة من عنده وعلمه من لدنه علماً هو بطل القصة، وهو رجل بلا اسم في هذه الايات وان ورد في الاخبار ان اسمه الخضر، نحن امام رجل اتاه الله من علمه اللدني وهو علم عظيم خاص يسبر حقائق الامور وبواطن الاشياء يغاير المألوف وربما يصادمه، هذا العلم اللدني يختلف تماماً عن العلم البشري العادي، العلم اللدني ليس منسوباً الى الله فحسب بل هو من لدنه سبحانه وتعالى.
والتقى موسى (عليه السلام) هذا العبد عند مجمع البحرين، فكيف كان لقاءهما؟ موسى صاحب الشريعة المكلف بتبليغ الاحكام الالهية الظاهرية، كيف تعامل مع هذا العبد الذي يحمل العلم الباطن الذي يطلع على الحقائق ولا يكتفي بالظاهر المكشوف. لم يكد موسى يلتقي بهذا العبد حتى وجد نفسه في مقام المتعلم الذي يسأل وينتظر الجواب انه يسأل هذا العبد ان يتعلم منه ويتتلمذ على يديه، قال له موسى: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا، يبدأ هنا فصل جديد من فصول القصة المثيرة الدالة وهو ما سنتعرف عليه في اللقاء القادم بأذن الله.

*******

 

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة