بسم الله، والحمد لله، وأشرف الصلوات تازاكيات على رسول الله، وعلى آله الهداة أولياء الله. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
لقد أستأثرت شهادة الامام الحسين صلوات الله عليه بجميع المحافل العلمية والادبية والانسانية، فلم تبق فئة أو جماعة أو طائفة أو ديانة، الا ّ وكان لها رؤية أو خبر، أو رأي أو موقف، او شعور او عاطفة تجاه ماكان وقع يوم العاشر من محرم عام واحد وستين من الهجرة النبوية الشريفة، على ارض كربلاء.
حتى ان بعض المؤرخين حاول استباق الاحداث، فذهب الى الطف يواكب العسكرين، فيرى ويسمع ثم يدوّن ذلك على قرطاسه، وكان ذاك حميد بن مسلم.. فسُجلت كثير من الوقائع والحوارات، ونُقل الكثير من تفاصيل المعركة، فأ ُخذ من قبل الناس يتداولونه بعنوان (مقتل الامام الحسين عليه السلام)، وإن كنا نطمئن اطمئناناً كاملا ً الى ما روي عن أهل البيت عليهم السلام:
أولاً: ثم عمّن حضر مع الامام الحسين عليه السلام.
ثانياً: ثم ما رواه الثقات من المؤرخين، والرواة الموثوقن اجمالا ً، وما ورد بما يعضده العقل والاعتبار والاخبار الاخرى التي يُعتدّ بها ويُسكن اليها.
وكان من تلك المقاتل التي دونت من قبل مؤرخ معاصر لواقعة عاشوراء.. مقتل كتبه يراع المؤرخ الشهير أبي مخنف. فمن يا ترى هذا الرجل، وما خصائص المقتل الذي كتبه؟
ابو مخنف هو الشيخ لوط بن يحيى بن سعيد بن مخنف الازدي الغامدي، الكوفي، من أصلٍ نابه، فقد كان جده مخنف بن سُليم صحابيا ً، روى عن النبي صلى الله عليه وآله ومن أصحاب الامام علي عليه السلام، شهد واقعة الجمل حاملا ً فيها راية قبيلة الازد، فأستُشهد في تلك الواقعة سنة ست وثلاثين للهجرة. زكان ابوه يحيى بن سعيد بن مخنف من أصحاب أمير المؤمنين عليّ عليه السلام ايضا ً
فيكون أبو مخنف من هذا الباب وغيره ـ موثقا ًعند الشيعة، حتى انّ النجاشي أورده في رجاله وقال فيه: إنه يُسكَن الى ما يرويه.
يُذكر أن ابا مخنف كان صديقا حميما للنسّابة والرواية المعروف محمدّ بن السائب الكلبيّ، وقد عُرف بكثرة الرواية والنَّسَب، وبصورة عامّة كان أبو مخنف صاحب أخبار وأنساب، والاخبار عليه أغلب، ولم يُؤثر عنه روايات في أبواب الاحكام، لذا لا ينبغي معاملة راو ِ بقدر ما يعامل معاملة مؤرخ أخباري.. حتى انه حين تُرجم - كما في رجال العلامة الحليّ ورجال النجاشي وغيرهما - ذكر ان ابا مخنف كان شيخ أصحاب الاخبار بالكوفة ووجههم، بل كان ابرز الاخباريين فيما يتعلق بفتوح العراق، وأول من صنّف في اخبار الخوارج وأيام العرب وأحاديث الحكام والولاة وأخبار الفتوح، ختى انّ العلماء قد قسموا واية أحداث التاريخ الاسلامي بين ثلاثة رواة: أبي مخنف بأمر العراق وأخبارها وفتوحها، والمدائني بأمر خراسان والهند وفارس، والواقدي بالحجاز والشام.
ومع ذلك ـ ايها الاخوة الاكارم، اعتبره اكثر رجال الحديث راوية ثقة يُطمئنّ الى ما يرويه.
ومع اشتهار ابي مخنف بتشيعه، فقد اعتمد عليه ائمة علماء السنّة في النقل عنه، كالطبريّ، وابن الاثير ... وغيرهما. وأكثر المؤرخين هم عيال على ابي مخنف... هذا، مع انّ ابن ابي الحديد المعتزلي ينفي كون ابي مخنف شيعيا ً، بل يقول بأنه يرى صحة الامامة بالاختيار. نعم، وإن كان الاشهر انه كان شيعيا ً واضح الاهتمام بتاريخ التشيع.. ومن علامات ذلك ما كتبه حول أمير المؤمنين والحسن والحسين صلوات الله عليهم، وحول بني هاشم وأصحاب الائمة عليهم السلام.
وكان البارز في تواريخه الكثيرة تفصيله الفاخر في مقتل ابي عبد الله الحسين سلام الله عليه، كتبه برواية لم تكن إلا ّ عن واسطة واحدة غالبا ً، كأن التقى مرة ً بزوجة الشهيد زهير بن القين رضوان الله عليه وهي (دلهم بنت عمرو)، فروت له الوقائع التي جرت في كربلاء، يضاف الى ذلك سعة اطلاع ابى مخنف على أخبار العراقيين: الكوفة والبصرة، وعلى اخبار الكوفة ورجالاتها بالاخص، ثم انه كان معاصرا ً لمعظم التواريخ التي دوّنها من جهة، ومن جهة أخرى كان متتبعا ً للوقائق التي حدثت في زمانه، لا سيما احداث الشيعة في ذلك الوقت، راويا ً عن أفراد اسرته وأقربائه الشيعة في الكوفة، وعن رواة لم يعرفهم غيره، ومن هنا جاءته التهمة بأنه يروي عن مجاهيل، حتى نفى وثاقته جماعة من علماء السنة، ولم يوردوا دليلاً واحدا ً على نفي وثاقته سوى رميه بالتشيع، مع ان التشيّع عند اهل العلم لا ينفي الوثاقة.
يُضاف الى هذا أن جميع المذاهب اعترفت بأنّ أبا مخنف مؤرخ أخباري فطحل في بابه، إلا ّ أنّ الطعن وقع عليه من بعض المتعصبين روائيا ً للسلف، إذ كان الرجل يروي بعض مثالب السلف، وتلك مشكلة قديمة: بين الاخباريين والمؤرخين من جهة، وبين الفقهاء والرجاليين من جهة أخرى.
روى أبو مخنف عن مئتي راو ٍ تقريبا ً، أمّا مؤلفاته ومصنفاته فقد بلغت ستين كتاباً، ضاع الكثير منها أو أ ُتلف؛ لان تلك الكتب لم تكن تروق للحكومات الجائرة الظالمة، والباقي من مؤلفاته تناثر في الكتب، حتى ذُكر انه لا يوجد تاريخ في أحوال السلف خاليا عن الايماء الى ما كتبه أبو مخنف، ومن هنا حرّم بعضهم مراجعة التاريخ، مع انّ كتب الصحاح مشحونة بالايماء الى ما ذكره أبو مخنف وجميع المؤرخين.
وقد جُمعت أخبار ابي مخنف وما تناثر من رواياته في الكتب في مؤلفٍ بجزءين تحت عنوان: نصوص من تاريخ ابي مخنف، بأستخراج وتنسيق... وتحقيق الاستاذ كامل سلمان الجبوري ـ طبع ونشر: دار المحجة البيضاء، زدار الرسول الاكرم في بيروت / الطبعة الاولى سنة 1419هـ/1999 م، وقد سُمّي بـ(تاريخ ابي مخنف) لأن الخوارزمي الحنفي كتب في مؤلفه (مقتل الحسين عليه السلام) راويا ً عنه عبارة: (ذكر ابو مخنف في تاريخه الكبير).
نعم... وفي هذا التاريخ (مقتل الحسين عليه السلام نتعرّض له في لقائنا القادم بإذن الله تعالى، حتى ذلك الحين نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
*******