فالممرّ الذي كان يُعد إحدى الطرق البديلة على الخريطة التجارية للعالم، أصبح مفتاحاً رئيسياً بالنسبة لاقتصاد روسيا على خلفية التغييرات الجيوسياسية التي وقعت بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا. وتجد الآن موسكو، جارتها الجنوبية التي تُعد أهم قاعدة لمقاومة الغرب في الشرق الأوسط بوابة جديدة للعلاقات التجارية مع العالم وخصوصاً دول جنوب آسيا.
وتحدّث الكثير من المسؤولين الإيرانيين خلال الأشهر الماضية عن ضرورة توفير البنية التحتية لإكمال الممرّ باعتباره أحد أهم المشاريع المعمارية القائمة في البلاد. وفي السياق، أعلن وزير الطرق والتنمية العمرانية، مهرداد بذرباش أنّ ممرّ شمال-جنوب هو المهمة الرئيسية لوزراته، مؤكداً أنّه سيستخدم جميع الإمكانيات المتوفرة لإنجاز ذلك. وفي إشارة إلى المراحل المتبقية من المشروع وخصوصاً ما يتعلق بسكك الحديد شمالي إيران، قال بذرباش إنّها بحاجة إلى المزيد من التنسيق والتعاون المشترك بين الجانبين الإيراني والروسي.
التحديات المتبقية
وفي وقت سابق، أكد الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي خلال لقائه بنظيره الروسي، فلاديمير بوتين، عزم طهران استكمال مشروع ممرّ شمال-جنوب معتبراً إياه مدخلاً نحو تأسيس علاقات اقتصادية مستدامة بين البلدين. وبالفعل شهد المشروع تقدّماً ملحوظاً منذ تسلّم الحكومة الجديدة مقاليد السلطة في إيران مطلع آب/أغسطس الماضي، إذ أُنجز عدد من المشاريع المعمارية خلال أقل من عام، منها بناء خط سكة حديد بين مدينتي خاش وزاهدان والذي وصفته صحيفة "إيران" بخطوةٍ مهمة نحو تنفيذ رؤية إيران الاستراتيجية لتنمية الطرق والممرات.
ورغم كل ذلك لا يزال المشروع يواجه عقبات يتطلّب تجاوزها المزيد من الاستثمارات والجهود. وفي السياق ذاته، وصفت صحيفة خراسان الإيرانية تنفيذ مشروع سكك الحديد بين مدينتي رشت واستارا، شمالي غربي إيران، الحلقة المفقودة لإنهاء الجزء الإيراني من ممرّ شمال–جنوب. وبحسب تصريح مساعد وزير الطرق والتنمية العمرانية روح الله خادمي، يحتاج تنفيذ المشروع إلى ما يقارب 25 ألف مليار تومان ما يعادل 580 مليون دولار وفق سعر الصرف في السوق الحرّ.
أهم مميزات الممر
ويُعدّ ممرّ شمال-جنوب الذي يربط الهند بروسيا وشرق أوروبا عبر إيران، من أهم حلقات التجارة الدولية بين القارتين. ويتميّز بتوفيره طرقاً استثنائية تختصر المسافة والمدة اللازمتين لنقل السلع كما أنه يقلّل من تكلفة التجارة الدولية بشكل لافت. ووفق دراسة أجرتها العلاقات العامة للملاحة الإيرانية، تنخفض مسافة نقل السلع عبر الممر الإيراني الروسي إلى ما يقارب 9000 كيلو متر بالنسبة لقناة سوئز، بينما تتراجع تكلفة ذلك أكثر من 30 %. ويضم الممر شبكة واسعة من الموانئ والطرق وخطوط السكك الحديدية، تقع معظمها في الدول الثلاث الرئيسية التي تشكل الممرّ وهي الهند وإيران وروسيا.
ومن المتوقّع أن يحدث ممرّ شمال-جنوب بعد تفعيله بشكل كامل تحوّلاً اقتصادياً وعمرانياً في الكثير من الدول الواقعة في آسيا الوسطى، إذ يؤدي إلى ازدهار اقتصادي يتطلب رفع مستوى الإنتاجات الصناعية والزراعية إلى جانب زيادة إمكانية التجارة المتبادلة بين الدول الآسيوية نفسها بالنظر إلى حجم البنية التحتية التي يوفّرها الممرّ خصوصاً في المجال البري. إضافة إلى ذلك، تعد القدرات العسكرية والأمنية للدول الثلاث عاملاً محورياً في تعزيز مكانة ممرّ شمال–جنوب في الوقت الذي تعاني الكثير من مناطق العالم أزمات أمنية في ظل تصاعد الصراعات بين القوى العالمية.
تنافس القوى على مستقبل الخرائط التجارية
وبالتأكيد لا تنحصر ميزات الممرّ الإيراني والروسي بما ذكر إذ إنه يشكّل أحد الخيارات المطروحة فيما يمكن وصفه بـ "صراع الممرات". وتراهن كل من القوى العالمية منذ سنوات على ممرات متعددة بين آسيا وأوروبا تضمن مصالحها وتستهدف الأسواق الجديدة لقاعدتها الإنتاجية. وفي هذا المجال تركّز استراتيجية التحالف الغربي على ممرات تربط المسارات التجارية في المنطقة بفلسطين المحتلة وخصوصاً ميناء حيفا حتى وإن لم يحتوِ ذلك على مبررات اقتصادية معقولة.
ويشكّل ممرّ شمال–جنوب بديلاً أساسياً للخيار الغربي لمستقبل التجارة في الشرق الأوسط لا يمكن لدول المنطقة ومنها حلفاء أميركا تجاهل ذلك. وتثبت تجربة تعامل الدول الخليجية مع الصين ومبادرتها "الحزام والطريق" أن الدوافع الاقتصادية المستدامة والمربحة تؤدي دوراً مهماً في صناعة القرارات، هو دور قد يتجاوز أحياناً حدود التحالفات الأمنية والعسكرية بين الدول.
وفي السياق، يرى النائب في البرلمان الإيراني، محمد جواد أبطحي أنّ ممرّ شمال–جنوب سيخلق بيئة اقتصادية وتجارية جديدة في المنطقة ستنعكس على الأسواق الخليجية بالتأكيد حيث لا يمكن لهذه الدول أن تخطّط لمستقبل اقتصاداتها من دون أخذ هذا المتغيّر الأساسي بعين الاعتبار. ونتيجة لذلك ستكون للممرّ الذي يتم إحياؤه عقب التطورات العسكرية والسياسية في أوكرانيا، آثار جيوسياسية أيضاً على موازين القوى الإقليمية.
صعود آسيا في وجه الغرب
ويعتبر أستاذ التاريخ، بيتر فرانكوبان في كتابه الشهير "طرق الحرير"، صعود الممرات الآسيوية البرية في التجارة الدولية علامة على تشكيل نهضة اقتصادية في الشرق ستعيد شريان الاقتصاد العالمي إلى حيث كان قبل كشف الاستعمار الأوروبي ممرات مائية مكّنته من الالتفاف على آسيا ما أدى إلى تراكم القوة والثروة عند العواصم الأوروبية الصاعدة آنذاك. وفي ظل خروج العملاق الصيني عن سيطرة القوى الغربية إلى جانب تعاظم قدرات اللاعبين الآخرين كروسيا وإيران يمكن اعتبار أنّ المرحلة التي تحدّث عنها فرانكوبان في كتابه قد انطلقت فعلاً على الرغم من وجود تحديات كبرى أمامها.
تظهر هذه الحقائق أن مستقبل أحد أهم الممرات التجارية في العالم يرتبط بداخل الحدود الإيرانية، وهي الدولة التي تواجه أقسى العقوبات الغربية على خلفية الصراع القائم على القيم والمصالح. ويشكّل ممرّ شمال–جنوب بديلاً جديداً لإيران في إطار استراتيجيتها لتحييد أثر العقوبات في الوقت الذي تتعثر فيه المفاوضات مع الدول الغربية لإحياء الاتفاق النووي المبرم عام 2015.