فالهدى الذي يتصف به الإنسان من خلال معاناته في المعرفة هو هداه، والضَّلال الذي ينحرف به عن خطّ الاستقامة هو ضلاله، فلا يتحمَّل الناس الآخرون، مهما قربوا منه، خطاياه.
وفي ضوء ذلك، فإنه يتحمَّل النتائج الجيِّدة التي يمثّلها الهدى، والنتائج السلبيَّة التي يمثّلها الضلال، فالهدى يربطه بمواقع الخير في الدنيا والآخرة، بينما يؤدِّي به الضَّلال إلى مواقع الشرّ. أمَّا الله، فلا تنفعه طاعة من أطاعه، ولا تضرّه معصية من عصاه. ولذلك، فإنَّه من المفروض أن يفكر الإنسان في المسألة بطريقة ذاتية، تحسب حساب الربح والخسارة في الحياة من موقع الذات، كما يفكّر بطريقة مبدئيّة منطقيّة، الأمر الذي يعمِّق حسَّ المسؤوليّة لديه في أكثر من جانب.
وإذا كان الإنسان الآخر لا يتحمَّل مسؤوليَّة العامل بالخطيئة، أيّاً كانت صفته من قرابة وزوجيّة وغيرهما، فإننا نستوحي من ذلك، انسحاب المبدأ إلى الجانب المعنوي من العلاقات الخاصَّة والعامَّة، كما في مسألة الشَّرف التي قد يراها البعض، ممن يتحركون في أجواء الجاهليَّة العائلية أو القبلية، خاضعة في الجانب السلبي لانحراف فردٍ من العائلة أو القبيلة، فإذا أخطأت المرأة، مثلاً، بعلاقةٍ غير شرعية كالزنا، فإنَّ أهلها وعائلتها يعتبرون ذلك مسيئاً إلى شرفهم وعاراً عليهم، فيبادرون إلى غسل العار بقتلها، على أساس أنَّه لا يغسل العار إلا بالدَّم، وقد يتحوَّل ذلك إلى حالة وحشيَّة تضغط على المشاعر بطريقة همجيَّة تؤدي إلى وأد البنات، لأنهم يخافون من العار إذا امتدَّ العمر بالبنت وبلغت سنَّ الشباب ووقعت أسيرةً لدى الأعداء، فيسيء ذلك إلى شرفهم كما يدَّعون، وقد تنفجر هذه العقدة في المبادرة إلى قتل المرأة لمجرَّد اتهامها بالزنا، وإن لم يثبت ذلك بطريقة شرعيَّة.
إلَّا أنَّ المفهوم الإسلامي المرتكز على خطِّ العدالة، يؤكِّد لنا خطأ هذا السّلوك، ويقرِّر فرديَّة الشَّرف. فللمرأة شرفها الشخصيّ الذي يتعلَّق بها ولا يمتدّ إلى غيرها سلباً أو إيجاباً، وللرجل شرفه الشخصي كذلك، على أساس طبيعة السّلوك الذاتي الصَّادر عن كلّ منهما، ولا علاقة لأحد بأحد آخر في هذا المجال، ولا فرق في ذلك بين الرجل والمرأة.
بينما نرى المفهوم الجاهليَّ يفرّق بينهما، فيعتبر انحراف المرأة موجباً للعار على الأهل، ولا يرى انحراف الرجل كذلك، بل قد يرى في زنا الرجل مظهراً للفحولة والقوَّة لا مظهراً للضعف، لأنّه العنصر الفاعل الإيجابي في هذه العمليّة، أمَّا المرأة، فتمثِّل الجانب السّلبيّ الذي يعبِّر عن مظهر ضعف وانسحاق للشخصيَّة.
وقد نجد من الضروري تأكيد المسألة في التربية الخُلُقيَّة للإنسان المسلم، بحيث تتحوَّل الحالة الأخلاقيَّة لديه إلى حالة شعوريَّة وفكريَّة، فلا يتأثر بما حوله من التقاليد الجاهليَّة المجتمعيَّة في سلوكه العملي، بل يكون الحكم الشَّرعيّ هو الأساس في بناء عاداته وتقاليده الخاصّة والعامّة، حتى لا يعيش الازدواجية بين ما تفرضه الشريعة من مسؤوليَّات، وما تفرضه التقاليد الاجتماعيَّة من عادات وانفعالات، وقد يخضع - بفعل فقدان التوجيه الإسلامي الأخلاقي - لضغط التقاليد أكثر مما يخضع لتأثير الشَّريعة.
وهذا المنهج هو ما أشارت إليه أكثر من آية:
{مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}(الإسراء: 15). {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى* وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى}(النجم: 39 - 41). {وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ}(النساء: 111). {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}(فصِّلت: 46). {وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ}(البقرة: 48). {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ}(النحل: 111). {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبا}(الإسراء: 14).
* من كتاب "النَّدوة"، ج 16.
السيد محمد حسين فضل الله