البث المباشر

حرب البصرة

الخميس 15 نوفمبر 2018 - 19:57 بتوقيت طهران
حرب البصرة

انّ مقتل عثمان ومبايعة المسلمين للامام عليّ عليه السلام جعل الامور تتّخذ مجرىً آخر، حيث إنّ عدالة عليّ وتمسّكه بالاسلام لا تروق لاولئك الذين اكتنزوا الكنوز وامتلكوا الضّياع وبنوا القصور من أموال المسلمين

على الرغم من أنّ طلحة والزبير كانا من أشدّ الناقمين على سياسة عثمان، ومع أنّهما سبقا الناس في البيعة للامام عليّ عليه السلام بعد قتل عثمان، فإنّ الحركة الاصلاحية الّتي قادها الإمام عليه السلام في الحياة الإسلامية لم تجد هوى في نفسيهما؛ فبدأ في العمل للخروج على الإمام عليه السلام وإثارة المسلمين عليه، فكانت حصيلة ذلك فتنة عمياء كبدت الامّة خسارة فادحة، حيث أقنعا عائشة بنت أبي بكر بالخروج معهما إلى البصرة لقيادة عملية المعارضة على عليّ عليه السلام.
وما دام القوم قد رفعوا قميص عثمان للمطالبة بدمه، فلننظر موقف القيادات الّتي تزعّمت حركة المطالبة بدمه، كيف كان موقفها من عثمان نفسه عندما كان حيّاً.
فقد رووا أنّ الزبير كان يقول: اقتلوا عثمان فقد بدل دينكم، فقالوا له: انّ ابنك يحامي عنه بالباب ـ وكان ذلك أثناء الحصار الذي فرضه الثائرون على بيت عثمان ، فقال الزّبير: "ما أكره أن يقتل عثمان ولو بدئ بابني، إنّ عثمان جيفة على الصراط غداً ".
وأمّا طلحة، فقد ذكر المؤرّخ الواقدي انّه لمّا قتل عثمان وتذاكروا أمر دفنه والمكان الذي يدفن فيه قال طلحة: "يدفن بـ (ديرسلع) يعني مقابر اليهود.
وقال ابن أبي الحديد: "كان طلحة أشد الناس تحريضاً على عثمان، وكان الزبير دونه في ذلك؛ وروي أن عثمان قال: ويلي على ابن الحضرمية ـ يعني طلحة ـ أعطيته كذا وكذا بهاراً ذهب، وهو يروم دمي، يحرّض على نفسي، اللّهمّ لا تمتّعه به، ولقّه عواقب بغيه ". 
على انّ الإمام عليّاً عليه السلام قد طلب إلى طلحة ـ وكان عثمان محاصراً في بيته، أن يذهب لردّ الناس عنه، فقال طلحة: لا والله، حتّى تعطـيني بنو اميّـة الحق من نفسها ، أي أن ينصاع بنو اميّة وهم أقرباء الخليفة لمطاليب المسلمين الذين طالبوا بإعادة ما نهبه بنو اميّة منهم بالظلم والجور.
وأمّا عائشة بنت أبي بكر وزوجة رسول الله صلى الله عليه وآله، فقد كانت أشدّ القوم في حربها لعثمان، ونظراً لمكانتها المحترمة في النفوس، فقد كان الرواة والركبان يتناقلون فوراً ما كانت تتفوّه به ضدّه.
فعندما اشتدّ الحصار على عثمان، كانت قد توجّهت من المدينة المنوّرة إلى الحج، فناشدها بعض المسلمين القريبين منها أن تبقى في المدينة فلعلّ في وجودها ما يطفئ شيئاً من الثورة القائمة ضدّ عثمان، وكان مروان بن الحكم على رأس اولئك المطالبين، فردّت عليه عائشة: "يا مروان! وددت والله أنّه أي عثمان في غرارة من غرائري هذه، وأنّي طوّقت حمله حتّى ألقيه في البحر ".
كما التقت وهي في طريقها إلى الحج بالصحابي الجليل عبدالله بن عباس فنهته عن نصرة عثمان قائلة: "يا ابن عباس! إنّ الله قد آتاك عقلاً وفهماً وبيان، فإيّاك أن تردّ الناس عن هذا الطاغية ".
كما كان لعائشة موقف مشهور من الخليفة عثمان أطلقت على أثره شعارها المعروف: اقتلوا نعثلاً فقد كفر.
قال اليعقوبي المؤرّخ: كان عثمان يخطب، إذ دلّت عائشة قميص رسول الله ونادت: "يا معشر المسلمين! هذا جلباب رسول الله لم يبل، وقد أبلى عثمان سنّته. فقال عثمان: ربّ اصرف عنّي كيدهنّ إنّ كيدهنّ عظيم ".
وقال المؤرّخ ابن أعثم:
"لمّا رأت امّ المؤمنين اتفاق الناس على قتل عثمان قالت له: أي عثمان، خصصت بيت مال المسلمين لنفسك، وأطلقت أيدي بني اميّة على أموال المسلمين، ووليتهم البلاد، وتركت امّة محمّد في ضيق وعسر، قطع الله عنك بركات السماء وحرمك خيرات الأرض، ولولا أنّك تصلّي الخمس، لنحروك كما تنحر الابل، فقرأ عليها عثمان قوله تعالى:
(ضرب الله مثلاً للّذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبـدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئاً وقيل ادخلا النّار مع الدّاخلين ) ".
وبذلك كان الخليفة يعرّض بعائشة، فردّت هي بإطلاق شعار: "اقتلوا نعثلاً فقد كفر ". وتعني بنعثل الخليفة عثمان، ونعثل هي كلمة تعني الذّكر من الضّباع، والشّيخ الأحمق، ويهودياً كان بالمدينة ، وجميع تلك المعاني قارصة.
أمّا عمرو بن العاص، فبعد أن عزله عثمان عن ولاية مصر، غضب عليه وخرج يحرّض الناس ضدّ عثمان، و"كان من أشدّ الناس طعناً على عثمان، وقال: لقد أبغضت عثمان وحرّضت عليه حتّى الرّاعي في غنمه "، وبلغ في تحريضه انّه وصل إلى أرض فلسطين وبدأ بتحريض الناس على عثمان .
هذا وقد كان موقف معاوية بن أبي سفيان عندما أرسل مجموعة من الجند لنصرة عثمان، إلاّ أنّه أمر قائدهم بالتوقّف خارج المدينة، وكان الهدف من ذلك "انّه ينتظر عقبى الصّراع... ".
إلاّ أنّ مقتل عثمان ومبايعة المسلمين للامام عليّ عليه السلام جعل الامور تتّخذ مجرىً آخر، حيث إنّ عدالة عليّ وتمسّكه بالاسلام لا تروق لاولئك الذين اكتنزوا الكنوز وامتلكوا الضّياع وبنوا القصور من أموال المسلمين، فقاموا متحدين لمقاومة عدالة الاسلام الّتي لن تكتفي بحرمانهم ممّا ألفوه من النهب، بل ستأخذ منهم حتّى تلك الاموال الّتي نالوها بطريقة غير مشروعة، وجعل اولئك الذين تمنّوا الموت لعثمان وحرّضوا الناس ضدّه حتّى أودوا بحـياته، جعلهم متّحدين يطالبـون بدمه، حيث اتّفق طلحة والزبير ومعهما امّ المؤمنين عائشة وخرجوا إلى البصرة مطالبين بدم عثمان! إنّها من الامور الّتي تدهش اللّبيب حقّاً.
وقد بذل الإمام عليه السلام جهداً كبيراً لتحاشي هذه الفتنة فلم يأل جهداً في بذل النصح لهما وتحميلهما مغبّة ما سيكون إذا نشبت الحرب، وهذه نصيحته عليه السلام لهما:
"أمّا بعد، يا طلحة! ويا زبير! فقد علمتما أنّي لم أرد الناس حتّى أرادوني، ولم ابايعهم حتّى أكرهوني، وأنتما أوّل من بادر إلى بيعتي، ولم تدخلا في هذا الأمر بسلطان غالب، ولا لعرض حاضر، وأنت يا زبير، ففارس قريش، وأنت يا طلحة فشيخ المهاجرين، ودفعكما هذا الأمر قبل أن تدخلا فيه كان أوسع لكما من خروجكما منه، ألا وهؤلاء بنو عثمان هم أولياؤه المطالبون بدمه، وأنتما رجلان من المهاجرين، وقد أخرجتما امّكما من بيتها الّتي أمرها الله تعالى أن تقرّ فيه، والله حسبكما ".
وفي البصرة استمرّ الإمام عليه السلام يبذل نصحه من أجل حقن الدماء، فأرسل للناكثين رسولاً يدعوهم للصلح ورأب الصدع.
كما التقى بالزبير وذكره بامور جرّت لهما في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله منها قوله:
"ما حملك على ما صنعت يا زبير؟ قال: حملني على ذلك الطلب بدم عثمان!
فقال الإمام عليه السلام: إن أنصفت من نفسك، أنت وأصحابك قتلتموه، ولكنّي انشدك الله يا زبير أما تذكر، قال لك رسول الله صلى الله عليه وآله: يا زبير! أتحبّ عليّاً؟ فقلت: وما يمنعني من حبّه وهو ابن خالي. فقال لك: أما أنّك ستخرج عليه وأنت ظالمٌ له؟. فقال الزّبير: اللّهم بلى، قد كان ذلك.
فقال الإمام: انشدك الله أتذكر يوم جاء رسول الله صلى الله عليه وآله من عند بني عوف، وأنت معه، وهو آخذ بيدك فاستقبلته، فسلّمت عليه، فضحك في وجهي، وضحكت إليه. فقلت أنت: لا يدع ابن أبي طالب زهوه، فقال صلى الله عليه وآله لك: مهلاً يا زبير ليس بعليّ زهوةٌ، ولتخرجنّ عليه يوماً وأنت ظالمٌ له؟
فقال الزّبير: اللّهمّ بلى، ولكنّي قد نسيت ذلك، وبعد أن ذكّرتنيه لانصرفنّ ".
وقد عزم الزبير على اعتزال الناس، غير أن ابنه عبدالله وصفه بالجبن إن هو أقدم على ذلك.
وهكذا تفجّر الموقف واندلع القتال بين المعسكرين.
 

الموقف الانساني 

غير أنّ الإمام ظلّ ملتزماً بالصبر والاناة وبما امتاز به من الروح الانسانية الرفيعة، فها هو يخاطب جيشه ـ بعد اندلاع القتال، وبعد أن ذهبت كل محاولاته لاصلاح الموقف سدىً ـ ملزماً أصحابه بأرفع الاخلاق الّتي يريد الله سبحانه من المسلم الالتزام بها في ساحة الحرب:
"أيّها الناس! انشدكم الله أن لا تقتلوا مدبر، ولا تجهزوا على جريح، ولا تستحلّوا سبي، ولا تأخذوا سلاح، ولا متاع"، موضحاً بذلك أحكام شريعة الله تعالى في البغاة.
ثمّ دعا ربّه الأعلى سبحانه مستجيراً من الفتنة الّتي فجّرها الناكثون معلناً براءته منها أمام الله الكبير المتعالي.
فبعد أن رفع يديه إلى السماء قال: "اللّهمّ إنّ طلحة والزبير أعطياني صفقة أيديهما طائعين، ثمّ نصبا لي الحرب ظاهرين، اللّهمّ: فأكفنيهما بما شئت وكيف شئت... ".
وحين أسفرت المعركة عن انتصار ساحق لمعسكر الإمام عليه السلام على خصومه أعلن الإمام العفو العام عن جميع المشتركين في حربه:
"ألا لا يجهز على جريح، ولا يتّبع مولّ، ولا يطعن في وجه مدبر، ومن ألقى السّلاح فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ولا يستحلنّ فرجٌ ولا مالٌ، وانظروا ما حضر به الحرب من آنية فاقبضوه، وما كان سوى ذلك فهو لورثته، ولا يطلبنّ عبدٌ خارج من المعسكر، وما كان من دابّة أو سلاح فهو لكم، وليس لكم امّ ولد ـ الامة استولدت ذكراً أو انثى ـ والمواريث على فريضة الله، وأي امرأة قتل زوجه، فلتعتد أربعة أشهر وعشراً".
فقال بعض أصحابه: يا أمير المؤمنين! تحلّ لنا دماؤهم ولا تحلّ لنا نساؤهم؟
فقال عليه السلام: "كذلك السـيرة في أهل القبلـة". بيد أن بعضاً من جيشـه كانوا يرغبون في الحصول على مغانم أكبر ممّا حدّده الإمام عليه السلام. فقام له رجل قائلاً: يا أمير المؤمنين! والله ما قسمت بالسوية ولا عدلت في الرعيّة. قال الإمام عليه السلام: ولم؟ ويحك! قال: لأنّك قسمت ما في المعسكر وتركت الاموال والنّساء والذريّة!!
فقال له الإمام عليه السلام موضحاً فلسفة ذلك الموقف الكريم الذي التزمه:
"يا أخا بكر! إنّك امرؤٌ ضعيف الرأي، أوما علمت أنّا لا نأخذ الصغير بذنب الكبير، وأنّ الأموال كانت لهم قبل الفرقة وتزوّجوا على رشدة وولدوا على الفطرة، وإنّما لكم ما حوى عسكرهم، وما كان في دورهم فهو ميراثٌ لذرّيّتهم، فإن عدا علينا أحد منهم أخذناه بذنبه، وإن كفّ عنّا لم نحمل عليه ذنب غيره.
يا أخا بكر! لقد حكمت فيهم بحكم رسول الله صلى الله عليه وآله في أهل مكّة: قسّم ما حوى العسكر، ولم يعرض لما سوى ذلك وانّما اتبعت أثره.
يا أخا بكر! أما علمت أن دار الحرب يحلّ ما فيها؟
وأنّ دار الهجرة يحرم ما فيها إلاّ بحقّ ".
هذه بعض مصاديق الموقف الانساني الفريد الموافق لامر الله والمطابق لشريعته الغرّاء الذي التزم به الإمام عليه السلام في معاملة المنهزمين من خصومه، إنّه موقف لا ترى فيه للعاطفة والاندفاع والتشفّي أثر، إنّه موقف جسّد فيه الإمام حكم الله تعالى. وهل غير عليّ عليه السلام جدير بتجسيد حكم شريعة الله فيما شجر بين الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وآله؟!
وواصل الإمام عليه السلام خطواته الانسانية إزاء الناكثين بعد ذلك حيث أعاد عائشة إلى المدينة المنوّرة معزّزة مكرّمة رغم موقفها منه.
وهكذا حسم الإمام عليه السلام الموقف لمصلحة الاسلام في فتنة البصرة، فأبدى خلاله وبعده أنبل المشاعر وأصدقها نحو المغرّر بهم محاولاً بذلك رأب الصّدع وجمع الشّمل وإعزاز الامّة.

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة