البث المباشر

بعد إمامة الإمام الحسن العسكري عليه السلام ( 1 )

الثلاثاء 20 نوفمبر 2018 - 13:23 بتوقيت طهران
بعد إمامة الإمام الحسن العسكري عليه السلام ( 1 )

عصر الإمام الحسن العسكري عليه السلام

لقد أمضى الإمام الحسن العسكري الجزء الأكبر من عمره الشريف في العاصمة العباسية ـ ‏سامراء ـ وواكب جميع الظروف والملابسات والمواقف التي واجهت أباه الإمام علياً الهادي ‏عليه السلام، ثم تسلّم مركز الإمامة وقيادة الاُمة الاسلامية سنة (254هـ) بعد وفاة أبيه عليه ‏السلام وعمره الشريف آنذاك (22) عاماً.‏
وكانت مواقفه امتداداً لمواقف أبيه عليه السلام بوصفه المرجع الفكري والروحي لأصحابه ‏وقواعده وراعياً لمصالحهم العقائدية والاجتماعية بالاضافة الى تخطيطه وتمهيده لغيبة ولده ‏الإمام المهدي المنتظر عليه السلام(1)‏.‏
وبالرغم من الضعف الذي كان قد أحاط بالدولة العباسية في عصر الإمام عليه السلام لكن ‏السلطة القائمة كانت تضاعف اجراءاتها التعسفيّة في مواجهة الإمام الحسن العسكري عليه ‏السلام والجماعة الصالحة المنقادة لتعاليمه وارشاداته عليه السلام. فلم تضعف في مراقبته ولم ‏تترك الشدة في التعامل معه بسجنه أو محاولة تسفيره إلى الكوفة خشية منه ومن حركته الفاعلة ‏في الاُمة وتأثيره الكبير فيها.‏
ثم إن المواجهة من الإمام كقيادة للحركة الرسالية لم تكن خاصة بالخلفاء العباسيين الذين ‏عاصرهم الإمام عليه السلام إذ كان هناك أيضاً خطر النواصب وهم الذين نصبوا العداء لأهل ‏البيت النبوي عليهم السلام ووقفوا ضد اطروحتهم الفكرية والسياسية المتميزة التي كانت ‏تتناقض مع اطروحة الحكم القائم والطبقة المستأثرة بالحكم والمنحرفة عن الإسلام النبوي. (2)‏‏
والنواصب ـ الاُمويون منهم أو العباسيون ـ كانوا يعلمون جيّداً أن أهل البيت النبوي هم ورثة ‏النبي الحقيقيون، ولا يمكنهم أن يسيطروا على السلطة إلاّ بإبعاد أهل البيت عليهم السلام عن ‏مصادر القدرة وذلك بتحديد الأئمة المعصومين وشيعتهم وشلّ حركتهم وعزلهم عن الاُمة ‏والتضييق عليهم بمختلف السبل وبما يتاح لهم من وسائل قمعية.‏
وقد يكون لطبيعة هذه الظروف والملابسات التي عانى منها الإمام العسكري وشيعته الدور ‏الأكبر في ما كان يتّخذه الإمام عليه السلام من مواقف سلبية أو إيجابية إزاء الأحداث والظواهر ‏التي منيت بها الاُمة الاسلامية والتي ستعرفها فيما بعد.‏
لقد عاصر الإمام العسكري عليه السلام ثلاثة من خلفاء الدولة العباسية، فقد عاش عليه السلام ‏شطراً من خلافة المعتز والذي هلك على أيدي الأتراك، ليخلفه المهتدي العباسي الذي حاول أن ‏يتخذ من سيرة عمر بن عبد العزيز الاُموي مثلاً يحتذي به إغراء للعامّة ولينقل أنظارهم ‏المتوجهة صوب الإمام العسكري عليه السلام لزهده وتقواه وورعه، وما كان يعيشه من ‏همومهم وآلامهم التي كانوا يعانونها من السلطة وتجاوزاتها في الميادين المختلفة.‏
ولم يفلح المهتدي بهذا السلوك لازدياد الاضطراب في دائرة البلاط العباسي نفسه مما أثار ‏الأتراك عليه فقتلوه عام (256هـ)، وقد اعتلى العرش العباسي من بعده المعتمد الذي استمر في ‏الحكم حتى عام (270 هـ )(3)‏.‏
لقد قاسى الشيعة والإمام الحسن العسكري عليه السلام في عهد المهتدي الكثير من الظلم ‏والتعسّف، ويمكن أن نقف على ذلك من خلال ما رواه أحمد بن محمد حيث قال: كتبت إلى أبي ‏محمد عليه السلام ـ حين أخذ المهتدي في قتل الموالي ـ ياسيدي الحمد لله الذي شغله عنك، فقد ‏بلغني أنّه يتهدّدك ويقول: «والله لأخلينّهم عن جديد الأرض» فوقّع أبو محمد عليه السلام بخطه: ‏‏«ذاك أقصر لعمره، وعد من يومك هذا خمسة أيّام ويقتل في اليوم السادس بعد هوان واستخفاف ‏بموته»، فكان كما قال عليه السلام، وقد سبق أن أوضحنا ذلك(4)‏.‏
ومن مظاهر اضطهاد الشيعة ومصادرة أملاكهم وأموالهم ما روي عن عمر بن أبي مسلم حيث ‏قال: قدم علينا (بسرّ من رأى) رجل من أهل مصر يقال له سيف بن الليث يتظّلم الى المهتدي ‏في ضيعة له قد غصبها إياه شفيع الخادم وأخرجه منها، فأشرنا عليه أن يكتب إلى أبي محمد ‏عليه السلام يسأله تسهيل أمرها، فكتب إليه أبو محمد عليه السلام: «لا بأس عليك ضيعتك تردّ ‏عليك فلا تتقدّم الى السلطان وألق الوكيل الذي في يده الضيعة وخوّفه بالسلطان الأعظم الله ربّ ‏العالمين»، فلقيه، فقال له الوكيل الذي في يده الضيعة قد كُتب إليّ عند خروجك من مصر أن ‏أطلبك وأردّ الضيعة عليك، فَرَدَّها عليه بحكم القاضي ابن أبي الشوارب وشهادة الشهود ولم ‏يحتج الى أن يتقدّم الى المهتدي(5)‏.‏
ويمكن الاستدلال من خلال النص على اتساع القاعدة الشعبية للإمام عليه السلام وصلته بهم ‏وعمق الأواصر التي كانت تصله بهم، فهو يتفقّد ما يحتاجونه، ويساهم بصورة مباشرة أو غير ‏مباشرة في قضاء حوائجهم، وإن لبعض أصحابه في الأمصار تأثيراً وعلائق بالولاة ومن ‏يديرون الاُمور في الولايات، فكانت أخبار شيعته تصله أوّلاً بأول، ويحاول إبعادهم عن الوقوع ‏في حبائل السلطان وشركه كما في قصة سيف بن الليث المصري. ‏
لقد كان المهتدي يهدّد الإمام بالقتل وقد بلغ النبأ بعض أصحاب الإمام عليه السلام فكتب إليه: يا ‏سيدي الحمدلله الذي شغله عنك فقد بلغني أنه يتهددك. وذلك حين انشغل المهتدي بفتنة الموالي، ‏وعزم على استئصالهم. وهنا نجد الإجابة الدقيقة من الإمام عليه السلام حول مستقبل المهتدي ‏حيث كتب الجواب مايلي: ذاك أقصر لعمره، عدّ من يومك هذا خمسة ويقتل في اليوم السادس ‏بعد هوان واستخفاف يمرّ به(6)‏. وكان كما قال فقد انهزم جيشه ودخل سامراء وحده مستغيثاً ‏بالعامة منادياً يامعشر المسلمين: أنا أميرالمؤمنين قاتلوا عن خليفتكم، فلم يجبه أحد(7)‏.‏
وقال أبو هاشم الجعفري: كنت محبوساً مع الحسن العسكري في حبس المهتدي بن الواثق فقال ‏لي: في هذه الليلة يبتر الله عمره، فلمّا أصبحنا شغب الأتراك وقُتل المهتدي وولّي المعتمد ‏مكانه(8)‏.‏
 

المعتمد والإمام العسكري عليه السلام

سعى المعتمد جاهداً في التخلص من الإمام العسكري عليه السلام أي انّه سارَ على ذات المنهج ‏الذي اتّبعه أسلافه من الخلفاء الأمويين والعباسيين مع الأئمة المعصومين عليهم السلام غير أنّ ‏موقفه هذا سرعان ما تغيّر ظاهراً، وقدّم الاعتذار للإمام عليه السلام بعد محاولة لتصفيته برميه ‏مع السباع كما عمل مثل ذلك المتوكّل مع أبيه علي الهادي عليه السلام وذلك حين سلّم الإمام ‏العسكري عليه السلام إلى يحيى بن قتيبة الذي كان يضيّق على الإمام عليه السلام حيث رمى به ‏إلى مجموعة من السباع ظنّاً منه أنها سوف تقتل الإمام عليه السلام، مع العلم بأن امرأة يحيى ‏كانت قد حذّرته من أن يمس الإمام بسوء بقولها له: «اتقّـِ الله فإني أخاف عليك منه».‏
وروي أن يحيى بن قتيبة قد أتاه بعد ثلاث مع الاستاذ فوجده يصلّي، والاُسود حوله، فدخل ‏الاُستاذ الغيل ـ أي موضع الأسد ـ فمزّقته الاُسود وأكلته وانصرف يحيى إلى المعتمد وأخبره ‏بذلك، فدخل المعتمد على العسكري عليه السلام وتضرّع إليه...(9)‏‏
واستمر المعتمد في التضييق على الإمام الحسن العسكري عليه السلام فيما بعد حتى ألقى به في ‏سجن علي بن جرين وكان يسأله عن أخباره فيجيبه: إنّه يصوم النهار ويقوم الليل. (10)‏‏
وقال ابن الصباغ المالكي: حدث أبوهاشم داود بن القاسم الجعفري قال: كنت في الحبس الذي ‏بالجوشق أنا والحسن بن محمد العتيقي ومحمد بن ابراهيم العمري وفلان وفلان خمسة ستة من ‏الشيعة، إذ دخل علينا أبو محمد الحسن بن علي العسكري عليهما السلام وأخوه جعفر فخففنا ‏بأبي محمد، وكان المتولي لحبسه صالح بن الوصيف الحاجب، وكان معنا في الحبس رجل ‏جمحي.‏
فالتفت إلينا أبو محمد وقال لنا سرّاً: لولا انّ هذا الرجل فيكم لأخبرتكم متى يفرج عنكم وترى ‏هذا الرجل فيكم قد كتب فيكم قصته الى الخليفة يخبره فيها بما تقولون فيه وهي مدسوسة معه ‏في ثيابه يريد أن يوسع الحيلة في ايصالها الى الخليفة من حيث لا تعلمون، فاحذروا شرّه.‏
قال أبو هاشم: فما تمالكنا أن تحاملنا جميعاً على الرجل، ففتشناه فوجدنا القصة مدسوسة معه ‏بين ثيابه وهو يذكرنا فيها بكل سوء فأخذناها منه وحذرناه، وكان الحسن يصوم في السجن، فإذا ‏أفطر أكلنا معه ومن طعامه وكان يحمله إليه غلامه في جونة مختومة.‏
قال أبو هاشم: فكنت أصوم معه فلمّا كان ذات يوم ضعفت من الصوم، فأمرت غلامي فجاءني ‏بكعك فذهبت الى مكان خال في الحبس، فأكلت وشربت، ثم عدت الى مجلسي مع الجماعة ولم ‏يشعر بي أحد، فلمّا رآني تبسّم وقال: افطرت، فخجلت، فقال: لا عليك يا أبا هاشم، إذا رأيت انّك ‏قد ضعفت واردت القوّة فكل اللحم، فإنّ الكعك لا قوّة فيه، وقال: عزمت عليك أن تفطر ثلاثاً ‏فإنّ البنية إذا انهكها الصوم لا تقوى إلاّ بعد ثلاث.‏
قال أبو هاشم: ثم لم تطل مدّة أبي محمد الحسن في الحبس إلاّ أن قحط الناس بسرّ من رأى ‏قحطاً شديداً، فأمر الخليفة المعتمد على الله ابن المتوكّل بخروج الناس الى الاستسقاء فخرجوا ‏ثلاثة أيام يستسقون ويدعون فلم يسقوا، فخرج الجاثليق في اليوم الرابع الى الصحراء وخرج ‏معه النصارى والرهبان وكان فيهم راهب كلّما مدّ يده الى السماء ورفعها هطلت بالمطر.‏
ثم خرجوا في اليوم الثاني وفعلوا كفعلهم أول يوم فهطلت السماء بالمطر وسقوا سقياً شديداً، ‏حتى استعفوا، فعجب الناس من ذلك وداخلهم الشك وصفا بعضهم الى دين النصرانية فشقّ ذلك ‏على الخليفة، فانفذ الى صالح بن وصيف ان اخرج أبا محمد الحسن بن علي من السجن وائتني ‏به.‏
فلمّا حضر أبومحمد الحسن عند الخليفة قال له: ادرك اُمة محمد فيما لحق في هذه النازلة، فقال ‏أبو محمد: دعهم يخرجون غداً اليوم الثالث، قال: قد استعفى الناس من المطر واستكفوا فما فايدة ‏خروجهم؟ قال: لأزيل الشك عن الناس وما وقعوا فيه من هذه الورطة التي أفسدوا فيها عقولاً ‏ضعيفة.‏
فأمر الخليفة الجاثليق والرهبان أن يخرجوا أيضاً في اليوم الثالث على جاري عادتهم وان ‏يخرجوا الناس، فخرج النصارى وخرج لهم أبومحمد الحسن ومعه خلق كثير، فوقف النصارى ‏على جاري عادتهم يستسقون إلاّ ذلك الراهب مدّ يديه رافعاً لهما الى السماء، ورفعت النصارى ‏والرهبان ايديهم على جاري عادتهم، فغيمت السماء في الوقت ونزل المطر.‏
فأمر أبو محمد الحسن القبض على يد الراهب وأخذ ما فيها، فإذا بين أصابعها عظم آدمي، ‏فأخذه أبو محمد الحسن ولفه في خرقة وقال: استسقِ فانكشف السحاب وانقشع الغيم وطلعت ‏الشمس فعجب الناس من ذلك، وقال الخليفة: ماهذا يا أبا محمد؟! فقال: عظم نبي من أنبياء الله ‏عزّ وجل ظفر به هؤلاء من بعض فنون الأنبياء وما كشف نبي عن عظم تحت السماء إلاّ ‏هطلت بالمطر، واستحسنوا ذلك فامتحنوه فوجدوه كما قال.‏
فرجع أبو محمد الحسن الى داره بسرّ من رأى وقد أزال عن الناس هذه الشبهة وقد سرّ الخليفة ‏والمسلمون ذلك وكلّم أبومحمد الحسن الخليفة في اخراج أصحابه الذين كانوا معه في السجن، ‏فاخرجهم وأطلقهم له، وأقام أبومحمد الحسن بسر من رأى بمنزله بها معظماً مكرّماً مبجلاً ‏وصارت صلات الخليفة وانعامه تصل اليه في منزله الى أن قضى تغمّده الله برحمته(11)‏.‏المصدر:

اعلام الهداية، الامام الحسن بن علي العسكري (ع)، المولف: لجنة التأليف، تاريخ النشر: 1422 هـ، الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (ع)

‏1- الأئمة الاثنا عشر: 235، دار الأضواء، 1404هـ.‏
2- الأئمة الاثنا عشر: 235.‏
3- الفخري في الآداب السلطانية، ابن طباطبا: 221.‏
‏4- اُصول الكافي: 1/510 ح 16 وعنه في الارشاد: 2/331 وفي اعلام الورى: 2/144، 145 ‏وعن الارشاد في كشف الغمة: 3/204 .‏
‏5- اُصول الكافي: 1/511 ح 18 .‏
‏6- اعلام الورى: 356 .‏
‏7- الكامل في التاريخ: 5/356 .‏
‏8- المناقب: 2/462 .‏
9- مناقب آل أبي طالب: 4/430.‏
10- مهج الدعوات: 275.‏
11- الفصول المهمة: 286.‏

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة