البث المباشر

همسات في شغاف القلب- العفو

السبت 9 نوفمبر 2019 - 14:36 بتوقيت طهران

إذاعة طهران- همسات في شغاف القلب: الحلقة 10

الحمد لله الاول قبل الانشاء والاحياء والاخر بعد فناء الاشياء، وافضل الصلاة على سيد الانبياء وعلى آله الائمة الامناء.
اخوتنا واعزتنا المستمعين الاكارم .. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته واهلاً بكم في حديث حول خصلة تكاد تكون من ضرورات الخصال في معاشراتنا مع الناس، تلك هي خصلة "العفو"، فنحن نعيش في اوساط تتغاير فيه الافهام، وتختلف النفوس وتتباين الامزجة، وتتعارض الطباع والصفات .. فلابد حسن الخلق، كما لابد من العفو والمسامحة كلما حصل سوء تفاهم، او اساءات واخطاء، لكي تستمر الروابط الانسانية، والصلات الاخوانية، والاواصر الرحمية فيما بيننا.. والا فقد يجر العتاب الى الهجرة والخصومة والقطيعة، يقول الشاعر:

اذا كنت في كل الامور معاتباً

صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه

فعش واحداً، او صل اخاك فانه

مقارف ذنب مرة ومجانبه

قيل ـ ايها الاخوة الاحبة ـ العفو: هو انك تستحق حقاً فتسقطه وتبرأ عنه، وقيل: العفو هو ضد الانتقام، او هو ترك معاقبة المذنب والعافي لابد ان يكون مقتدراً ثم يعفو.. فقد جاء في كلام للامام امير المؤمنين علي عليه السلام "احسن افعال المقتدر.. العفو. احسن العفو ما كان عن قدرة. عند كمال القدرة تظهر فضيلة العفو.
وليس العفو ان يترك العافي عقوبة المسيء اليه فسحب بل يترك عتابه وتوبيخه ايضاً.. ففي قوله تعالى: "فاصفح الصفح الجميل" (سورة الحجر:۸٥)، قال الامام علي بن موسى الرضا صلوات الله عليه مبيناً معنى الصفح الجميل: "العفو من غير عتاب".
وقد يتسامى العافي فلا يكتفي بالتنازل عن عقوبة المسيء ولا بترك تعنيفه وعتابه، بل يقابله بالدعاء له، فقد اذت قريش رسول الله صلى الله عليه وآله اشد الايذاء، فما كان منه الا ان توجه لله تبارك وتعالى بقوله: رب "اهدِ امتي، فانهم لا يعلمون".
وقد يتساءل احدنا ـ ايها الاخوة الافاضل ـ هل يصح العفو في كل وقت، ومع كل شخص، وعلى كل ذنب؟! الجواب: طبعاً لا، فانما يجوز العفو اذا كان الامر خارجاً عن اطار الحد الشرعي والقصاص، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله: "تجاوزوا عن الذنب ما لم يكن حداً". وقال الامام علي صلوات الله عليه: تجاوز عن السيئة ما لم يكن ثلماً في الدين او وهناً في سلطان الاسلام.
فلا يعفى عن القاتل والسارق والخائن للاسلام والمسلمين، والهاتك لحرمات الدين والمسلمين. هذا اولاً، وثانياً: انما يجوز العفو اذا كان الامر متعلقاً بالعافي، فلايجوز لنا ان نعفوا عمن ظلم غيرنا، ولكن غيرنا هو الذي يحق له ان يعفو عن مسيئه، وثالثاً: يكون العفو جائزاً اذا لم يؤد الى مفسدة كأن يغري العفو المسيء في ان يطمئن فيكرر اساءته او يشوق العفو المذنب في ارتكاب الافضع والاكبر من الذنوب بل يفسح المجال لغير المسيئين في ان يسيئوا فمن امن العقوبة أساء الادب ـ كما قيل.
اجل ـ ايها الاخوة ـ هنالك من يصلحه العفو، ويعطيه فرصة لاعادة النظر واستدراك الخطأ، والاعتذار عما صدر منه من الاساءة، ولكن هنالك من يغريه العفو، فيتمادى ويتجاوز ولا يوقر للاخرين حرمة او حقاً فلابد لهذا من عقوبة، تنبهه وتوقفه عند حده وتردعه عما تسول له نفسه من العدوان.
وصدق امير المؤمنين سلام الله عليه حيث يقول:
العفو يفسد من اللئيم، بقدر اصلاحه من الكريم.
وفي رسالة الحقوق .. قال الامام السجاد علي بن الحسين سلام الله عليهما: "وحق من ساءك ان تعفوا عنه، وان علمت ان العفو يضر انتصرت"، قال الله تبارك وتعالى: "ولمن انتصر من بعد ظلمه فاولئك ما عليهم من سبيل" (سورة الشورى: ٤۱).
في احدى حكمه الغراء.. قال الامام علي عليه السلام: "اذا كان في الرجل خلة رائعة فانتظر اخواتها"، اجل.. فنحن اذ نلتقي مع خصلة "العفو" نجد الى جانبها هذه الخصال الطيبة: المحبة، والاخاء واسلم واحياناً كظم الغيظ، والصبر، والاناة، والترفع، والرحمة والاحسان، قال الامام الصادق عليه السلام: "اذا وقع بين رجلين منازعة نزل ملكان فيقولان للسفيه: قلت وقلت، وانت اهل لما قلت، ستجزى بما قلت، ويقولان للحليم منهما: صبرت وحلمت سيغفر الله لك ان اتممت ذلك".
وقد اقترن العفو بالشرف الرفيع ايها الاخوة الاعزة لانه خلق من اخلاق الله تعالى، وهو القائل عز من قائل: "ان تبدوا خيراً او تخفوه او تعفوا عن سوء فان الله كان عفواً قديراً" (سورة النساء: ۱٤۹).
ثم العفوكان خلقاً ظاهراً في سيرة المصطفى صلى الله عليه وآله حتى خاطبه الله تعالى بقوله: "وانك لعلى خلق عظيم" (سورة القلم: ٤)، وكان سبحانه يوصيه: "فاعف عنهم واستغفر لهم" (سورة آل عمران: ۱٥۹)، كما كان عز وجل يوصي عباده المؤمنين "وليعفوا وليصفحوا الا تحبون ان يغفر الله لكم، والله غفور رحيم" (سورة النور: ۲۲).
وقد جاءت سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله عاطرة بالعفو والصفح عمن أساء اليه، حتى اذا فتح مكة نادى اهلها وكانوا قد اخرجوه منها: "ماذا تظنون اني فاعل بكم؟ قالوا: نظن خيراً، اخ كريم، وابن اخ كريم، فقال: فاني اقول لكم كما قال اخي يوسف: لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو ارحم الراحمين، اذهبوا فانتم الطلقاء".
وجرت هذه الخصلة الشريفة في سيرة امير المؤمنين عليه السلام، فكم عفا عن اعدائه بعد ان ظفر بهم، وكذا في سيرة ابناءه الائمة الميامين، صلوات الله عليهم اجمعين، وتربى على ذلك اصحابهم رضوان الله عليهم.
الراوي: كان مالك الاشتر رضوان الله عليه يمشي ذات يوم في سوق الكوفة، واذا باحد السوقة تحدثه نفسه بالازدراء والاستهزاء بزي مالك ـ وهو لا يعرفه فيقول في نفسه:

 

السوقي: من يكون هذا الرجل الذي طرق مدينتا هذا اليوم؟ لارمينه بهذه البندقة هه "يرمي" هآ هآ هآ "يضحك وصوت بندقة طق".
الراوي: هذا ولم يكن السوقي يدري من رمى اما مالك الاشتر ذلك البطل المغوار الذي شهدت له الحروب صولات وجولات عجيبة.. فلم يكن ليعير من ضربة بالبندقة اية التفاتة، اذ لم يرد ان يعرفه، كي لا يبقى في قلبه شيء عليه يتجدد كلما رآه.
واصل مالك الاشتر سيره حتى توارى عن الانظار عندها صاح رجل على ذلك السوقي:
السوقي۲: ويحك يا رجل اتعرف من رميت؟
۱: باستخفاف وعدم اعتناء لا لم اعرفه ومن عسى ان يكون؟ انه عابر مثل الاف المارة يمرون من هنا كل يوم.
۲: ويلك يا رجل انه مالك.
۱: انه مالك الاشتر النخعي صاحب امير المؤمنين علي عليه السلام وقائد جيشه.
۱: "بخوف ووجل" هيه.. حقاً تقول يا هذا؟ بالله عليكم اهذا مالك الذي ترتعد منه فرائض الاسد خوفاً منه، ويرتجف العدو من اسمه؟
۲:نعم نعم.. هو بعينه، مالك الاشتر ومن يقوى على انكاره وانكار بطولته.

 

الراوي: فهرول الرجل من ساعته راكضاً خلف مالك الاشتر وكان مالك قد غاب في اوساط الناس والرجل يمد بصره في السوق يبحث عنه ليعتذر له عما بدر منه وقد استولى عليه الخوف والحياء والاسف معاً.
۱: اين مالك؟ مالك الاشتر؟ اين هو يا ترى؟ ها، هوذا يدخل المسجد لاراقبه عسى ان تسنح لي فرصة مناسبة للاعتذار منه، ان شاء الله تعالى "مع نفسه".
مالك: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته "في الصلاة خاتمتها".
مالك ما هذا؟ مالك يا رجل؟ من تكون يا اخي وانت تقبلني وتنكب على قدمي؟ استغفر الله ربي واتوب اليه.
۱: انا .. انا يا سيدي ذلك الذي استهزأ بك وتجرأ عليك، فرماك في السوق ببندقة.
مالك: لا بأس عليك يا اخي فقد عفوت عنك فو الله ما دخلت المسجد الا لاستغفر الله لك.

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة