البث المباشر

همسات في شغاف القلب- المداراة

السبت 9 نوفمبر 2019 - 14:13 بتوقيت طهران

إذاعة طهران- همسات في شغاف القلب: الحلقة 6

الحمد لله والحمد حقه، كما يستحقه وافضل الصلاة والسلام على رسول رب العالمين وعلى آله الهداة الميامين.
اخوتنا واعزتنا المستمعين الاكارم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته واهلاً بكم في لقائنا الطيب هذا معكم وخلق اخر يهمس في شغاف القلب، يدور حول "المداراة"، وهي الخصلة القريبة من الرفق معنى، لانها تعني ملائمة الناس، وحسن صحبتهم واحتمال اذاهم، وربما فرق بينهما ان في المداراة تحملاً اكثر للاذى..
فالمؤمن يرفق باخوانه المؤمنين ويخالصهم مخالصة، ويتقي الاشرار ويخالقهم مخالقة، وتلك هي المدارة من اجل ان يحفظ المؤمن دينه ونفسه واخوانه متجنباً كل فتنة حذراً من كل كيد ووقيعة.
قال تعالى في وصف المدارين: "وعباد الرحمن الذين يمشون على الارض هوناً واذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً" (سورة الفرقان: ٦۳).
قيل: اذا خاطبهم الجاهلون خطاباً ناشئاً عن الجهل، مما يكره عباد الرحمن ان يخاطبوا به، او يثقل عليهم، اجابوا بما هو سالم من القول، وقالوا لهم قولاً سلاماً خاليا ًمن اللغو والاثم.
والمداراة - ايها الاخوة الاعزة - من الايمان، وهي مجلبة للعيش الطيب مع الناس، اذ يقول رسول الله صلى الله عليه وآله: "مداراة الناس نصف الايمان، والرفق بهم نصف العيش".
ثم ان المداراة ـ اخوتنا الافاضل ـ ادعى الى تحابب الناس، وتقبل تعاليم الدين ومفاهيم الرسالة، واوفق في تقارب القلوب وتجنب الخصومات. وقد قال تعالى مخاطباً نبيه الاعظم صلى الله عليه وآله: "فبما رحمة من الله لنت لهم، ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك، فاعف عنهم، واستغفر لهم، وشاورهم في الامر..". وفي غرر حكمه، ودرر كلمه.. قال امير المؤمنين علي عليه السلام: "رأس الحكمة مداراة الناس". ثمرة العقل، مداراة الناس، عنوان العقل، مداراة الناس فللمداراة عوائدها المحمودة ومنها: ان يكون المرء في سلامة من دينه ودنياه، وتلك كلمة الامام علي عليه السلام جلية واضحة: "سلامة الدين والدنيا في مداراة الناس".. ففي الناس ـ ايها الاخوة الافاضل ـ طامع وحاسد، وشرير وغادر، فلا منجاة احياناً الا بالمداراة، حتى لقد اوصى امير المؤمنين عليه السلام مرة فقال لاحدهم، دار الناس تأمن غوائلهم، وتسلم من مكائدهم ومن عوائد المداراة ايضاً: المحافظة على الاخوان من جهتين: من جهة اعدائهم فنجد ان امير المؤمنين عليه السلام يقول: "انا لنبشر في وجوه قوم، وان قلوبنا تقليهم اولئك اعداء الله نتقيهم على اخواننا لا على انفسنا". ومن جهة اهوائهم فقد يخطأ اخواننا معنا، فنداريهم فيبقون لنا اخواناً ولا نخسرهم.
وقد كان امير المؤمنين سلام الله عليه يوصي ولده الحسن عليه السلام بمداراة اخوانه فيقول له: احمل نفسك من اخيك عند صرفه، على الصلة.. وعند صدوده على اللطف والمقاربة.. وعند جموده، على البذل.. وعند تباعده على الدنو، وعند شدته على اللين، وعند جرمه على العذر ويخاطب ابو فراس الحمداني احد اخوانه فيقول له:

لم اواخذك بالجفاء لاني

واثق منك بالوداد الصريح

فجميل العدو غير جميل

وقبيح الصديق غير قبيح

ومن عوائد المداراة ـ اخوتنا الاحبة ـ ان نبلغ من خلالها الحق، وندعو الى القيم العليا، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله قد ارشد فقال: ثلاث.. من لم يكن فيه، لم يتم له عمل: ورع يحجزه عن معاصي الله، وخلق يداري به الناس، وحلم يرد به جهل الجاهل. وفي محكم التنزيل المجيد نقرأ قوله تعالى: "وبالوالدين احساناً وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسناً" (سورة البقرة: ۸۳).
وكانت المداراة امراً من الله تعالى ان يتحلى بها انبياؤه ورسله عليهم افضل الصلاة والسلام فناجى سبحانه موسى عليه السلام فكان مما قاله له: "واظهر في علانيتك المداراة عني لعدوي وعدوك من خلقي.. وجاء جبرئيل عليه السلام مرة رسول الله صلى الله عليه وآله يقول له: يا محمد، ربك يقرئك السلام ويقول لك: دار خلقي.
فكان صلى الله عليه وآله يقول: امرني ربي بمداراة الناس، كما امرني بتبليغ الرسالة امرني ربي بمداراة الناس كما امرني باداء بالفرائض. واخيراً.. ايها الاخوة الواعون، لا يفوتنا ان نقول: ان المداراة وسيلة وليست غاية، فينبغي فيها مراعاة مرضاة الله تعالى وطاعته، وتكون النية فيها جذب القلوب الى الايمان والمحبة او دفع الشر عن الدين والمؤمنين فلا تكون المداراة تواطؤاً ولامداهنة على حساب المبادئ والكرامة.
فقد اوحى الله تعالى الى شعيب النبي عليه السلام اني معذب من قومك مئة الف، اربعين الفاً من شرارهم وستين الفاً من خيارهم، فقال: يا رب هؤلاء الاشرار، فما بال الاخيار؟ فاوحى الله عز وجل اليه: "داهنوا اهل المعاصي فلم يغضبوا لغضبي".
الراوي: روي ان اسحاق الكندي كان فيلسوف العراق في زمانه وقد اخذ في كتابة شيء تخيله ان القرآن متناقض، فدخل بعض تلامذة الكندي يوماً من الايام على الامام الحسن العسكري عليه السلام فقال له الامام يعاتبه: اما فيكم رجل رشيد يردع استاذكم الكندي عما اخذ فيه من تشاغله بالقرآن؟ فاجابه التلميذ:
التلميذ: "بتحرج": نحن ـ ياسيدي ـ تلامذته كيف يجوز منا الاعتراض عليه في هذا او في غيره؟
قال: اتؤدي اليه ما القيه عليك؟
التلميذ: نعم، نعم، ياسيدي، ان شاء الله تعالى.
فقال الامام له صر اليه وتلطف في مؤانسته ومعونته على ما هو بسبيله فاذا وقعت الانسة في ذلك فقل: قد حضرتني مسألة اسألك عنها، فانه يستدعي ذلك منك فقل له: ان اتاك هذا المتكلم بهذا القرآن هل يجوز ان يكون مراده بما تكلم منه غير المعاني التي قد ظننتها انك ذهبت اليها؟ فانه سيقول: من الجايز، لانه رجل يفهم اذا سمع فاذا اوجب ذلك فقل له: فما يدريك لعله اراد غير الذي ذهبت انت اليه فتكن واضعاً بغير معانيه.

 

الراوي: فصار التلميذ الى استاذه الكندي، واخذ يتطلف معه ويداريه الى ان القى عليه المسألة كما امره الامام الحسن العسكري عليه السلام، حينها اخذ الكندي يتأمل ويفكر بعمق، حتى قال له:
الكندي اعد عليَّ.
الراوي: فاعاد التلميذ على استاذه وهو وجل، ولكنه كان يداريه اما الكندي فقد سرح في تفكير مع نفسه، فرأى هذا الاحتمال الذي طرحه تلميذه عليه امراً منطقياً محتملاً في اللغة، كما هو سائغ في الراي والنظر.. لم لا، ثم التفت الى تلميذه يسأله:
الكندي: اقسمت عليك الا اخبرتني من اين لك هذا التساؤل؟
التلميذ "مرتبكاً": لا .. ليس بشيء انه شيء عرض بقلبي يا استاذ فاحببت ان اطرحه، وقد اوردته عليك، ارجو العفو عما صدر مني من جسارة يا استاذ.
الكندي: كلا كلا يا ولدي، ما يمثلك من اهتدى الى هذا حتى الان، ولا من بلغ هذه المنزلة، فعرفني من اين لك هذا؟
التلميذ: الحقيقة يا استاذ.. امرني به ابو محمد الحسن العسكري.
الكندي: هآ.. الان جئت بالحقيقة.
التلميذ: وكيف علمت يا استاذ؟
الكندي: اجل.. فما كان ليخرج مثل هذا الا من ذلك البيت.
الراوي: ثم ان الكندي دعا بالنار فاحرق ما كان كتبه من تخيلاته في ان القرآن متناقض.
وكان للمداراة التي اداها ذلك التلميذ كما اوصاه الامام العسكري عليه السلام دورها في تهيئة الاجواء المناسبة للكندي وهو الذي تصور نفسه استاذ الفلاسفة ان يتقبل تساؤل تلميذه المنبه وقد علمه اياه الامام العسكري صلوات الله عليه.

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة