البث المباشر

قصة ولادة النبي موسي (عليه السلام) -۲

السبت 16 مارس 2019 - 18:50 بتوقيت طهران

الحلقة 21

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، الذي جعل كلامه بلسماً وشفاء من كل داء ورحمة من كل بلاء ومخففاً لكل عناء وفرحة لكل محزون، وصلي الله علي حبيه وحامل وحيه محمد وعترته الطاهرين. 
يتجدد لقاؤنا معكم ضمن حلقة اخري من برنامج القصص الحق اذ نتناول في هذه الحلقة من البرنامج جانباً آخر، من حياة النبي موسي (عليه السلام).
تحدثت عن الآيات ۱۰ حتي ۱۳ من سورة القصص المباركة، واليكم المحطات التي سوف نمر عليها خلال هذا اللقاء بعد المقدمة عن اجواء الآيات نصغي الي تلاوة هذه الآيات المباركة، بعد ذلك نتعرف معاً علي اهم مفرداتها والعبارات القرآنية، نتابع معاً حواراً قرآنياً بشان بعض الأسئلة المثارة حول الآيات، لنستمع بعد ذلك الي القصة نفسها بالتفصيل، وفي فقرة من هدي الائمة نقف عند روايتين عن النبي الاكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) والامام الباقر حول الموضوع، ومسك الختام مع باقة من الدروس العملية التي تتحفنا بها الآيات. 

*******

في هذه الآيات تتجسدُ مشاهد جديدة.. فأمُّ موسى التي قلنا عنها: إنّها ألقت ولدها في أمواج النيل، بحسب ما فصّلنا في اللقاءات الماضية. 
اقتحم قلبها طوفان شديدٌ من الهمّ على فراق ولدها، فقد اصبح مكان ولدها الذي كان يملأ قلبها خالياً وفارغاً منه.
فأوشكت أن تصرخ من أعماقها وتذيع جميع أسرارها، لكن لطف الله تداركها، اذن لننصت الي تلاوة هذه الآيات وهي تحكي جانباً آخر من حياة النبي موسي (عليه السلام) فالي الآيات:

*******

من هدي الآيات

يعبّر القرآن الكريم عن الحالة النفسية التي كانت تعيشها ام موسي (عليه السلام) قائلاً: «أَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ»
«الفارغ» معناه الخالي، والمقصود به هنا أن قلب أم موسى أصبح خالياً من كل شيء إلاّ من ذكر موسى.. وإن كان بعض المفسّرين يرون أن المقصود به هو خلوّ القلب من الهمّ والغمّ، أو أنّه خال من الإلهام والبشائر التي بشرت بها أُمِّ مُوسَى من قبل، ولكن مع الإلتفات لهذه الجمل والتدقيق فيها يبدو هذا التـّفسير غير صحيح.
وطبيعيّ تماماً أنّ أمّاً تفارق ولدها بهذه الصورة يمكن أن تنسى كل شيء إلاّ ولدها الرضيع، ويبلغ بها الذهول درجةً لا تلتفت معها إلى ما سيصيبها وولدها من الخطر لو صرخت من أعماقها وأذاعت أسرارها.
ولكن الله الذي حمّل أُمِّ مُوسَى هذا العبء الثقيل ربط على قلبها لتؤمن بوعد الله، ولتعلم أنّه بعين الله، وأنّه سيعود إليها وسيكون نبيّاً.
كلمة «ربطنا» من مادة «ربط» ومعناها في الأصل شدّ الوثاق ثمّ توسعوا في اللغة فصار معنى الربط: الحفظ والتقوية والإستحكام، والمقصود من «ربط القلب» هنا تقويته.. أي تثبيت قلب أم موسى، لتؤمن بوعد الله وتتحمل هذا الحادث الكبير.
وعلى أثر لطف الله أحست أم موسى بالإطمئنان، ولكنّها أحبت أن تعرف مصير ولدها، ولذلك أمرت أخته أن تتبع أثره وتعرف خبره.
«وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ» كلمة «قُصِّيهِ» مأخوذة من مادة «قصّ» ومعناها البحث عن آثار الشيء، وإنّما سميّت القصّة قصّةً لأنّها تحمل في طياتها أخباراً مختلفة يتبع بعضها بعضاً.
فاستجابت «أُخت موسى» لأمر أمّها، وأخذت تبحث عنه بشكل لا يثير الشبهة، حتى بصرت به من مكان بعيد، ورأت يه الذي كان في الماء يتلقفه آل فرعون. 
ويقول القرآن في هذا الصدد: «فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ» ومعنى ذلك اي أبصرته عن بعد ولكن أُولئك لم يلتفتوا إلى أن أخته تتعقبه كما يشير لذلك قوله تعالى: «وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ».
وقيل إن خدم فرعون كانوا قد خرجوا بالطفل من القصر بحثاً عن مرضعة له، فرأتهم أخت موسى.
وعلى كل حال، فقد اقتضت مشيئة الله أن يعود هذا الطفل إلى أُمّه عاجلاً ليطمئن قلبها، لذلك يقول القرآن الكريم: «وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ».
وطبيعيٌ أن الطفل الرضيع حين تمر عليه عده ساعات فإنه يجوع ويبكي ولا يطيق تحمل الجوع، فيجب البحث عن مرضع له، ولا سيما أن ملكة مصر «امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ» تعلق قلبها به بشدّة، وأحبّته كروحها العزيزة.
كان عمّال القصر يركضون من بيت لآخر بحثاً عن مرضع له، والعجيب في الأمر أنّه كان يأبى أثداء المرضعات.
«هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ» هذا هو قول اخت موسي (عليه السلام) فقد جاءت لتخبرهم إنّها تعرف امرأة من بَنِي إِسْرَائِيلَ، وهي مستعدةً أن تتعهد الطفل برعايتهاو ترضعهه فدلتهم على امه فسرّ بها هؤلاء وجاءوا بأمّ موسى إلى قصر فرعون، فلمّا شمّ الطفل رائحة أُمّه التقم ثديها بشغف كبير، وأشرقت عيناه سروراً، كما أن عمّال القصر سرّوا كذلك لأنّ البحث عن مربية له أعياهم، وامرأة فرعون هي الأُخرى لم تكتم سرورها للحصول على هذه المرضع أيضاً.
وتم كل شيء بأمر الله اذ قاموا بتسليم الطفل إليها وهكذا رد الله موسي (عليه السلام) إلى امه بنظم هذه الاسباب.
«فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ» والمقصود بالعلم في قوله «وَلِتَعْلَمَ»هو اليقين بالمشاهدة هذا جواب السؤال الثاني لكن أكثر الناس لا يعلمون ولا يوقنون بذلك بل يرتابون في مواعده تعالى ولا تطمئن إليها نفوسهم. 

*******

اسئلة الخبير

استضيف في هذه المحطة من البرنامج خبير البرنامج فضيلة السيد عبد السلام زين العابدين استاذ العلوم القرآنية، فضيلة السيد ما المقصود من التحريم الذي ذكر في الآية «وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ»؟
السيد عبد السلام زين العابدين: بسم الله الرحمن الرحيم يعني هنا التحريم في قصة موسى عليه السلام في سورة القصص في الآية الثانية عشرة «وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ» بخصوص موسى (عليه السلام) طبعاً هذا التحريم ليس تحريماً تشريعياً وانما هو تحريماً تكوينياً بمعنى المنع يعني منعنا يعني هو لم يقبل من امرأة يمتص منها اللبن، هذا معنى التحريم يعني «وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ» يعني منعنا يعني لم يستقبل امرأة يعني جاءوا بمراضع عديدة فهولم يتقبل صدر او ثدي امرأة وبعد ذلك لما جيء له بأمه طبعاً التقم ثدييها اذن هنا التحريم «وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ» يعني من قبل ان تأتي امه اليه ويستقبل صدرها منعنا يعني هو لم يتقبل بمعنى التحريم التكويني وليس التحريم التشريعي، هنا ينبغي ان نفرق بين الامور التكوينية والامور التشريعية في القرآن الكريم فهناك قضاء تشريعي وهناك قضاء تكويني وهناك امر تشريعي وهناك امر تكويني، هناك عرض تشريعي في القرآن وهناك عرض تكويني ولهذا قد يختلف بعض المفسرين في آية من حيث التكوين والتشريع كما مثلاً وقع الاختلاف في سورة الاسراء «وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا» ذهب بعض المفسرين «أَمَرْنَا» يعني الامر التشريعي يعني «أَمَرْنَا» مترفيها بالعدل والاصلاح والطاعة ففسقوا فيها يعني خالفوا، اكثر المفسرين يرى ان الامر هنا ليس امراً تشريعياً وانما امراً تكوينياً «وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا» يعني الامر التكويني يعني امرناهم بالفسق ففسقوا فيها يعني قضية الاستدراج وسنة الاستدراج والامهال ولهذا في قصة موسى (عليه السلام) القضية واضحة التحريم لم يقل احد من المفسرين ان التحريم هنا تحريماً تشريعياً لأنه (عليه السلام) كان طفلاً صغيراً يعني في القصة كان عمره ثمانية ايام، كان طفلاً صغيراً، وليداُ جديداً فحرمنا هنا «وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ» يعني من قبل مجيء ام موسى (عليه السلام)، هنا التحريم بمعنى المنع وليس بمعنى التحريم التشريعي يعني الحكم الشرعي في خمسة اقسام الحلال والحرام والمستحب والمكروه والمباح ليس بهذا المعنى والحرمة هنا بمعنى انه حرمنا يعني بمعنى منعنا يعني تحريماً تكوينياً وليس تحريماً تشريعياً.
المحاور: فضيلة السيد يعني ألم تكن ام موسى (عليه السلام) على علم بوعد الله تعالى في ارجاع ولدها اليها لتعلل الآية المباركة«فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ»؟
السيد عبد السلام زين العابدين: احسنت طبعاً هنا هذا سؤال لطيف وجميل «لِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ» هذا العلم كما يعبر العلامة الطباطبائي على ما اتخطر يعني يقول اليقين بالمشاهدة يعني هي تعلم، ترى ان الانسان قد يعلم على صعيد العقل والفكر ويتيقن بالشيء ولكن المصائب والاحداث الجسام قد تجعله غير مطمئن في قلبه كما قال ابراهيم (عليه السلام) «وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي»، «قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي» هنا اليقين بالمشاهدة، ام موسى (عليه السلام) رغم الوعد الهي برده اليها ورغم ايمانها الكبير والعميق بتحقيق هذا الوعد وبعودة موسى اليها بيد ان الامر وصل الى درجة من المحنة ما جعلها قلقة على صعيد القلب والدليل على ايمانها بالوعد الالهي انها استجابت للوحي فوضعت طفلها الصغير الوليد في الي والقته في اليم يعني في النهر، في البحر هذا اكبر دليل على ايمانها ويقينها، «وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ، فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا» انظر اذن ام موسى الدليل على انها تؤمن بهذا الوعد الالهي الرباني وانها متيقنة من هذا الوعد انها القت طفلها في اليم وهو طفل صغير عمره يوم او يومين او اقصى ما يكون بعض المفسرين قالوا ثمانية ايام ولهذا العلامة الطباطبائي حينما يفسر «وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا» يقول فَارِغًامن القلق لكن بعض المفسرين طبعاً واكثر المفسرين قالوا فَارِغًا من الاطمئنان يعني فسروه تفسيراً سلبياً «وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا» يعني فَارِغًا من الاطمئنان ومن الهدوء ومن اليقين وكانت مرتبكة، العلامة الطباطبائي يقول لا بحسب السياق «وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا» يقول فَارِغًا من الهم، فَارِغًا من القلق لأن الله عزوجل وعدها«وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي» يعني «لا تَخَافِي من المستقبل، دائماً اخ مصطفى الخوف من المستقبل، الفرق بين الخوف والحزن ان الخوف من المستقبل بينما الحزن عما مضى يعني مصيبة وقعت في الماضي الانسان يحزن عليها اما الخوف اشد لأنه قلق، انا لا ادري ماذا سيحدث، يبدو ان «وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا» يبدو قول العلامة الطباطبائي اقرب الى السياق لأنه يقول فَارِغًا من الهم ومن القلق لأن الله وعدها بعودته اليها سالماً.

*******

قصة ولادة النبي موسي (عليه السلام) (۲)

كان قلب الأم، وهو أرحم القلوب في الدنيا، يمتليء بالألم، وهي ترمي ابنها في النيل، لكنها كانت تعلم أن الله أرحم بموسى منها، والله هو ربّه وربّ النيل.
لم يكد الصندوق يلمس مياه النيل حتى أصدر الخالق أمره إلى المياه أن تكون هادئة حانية وهي تحمل هذا الرضيع الذي سيكون نبياً فيما بعد، ومثلما أصدر الله تعالى أمره للنار أن تكون بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ، كذلك أصدر أمره للنيل أن يحمل موسى بهدوء ورفق حتى يسلمه إلى قصر فرعون.
وحملت مياه النيل هذا الصندوق العزيز الى قصر فرعون. وهناك أسلمه الموج للشاطىء.
في الصباح الباكر خرجت زوجة فرعون تتمشى في حديقة القصر وهي حزينة لأنها لم تكن تلد وكانت تتمنى أن يكون عندها ولد، عندما ذهبت الجواري ليملأن الجرار من النهر، وجدن الصندوق، فحملنه كما هو إلى زوجة فرعون. فأمرتهنّ أن يفتحنه ففتحنه. فرأت موسى بداخله فأحسّت بحبّه في قلبها. لقد ألقى الله في قلبها محبته فحملته من الصندوق. فاستيقظ موسى وبدأ يبكي. كان جائعاً يحتاج إلى رضعة الصباح فبكى.
فجاءت زوجة فرعون إليه، وهي تحمل بين يديها طفلاً رضيعاً. فسأل من أين جاء هذا الرضيع؟ فحدّثوه بأمر الصندوق. 
فقال بقلب لا يعرف الرحمة: لابدّ أنه أحد أطفال بني اسرائيل. أليس المفروض أن يقتل أطفال هذه السنة؟
فطلبت آسية- امرأة فرعون- من زوجها أن يسمح لها بتربيته.
فسمح لها بذلك وعاد موسى للبكاء من الجوع - فأمرت بإحضار المراضع. فحضرت مرضعة من القصر وأخذت موسى لترضعه فرفض أن يرضع منها. فحضرت مرضعة ثانية وثالثة وعاشرة وموسى يبكي ولا يريد أن يرضع فاحتارت زوجة فرعون، ولم تكن تعرف ماذا تفعل.
لم تكن زوجة فرعون هي وحدها الحزينة الباكية بسبب رفض موسى لجميع المراضع. فلقد كانت أمّ موسى هي الأخرى حزينة باكية. لم تكد ترمي موسى في النيل حتى أحسّت أنها ترمي قلبها في النيل. غاب الصندوق في مياه النيل واختفت أخباره. وجاء الصباح على أمّ موسى فإذا قلبها فارغ يذوب حزناً على ابنها، وكادت تذهب إلى قصر فرعون لتبلغهم نبأ ابنها وليكن ما يكون. لو لا أنّ الله تعالى ربط على قلبها وملأ بالسلام نفسها فهدأت واستكانت وتركت امر ابنها لله. 
كلّ ما في الأمر أنها قالت لأخته: اذهبي بهدوء إلى المدينة وحاولي أن تعرفي ماذا حدث لموسى.
وذهبت أخت موسى بهدوء ورفق إلى جوار قصر فرعون، فإذا بها تسمع القصة الكاملة. رأت موسى من بعيد وسمعت بكاءه، ورأتهم حائرين لا يعرفون كيف يرضعونه، سمعت أنه يرفض كلّ المراضع. 
وقالت أخت موسى لحرس فرعون: هل أدلّكم على أهل بيت يرضعونه ويكفلونه ويهتمون بأمره ويخدمونه؟
ففرحت زوجة فرعون كثيراً لهذا الأمر، وطلبت منها أن تحضر المرضعة. وعادت أخت موسى وأحضرت أمّه. وأرضعته أمه فرضع. 
وتهلّلت زوجة فرعون وقالت: خذيه حتى تنتهي فترة رضاعته وأعيديه الينا بعدها، وسنعطيك أجراً عظيماً على تربيتك له. وهكذا ردّ الله تعالى موسى لأمّه كي تقرّ عينها ويهدأ قلبها ولا تحزن ولتعلم أنّ وعد الله حق وأنّ كلماته سبحانه تنفذ رغم أيّ شيء.

*******

من هدي الائمة (عليه السلام)

في تفسير مجمع البيان في قول امرأة فرعون وهي تخاطب زوجها «قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ» الي آخر الآية عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): والذى يحلف به لو أقر فرعون بأن يكون له قرة عين كما أقرت امرأته لهداه الله به كما هداها ولكنه أبى.
وفي رواية اخري سئل الإمام الباقر (عليه السلام): فكم مكث موسى غائباً عن أُمّه حتى ردّه الله؟ 
قال: ثلاثة أيّام.

*******

دروس وعبر

الدرس الاول: الذي نستنبطه من الآيات هو ان القدرات المادية باجمعها تعجز عن المجيئ بمرضع لطفل صغير كما عجزت اجهزة فرعون عن ذلك.
كما ان ابسط الامور الغريزية مثل ان يقبل الطفل ثدي المرضع هو يتم بارادة الله سبحانه وتعالي وهذا يشير اليه قوله تعالي: «وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ».
علي الانسان ان يكون حذرا وذكيا في التعامل مع الاعداء كما كانت اخت موسي (عليه السلام) فهي لم تفصح للاعداء لتقول لهم هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى امه بل قالت: «هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ».
الدرس الاخر: هو ان الطفل ليس فقط بحاجة الي الغذاء وحليب المرضع بل انه بحاجة الي حب وحنان الام وهذا يشير اليه قوله تعالي:«يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ».
ولا تكون الكفالة ذات قيمة حقيقية الا اذا اقترنت بالمحبة والنصح كما يرمز اليه قوله تعالي: «يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ».

*******

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة