البث المباشر

الحس المعنوي في نوافذ العمارة الاسلامية

الخميس 24 يناير 2019 - 17:07 بتوقيت طهران

الحلقة 40

السلام عليكم ايها الاصدقاء ورحمة الله. من التجليات الطريفة في الفنون الاسلامية التراثية تجلي يشهد للفنانيين بحسن الذوق ودقة الصنعة وبراعة التخيل والابتكار، ذلك هو الزخارف في شبابيك القلل فأنها تنبأ ان الفنانين كانوا شغوفين بدقة‌ الفن وما فيه من افاق جمالية اخاذة.
مما يدحض ما يزعمه بعض مؤرخي الفن من ان المسلمين كانوا ماديين في فنونهم الى ابعد حد وانهم لم يعرفوا التحف او الالطاف لذاتها وانما تجلت فنونهم في الادوات التي كانوا يستعملونها في حياتهم اليومية ولم تكن لهم تحف يصنعونها في نافذة او خزانة‌ او فوق حامل ويقفون عند حد الاستمتاع بمشاهدها على نحو ما عرف الغربيون منذ العصور القديمة، ولا ريب في ان هذا الزعم باطلاً لان الالطاف والتحف كانت معروفة عند المسلمين منذ القديم، كما يظهر من وجودها في الرفوف والخزانات المعدة لها في جدران القاعات التي نرى رسمها في المخطوطات والصور الايرانية والهندية والتركية.
واذا لم يكن للمسلمين هذا الحس الفني المحض فما بالهم يعنون في بعض التحف من رسوم وزخارف لا تبدو للعين ولا حرج عليهم اذا تركوا المساحة خالية من الوحدات الزخرفيه، وما بالهم لا يتتجون تحفاً لا نستطيع ان نجد لها فائدة مادية ولا يمكن ان تكون الا للزينة، والمعروف ان القلل اينة من الفخار تكون في معظم الاحيان غير مطلية بالدهان وتستعمل لحفظ مياه الشرب وتبريدها في الاقطار الشرقية ولاسيما مصر وقد تكون في النادر مغطاة بطلاء زجاجي يحفظ على الماء درجة حرارته الطبيعية وتستعمل حينئذ للشرب في الشتاء.
المعروف ان بين بدن القلة ورقبتها او في الرقبة نفسها شباكاً ذا فتحات صغيرة، لعل المقصود منها حفظ الماء من الحشرات والاقذار، فضلاً عن تنظيم تدفقه عند الشرب، كل ذلك ما يزال باقياً في مصر حتى اليوم ولكن ليست لفتحات تلك الشبابيك اليوم اشكال منتظمة او زخارف متقنة.
انما في عصر ما يسمى الوسيط فقد اصاب الخزفيون المصريون توفيقاً عظيماً في زخرفتها بالكتابه والرسوم الادمية ورسوم الحيوان والاسماك والطير، اضافة الى الاشكال الهندسية المختلفة ومن العجيب ان يعنى بزخرفة شبابيك القلل الى هذا الحد، في حين تبقى معظم القلل نفسها بغير طلاء او رسوم زخرفية، ويبدو ان السبب هو عظم المساحة المطلوب تغطيتها بالرسوم إذا اراد الفنان زخرفة بدن القلة بتمامه.
وقد يكون ذلك سبباً في رفع نفقة الانتاج وارتفاع ثمن القلة ومن هنا يكون الاقتصار على زخرفة شباك القلة مما يحقق الغاية الاقتصادية ولا يضيع على الصانع فرصة اظهار ما يفخر به من دقة ومهارة وذوق فني وقد لوحظ من ما يعرف حتى الان ان زخرفة شبابيك القلل لم تزدهر في الاقاليم الاسلامية ازدهارها في مصر، وفي القاهرة مجموعتان كبيرتان من هذه الشبابيك، الاولى في متحفة الفن الاسلامي والثانية في مجموعة كامل غالب الشخصي.
تقوم الزخرفة في شبابيك القلل على التباين بين الثقوب والاجزاء الاخرى ومنها فأنها تشبه المخرمات اي اشرطة الدانتيلا المتخذة‌ في خياطة الثياب في حد كبير، وفي الحالتين لا يستعين الفنان بالتلوين ولا بالبروز ولا بالنجسيم وفي المخرمات ترى الفراغ بين الخيوط اما في شباك القلة فأن الفراع ناشيء من الاجزاء المحفورة او المنزوعة ليمر منها الماء وما يبقى من اجزاء فهي التي تقابل الخيوط في المخرمات وعلى بعض شبابيك القلل عبارات لكنها في غالب الاحيان ليست عنصراً زخرفياً بمعنى الكلمة لانها مكتوبة بخط لا اناقة فيه وهي في معظمها عبارات دعائية او حكم مأثورة، ومن المعروف منها في متحفة الفن الاسلامي بالقاهرة «من صبر قدر»و«من اتقى فاز» و«دمت سعيداً بهم» و«عفت تعاف» و«اقنع تعز»، وفي هذه المتحفة قطعة عليها امضاء صانعها في عبارة موجزة هي «عمل عابد» ‌كما ان فيها بعض قطع عليها كتابة بخط كوفي في اسلوب زخرفي جميل، اما رسوم الحيوان والطير والاسماك في تلك الشبابيك فهي على جانب من الجودة ودقة الملاحظة وقد اجاد الفنان في بعضها فظهرت في غاية التوفيق في الابداع الزخرفي للتعبير عن الحركة ومن نماذجها شباك مشهور محفوظ في متحفة الفن الاسلامي بالقاهرة‌ قوام زخرفته رسم طاووس ملتفت الى اليمن، ولعله يرجع الى العصر الفاطمي او عصر الايوبيين ولكن الرسوم آلادمية معظمها يدائي كاركاتيري، من امثلتها رسم شخص ممدود الانف جالس القرفصاء، ورسم آخر لرأس آدمي اصلع لصاحبه لحية طويلة، وجسم طائر يمتد ذيله على هيئة حية تنتهي برأس حيوان، بيد ان ابدع الزخارف في شبابيك القلل هي الرسوم الهندسية المؤلفة من واحدات زخرفية مختلفة ‌اساسها نقط او خطوط منحنية او جدائل او اشكال هندسية من مثلثات ومربعات ومعينات ومستطيلات ودوائر ونجوم، ويتجلى في هذه الاشرطة والعصابات والمناطق الزخرفية مباديء الزخرفة المعروفة من التكرار والتماثل والتشعع والتنوع، فضلاً عن احكام تنظيم المساحات الواقعة بين الوحدات الزخرفية ولا غرو فقد وفق الفنان المسلم للابداع والابتكار والرسوم الهندسية مما يخفف ما قد يتطرق الى النفس من سأم عند رؤية الرسوم الهندسية المجردة.
اكبر الظن ان صناع الفخار في ذلكم الوقت كانوا يصنعون شبابيك القلل بالطرق التي ما يزال زملاءهم يتبعونها اليوم، وبيان ذلك ان الصانع يشكل بدن القلة على دولاب بسيط ويترك جزءها العلوي غير تام ثم يشكل على الدولاب نفسه الرقبة وفي اسفلها قرص يثقبه بآلات صغيرة من الصلب او الخشب مكوناً عليها الرسم المطلوب ويمر بعد ذلك على اسفل القرص بآلة قاطعة تزيل العجين الناتج من الثقب ثم يستعمل الصانع دولابه ثانية ‌في وصل الرقبة بالبدن ويصبح القرص المزين بالرسوم المثقوبة شباك القلة المطلوب، وليس من السهل معرفة تاريخ شبابيك القلل المحفوظة في المتاحف والمجموعات الاثرية لانها من منتجات الفن الشعبي الذي لم يتطور كثيراً بمرور الزمن ومن المحتمل انها لم تكن تصنع في الفسطاط وحسب بل كانت تلد في المراكب النيلية من الاقاليم المصرية المختلفة ومن المحتمل ان كل مركز صناعتها كان له طراز خاص يناسب ميول صناعه ومهارتهم الفنية.
وقد عني المستشرق بيير اولمر بدراسة شبابيك القلل وحاول ان يقسمها الى موضوعات بحسب دقة رسومها ونوع صناعتها ورأى ان ينسب البسيطة وغير المنظمة منها الى العصر الطولوني وان ينسب الى العصر الفاطمي ما امتاز برسوم الحيوان والطير ولا سيما اذا لم تكن عليه كتابة‌ بالخط النسخي، تجعل الاولى نسبته الى عصر الايوبيين كما انه نسب الى عصر المماليك مجموعة تمتاز برسومها الهندسية الدقيقة وبرسوم بعض الشارات المألوفة على سائر الاثار المملوكية. والسلام عليكم ورحمة الله.

*******

 

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة