البث المباشر

إبداع الفن التراثي الاسلامي وإشكالية السلطة

الأربعاء 23 يناير 2019 - 14:14 بتوقيت طهران

الحلقة 23

ظاهرة فنية كبرى كان معرض اسطنبول للفن الاسلامي الذي اقيم عام ۱۹۸۳ للميلاد فرصة حسنة لمقارنة الآثار الفنية الاسلامية، في آثارها الظاهرة وفي دلالاتها الباطنة‌ بما خلفته الحضارات الاخرى السابقة على الاسلام التي ضمها المعرض الذي اقيم الى جواره باسم الحضارة الاناضولية، وفي الطريف في طريقة عرض الاثار والابداعات الاسلامية انها لم تخضع للمنهج التاريخي الذي يقسم المعرض على طباق العصور والحكومات بل ان التقسيم مع تصريح القائمين على المعرض بأنه يتضمن الآثار الاسلامية للمرحلة السلجوقية والمرحلة العثمانية، ان هذا التقسيم جاء على وفاق الانواع التي تنقسم عليها هذه الاثار، اخذاً بعين الاعتبار الوظيفة التي يؤديها كل منها في حياة المسلمين احدى المزايا التي تجمع آثار الفن الاسلامي على اختلاف انواعها واختلاف ازمانها وهذه المزية هي الوحيدة الجوهرية ‌التي تتغلغل في مظاهر الفن الاسلامي وتوحد غاياتها، على الرغم من هذا التفاوت الظاهري في نتاجات السلاجقة ونتاجات العثمانيين وتتجلى هذه الوحدة في رفض مبدأ المحاكاة الارسطي وتجاهل البعد الثالث الذي هو العمق وفي شيوع ظاهرة التجريد والتسطيح والهندسية والوظيفية والجمالية الفلسفية، ووجدنا ايضاً ان الفن الاسلامي لا يمكن ان ينظر احد الى تطوره من خلال غاياته واهدافه وشهاداته الابداعية فأن هذه قد ظلت تمتاز بالثبات طيلة حياة هذا الفن في اكثر من الف عام، انما يقاس نماءه وتطوره بمقاييس اخرى مختلفة تتمثل في متابعة الجودة والاتقان والاقتراع والنوع في الآثار الفنية ‌خلال الزمان.
بعد الانطلاق من هذه المباديء الكبرى الموحدة يمكن التوقف عند بعض العصور ليتسنى لنا الالتفات الى بعض السمات والمميزات التي عرفها الفن الاسلامي مع تغير السلطات الحاكمة ذلك ان هذه الاضافات التي حدثت بين عصر وآخر انما تعود لتشهد على هيمنة المباديء الاولى اي تشهد الشهادة التي ما تزال تثير الجميع وهي وحدة الفن الاسلامي وتماسكه وهيمنته على طول هذا الاتساع الزمني والجغرافي، ثمة مسألة اخرى في هذا السياق يا اخي ينبغي التنبأ لها فهي جديرة بالوقوف عندها بمزيد من الدقة ومزيد من الوعي فما هي هذه المسألة المهمة؟ قلنا ان معرض اسطنبول للفنون الاسلامية هذا قد تضمن آثار مرحلتين زمنيتين هما السلجوقية والعثمانية وعند التأمل المتبصر فيما تركته هاتان المرحلتان من آثار فنية متنوعة تتكشف لنا بجلاء هذه الظاهرة اللافتة الا وهي ان المرحلة السلجوقية القصيرة‌ اذا كانت قد شهدت على الاندفاعة العمرانية المتجلية في بناء الجوامع والمساجد والخانات والاضرحة والمدارس من جهة وشهدت من جهة ثانية على كيفية التأثر الفني بآثار الحضارة‌ البيزنطينية او كيف اسلم بعض خصائص الفن البيزنطي على ايدي الفنانين السلاجقة فأن المرحلة العثمانية التي امتدت من القرن الرابع عشر الميلادي الى اواخر القرن العشرين ستشهد شهادات كثيرة ومتنوعة لا تؤكد المباديء الجوهرية للفن الاسلامي فحسب بل ستتوجه هذه المرة لتشهد على التحدي الابداعي الحضاري وعلى الاهتمام المثير الذي جمع بين السلطة الحاكمة والفن وعلى وحدة الذوق ووحدة الروح الاسلامية الفنية الواحدة، انه ربما كان من غير الممكن تكسير ابداع المهندس العماري سنان الذي صمم جامع السليمانية ومدارسة ومكاتبه والجوامع الاخرى التي تلت الامن خلال دافع التحدي الحضاري بين الرؤية الفنية الاسلامية‌ وبين الرؤية الفنية البيزنطينية.
ويبدو هذا التحدي الحضاري في البناء البيزنطي الكنيسي في اياصوفيا الذي تحول الى جامع ذي مآذن اربعة، فيما تحمل الا عمدة الكبرى الداخلية لوحات ضخمة كتب عليها بخط ثلثي جميل اسم الله تبارك وتعالى ثم اسم النبي الاكرم (صلى الله عليه وآله) واسماء الخلفاء الاربعة واسما سبطي رسول الله (صلى الله عليه وآله) الحسن والحسين (عليهما السلام) وتدور في جامع اياصوفيا آية النور «الله نور السماوات والارض» في شكل دائرة ضخمة بخط ثلث جميل في القبة الكبرى التي تتوسط الجامع وعلى بعد خطوات سيرتفع جامع السلطان احمد المزين بالسيراميك الذي اشتهر به العثمانيون وسترتفع على ارض اسطنبول جوامع ومساجد اخرى لا تكاد تعد بيد اننا من زاوية فنية خالصة لا نستطيع ان نتجاهل هذا التحدي الحضاري العمراني فعلى الرغم من الحروب الطاحنة بين البيزنطينين والسلاجقة ثم العثمانيين وعلى الرغم من الدمار الذي حصل لا نستطيع ان ننسى ان القصور البيزنطية تحولت الى قصور للعثمانيين فتوبكابي قصر كستنيس الامبراطور البيزنطي تحول الى مقر للسلاطين العثمانيين من محمد الفاتح ومن جاء يعده اي تحول الى مركز للسلطة الحاكمة التي حكمت من تشاد الى اليمن ومن الهند الى اواسط اوربا طيلة خمسة ‌قرون.
ويكشف لنا التاريخ العثماني عن امور عدة غابت عن ثقافتنا الحديثة وهي امور تتصل بالتاريخ الفني وماضي الفن الاسلامي ذلك ان الرأي السائد في صلة الابداع الفني بالسطة هو ان الفن الجيد لا يتجلى الا بعيداً عن السلطة بل ان ثمة رأي يقول انه لا يوجد فن جيد الا إذا كان على السلطة، اية سلطة‌ كانت بيد اننا مع آثار الفن الاسلامي الموروث سنجد ما يعاكس هذا الرأي تماماً بل يناقضه فلا فن في تاريخ المنطقة بلا جودة من دون سلطة بل لم يتجلى الفن تجلياته المبدعة الا وقت كانت السلطة هي الداعية وهي الداعمة والحاضنة له، هذه الشهادة الحادة يكشف عنها التاريخ العثماني وسواه بيد ان للوضع التركي حالته الخاصة المتميزة، الحكام العثمانيون الذين تعاقبوا على سلطة توبكابي اي القصر السطاني يجعل هذا القصر مركزاً لارسال الاوامر والفرمانات فحسب بل جعله ايضاً مقراً للفنانين المبدعين، قصر السلاطين هو نفسه قصر الفنانين الخطاطين والنساجين والصاغة وجميع اهل الحرف البارعة ممن منحوا موهبة لصناعة اي شيء جميل من الاعمال التي تبدأ فيها الفن الاسلامي الاصيل ، ولم يقف اهتمام هؤلاء السلاطين بالفن عند حدود التذوق والرعاية بل ان معظم السلاطين كانوا هم انفسهم خطاطين ومبدعين واعضاء عاملين في فرق صوفية، يقول بعض دفاتر قصر توبكابي اي الفنانين الذين خصص لهم مقر دائم في القصر كانوا يتقاضون حساباً خاصاً من ميزانية القصر نفسها وقد تراوح عددهم في بعض الاحيان بين مئتين وخمسمئة نسمة، وبعض الدفاتر قال ان عددهم ربما وصل الى الالف، اوراق اخرى تحدثنا عن مقامات كان الفنانون يصلون اليها بفضل الاضافات او التحسينات او الابداعات الرائعة الجديدة وما تزال الجوامع والمكتبات تحمل تواقيع الخطاطين مثل قره حصاري الذي قام بخط كتابات جامع السليمانية ومثل ياقوت المستعصمي الاسم الثالث بعد ابن مقلة وابن البواب في ترسيخ قواعد الخط واصوله ثم تتراكم اسماء الخطاطين عندما نتأمل خطوط جامع اولو اي الجامع العظيم في بورصة ذلك الجامع الذي يمكن عده متحفة الخط العربي وتجليه الكبير والاخير. وبعيد هذا الفويصل اراني مرغماً على توديعكم حتى اللقاء المقبل دمتم بألف خير.

*******

 

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة