البث المباشر

أصالة التجريد التوحيدي في الفن الاسلامي

الأربعاء 23 يناير 2019 - 12:17 بتوقيت طهران

الحلقة 18

السلام عليكم ايها الاصدقاء ورحمة الله.
عرف الفن الاسلامي التراثي تجليات له عديدة في مظاهر شتى وهذه المظاهر قادرة من الوقوف عندها والتأمل لديها وقراءتها بعين فاحصة ان تعبر عن المعنى الجوهري الكامن وراء هذه المظاهر المتعددة وقادرة على ان تكشف عن فلسفة الفن الاسلامي العميقة المتمثلة في التجريد او النزعة نحو التوحيد ذلك المعتقد الذي يتخلل كل مظاهر الوجود وقد عرف الفن الاسلامي فيما عرف من الآثار والنتاجات التحف الزجاجية الجميلة التي تحكي براعة الفنان المسلم وتصور مقدرته في الفن، عثر المنقبون عن الآثار القديمة في حفائر الفسطاط وسامراء والسوس والمدائن ومدينة الزهراء والري وساوة ونيسابور على مقادير وافرة من الاواني الزجاجية ولكن اغلبها مكسور والكامل منها لا يكاد يتجاوز قنينات صغيرة لعلها كانت تستعمل للعطر وما اليه من السوائل الغالية الثمن، ويمكن القول ان الزعامة في انتاج التحف الزجاجية في صدر الاسلام كانت للشام ثم لمصر وكان صانع الزجاج في العراق يقلدون اشكال الاواني والاساليب الزخرفية التي كانت تنتجها امهات المدن في سوريا وفلسطين مثال صور وانطاكية ‌وعكا والخليل ودمشق وحلب وقد كتب الثعالبي المتوفى في القرن الخامس الهجري ان المثل كان يضرب برقة الزجاج السوري ونقاوته.
الزجاج المزخرف ذو انواع شتى، على طباق الاساليب المتبعة في رسم زخارفه فمنه ذو ثنايا واضلاع، الذي كان صانعوه يصلون الى انتاجه بنفخ الزجاج في قالبين الواحد بعد الاخر ومنه نوع ذو رسوم منفوخة في قالب وكان القالب عادة ‌من قطعتين من الفخار او المعدن او الخشب وثمة قوالب من قطعة واحدة ولكن جزءها العلوي اعرض من جزءها السفلي بحيث يمكن للصانع ان يخرج الاناء الزجاجي من القالب اما ما هو مضمون تلكم الزخارف الزجاجية فأن قوام الزخرفة في هذه التحف في صدر الاسلام هو الدوائر ذات المركز الواحد واكتابات والرسوم الهندسية وسواها ومن الزجاج ذي الزخارف نوع عليه رسوم مختومة ونوع اخر عليه رسوم مصنوعة بآلة كالملقط او المنقاش وثالث ذو زخارف محفورة ورابع ذو خيوط زجاجية واقراص مضافة اليه، وقد يركب الاناء فوق تمثال حيوان كالجمل او تمثال طير ومن هذا الزجاج ذي الزخارف نمط ذو خيوط مضافة مضغوطة في سطح الاناء في رسوم متعرجة ملونة ‌تكسب التحفة نوعاً من زخارف المرمر وثمة زخارف اخرى مذهبة او مصنوعة من بريق المعدن.
وفي بعض دور الاثار والمتاحف مجموعات حسنة من التحف الزجاجية التي ترجع الى صدر الاسلام، كما ان بعض المتاحف والمجموعات الفنية الخاصة في اوربا تضم من تلك التحف الزجاجية ما يمثل كثيراً من الاشكال والاساليب الفنية التي عرفها صناع الزجاج في القرون الخمسة الاولى بعد الهجرة المقدسة، والطريق ان اشكال بعض هذه التحف هي من التنوع والابداع بحيث تشمل معظم الاشكال التي تعرفها التحف الزجاجية التي تنتجها المصانع في العصر الحاضر، والمصنوعات الزجاجية في صدر الاسلام اقراص زجاجية كانت تتخذ عيارات للوزن او الكيل فيطبع بها على الاواني لبيان احجامها وكثير منها بأسماء ولاة مصر وبأسماء الخلفاء الفاطميين، فما هي قصة الزجاج والبلور الفاطمي؟
تقدمت صناعة التحف الزجاجية في العصر الفاطمي تقدماً عظيماً، كان سبيلاً الى بلوغها الذروة العليا في عصر المماليك في مصر فقد صنعت فيه المشكايات المموهة بالمينا وهي فخر صناعة الزجاج عند المسلمين على الاطلاق وقد جاء فيما كتبه ناصر خسرو عن رحلته في مصر بين عامي ٤۳۹ و ٤٤۱ للهجرة، ان البقالين والعطارين وبائعي الخردة كانوا يقدمون الاواني الزجاجية والخزفية والورق ليوضع فيها ما يبيعونه، فلم يكن لازماً ان يبحث المشتري عن شيء يضع فيه ما يبتاعه والحق يا اخي ان تطور زخرفة الزجاج في العصر الفاطمي كان يتجه الى دقة الفن واتقان الزخرفة وغناها اكثر مما يتجه الى الاساليب والاشكال الفنية، ولعل ابدع المنتجات الزجاجية الفاطمية واعظمها قيمة من الوجة الفنية هو الزجاج المذهب والمزين بزخارف تبدو كالبريق المعدني وقد وصلت الينا بعض آنية كاملة من هذا النوع ولكن ما يؤسف عليه هو انها ليست واضحة الدلالة على ان رسومها بالبريق المعدني، على نحو ما يوجد في قطع مكسورة عثر عليها في الفسطاط وقد عثر في حفريات سامراء على بعض قطع الزجاج عليها زخارف من اغصان نباتية تبدو كأنها مصنوعة بالبريق المعدني مما يحتمل معه ان استعمال البريق المعدني كان معروفاً في العراق ابان القرن الثالث الهجري ومن آنية الكاملة التي وصلت الينا ويرجح انها من صناعة مصر في العصر الفاطمي اناء من الزجاج الاخضر صغير على هيئة القلة وقوام زخرفته اشرطة افقية واغصان نباتية منقوشة بلون بني يرجح انه بالبريق المعدني ومن انواع الزجاج بالبريق المعدني نوع احمر عليه زخارف من رسوم وطيور ووريقات تشبه زخارف الخزف ذي البريق المعدني الفاطمي.
اما البلور فقد شهد اقبالاً اكثر عليه لانه اصلب من الزجاج المعتاد واجمل منظراً وازدهرت صناعة الاواني البلورية في ايام الفاطميين على نحو خاص وكانت موضع اعجاب الرحالة ناصر خسرو فسجل في حديث رحلته ان الاواني البلورية التي شاهدها في سوق القناديل كانت في غاية الجمال والابداع الفني الرفيع وذكر في هذه المناسبة‌ ان البلور كان يؤتى به من بلاد المغرب حتى قبل رحلته بوقت قصير، ثم جيء به من اقليم البحر الاحمر وكان هذا النوع الجديد اجمل من المغربي ومن المحتمل ان التوفيق لاستعمال البلور الصخري كان سبباً في انخفاض ثمنه وانتاج التحف الكثيرة منه حتى استطاع الخلفاء والوزراء وعلية القوم في العصر الفاطمي ان يجمعوا منها المقادير الكبيرة التي جاءت الاشارة اليها في كتب التاريخ والادب ومعظم ما نعرفه من التحف الاسلامية المصنوعة من البلور محفوظة الان في كنائس الغرب ومتاحفه ولعل السر في الحرص عليه وبقاءه الى الان ان البلور الصخري كان يعد رمزاً للنقاء الروحي نظراً لشفافيته ونقاوته، وليس تحديد التاريخ الذي ترجع اليه التحف الفنية المتخذة من البلور الصخري امراً يسيراً فبعض تلك التحف يعود الى ما قبل العصر الفاطمي وربما يكون من مصر في العصر البيزنطي او من بيزنطة نفسها او من ايران او من العراق او من مصر في القرن الثالث الهجري اما سائر التحف البلورية التي خلفها الفن الاسلامي، فالمعروف منها اثنتان على كل منهما كتابة تحدد تاريخها الاولى ابريق على هيئة الكمثرى محفوظ في كنوز كاتبرائية سان ماركو بمدينة البندقية وقوام الزخزفة في هذا الابريق رسم اسدين بينهما شجرة الخلدو بين رقبة الابريق وبدنه شريط من الكتابة الكوفية نصها «بركة من الله للامام العزيز بالله» والتحفة الثانية حلقة من البلور على شكل هلال في المتحف الجرماني في مدينة نور نبرب بألمانيا وعليها بالخط الكوفي «لله الدين كله الظاهر لاعزار دين الله امير المؤمنين» والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

*******

 

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة