البث المباشر

تقويم الاصالة والحداثة في الفن الاسلامي

الأربعاء 23 يناير 2019 - 12:13 بتوقيت طهران

الحلقة 14

السلام عليكم ايها الاصدقاء ورحمة الله.
انسياقاً مع مفهوم النهضة الحضارية الذي ساد في اواخر القرن التاسع عشر واوائل القرن العشرين انطلق الفنان الشرقي ليجمع بين الانفتاح على الغرب والتمسك بالهوية الحضارية في المنطقة الاسلامية، بيد ان هذا الشعار لم يستطع ان يفعل شيئاً فظل شعاراً فارغاً خالياً من المضمون اذ حدثت عملية هي اشبه بالمسخ فلا الشرق كان في اعمال هؤلاء الفنانين الرواد شرقاً ولا الغرب غرباً، ثم كانت السنوات القليلة التي سبقت منتصف القرن العشرين، سنوات الولادة الحقيقية لحركة الفنون التشكيلية الحديثة في العالم العربي والشرق عامة، اذ ظهر فهم جديد للفن ووظيفته من شأنه ان يسلط الاضواء على الذات اي على الحاضر كخط وصل لابد منه للعبور الى الغرب والى التقدم المنشود وكذلك للعبور من هذا الحاضر الى الماضي والى الهوية الحضارية، منذ هذا التاريخ بدأ يرتفع شعار آخر هو الاصالة والحداثة ذلك ان الفنانين المسلمين العائدين من عواصم الغرب الفنية يحملون هذه المرة سراً جديداً غير سر الحرفة فلقد همس اساتذتهم الغربيون في اذانهم ان الفن الحديث وان الثورة الفنية الحديثة التي شهدها الغرب منذ اوائل القرن العشرين تدين في الكثير من قيمها الفنية لا تفتاح الغرب نفسه على الحضارات غير الاوربية خاصة على الحضارات الشرقية بالذات، لم يعد الغرب هذه المرة نموذجاً للتقدم وحسب بل هذا الغرب المتقدم اصبح مثالاً للذاتية والفردية ومثالاً للعالمية من جهة اخرى، ومن هنا كان لابد ان يثور الفنانون الشرقيون العائدون الى اوطانهم على اعمال من سبقهم من ابناء جلدتهم لان هذه الاعمال لم تكن في نظر الجيل الجديد لتعبر عن موقف ذاتي للانسان وموقفه من العالم، من هنا لم تعد اللوحة تستمد جمالها من نقلها منظراً طبيعياً ولا من القدرة والتقنية على نقل الواقع بل تستمد جمالها من لغة اخرى مختلفة هي الالوان والاشكال والخطوط كلغة مستقلة تعبر عن معاني وافكار ومشاعر لا وجود لها الا فيها، اي لا وجود لها الا في عالم الفنان الذاتي كأحساس وذوق وانفعال.
سيختفي اذن المنظر الطبيعي كموضوع وحيد من اللوحة الحديثة وسيختفي كذلك الموضوع سواء كان وجهاً او واقعاً يومياً وسيتراجع الرسم ايضاً، فالهم الجديد هم يرتبط بلغة اللوحة وعالمها الداخلي وما اللغة الجديدة الا الالوان والاشكال والعلاقات القائمة بينها، ومن هنا ستكون البداية الجديدة بداية تنطلق من التجريد كمبدأ وكتوجه عرفته الثورة الفنية الحديثة، فهل كتب لهذه التجربة الجديدة النجاح؟ المشكلة العميقة التي لقيتها هذه الولادة الجديدة لحركة الفنون التشكيلية لا تنحصر في القيم الفنية المحضة التي بدأ الفنانون الجدد يطبقونها في نتاجهم الفني كما لم تكن المشكلة محصورة لدى الفنانين الاوائل في التقنية التي تعلموها من معاهد الغرب الفنية. ان المشكلة لتتجلى مرة اخرى في الشعار المعدل، اي في مسألة الاصالة والحداثة، ففي التجربتين تجربة الانفتاح والهوية وتجربة الاصالة والحداثة التي امتدت من الاربعينيات الى الثمانينيات من هذا القرن كان الشعار مجرد نظرية عالقة في الهواء، في المرتين كان الواقع يفاجئنا بتحولات وبظواهر وبتغيرات على الصعيد الاجتماعي والسياسي والحضاري عامة، تشهد اول ما تشهد بأن ما كان يبدو على مستوى النظرية منطقياً ومقنعاً وصيغة مثلى لحل حضاري وانما هو على مستوى التطبيق متناقض وسطحي وصيغة غير متماسكة في الجوهر اصلاً.
انه يا اخي على الرغم من الوضوح المباشر، المحدد لكل من كلمة اصالة وحداثة، على الصعيد اللغوي المعجمي هما اللكمتان الاكثر غموضاً والتباساً على الصعيد الفني والابداعي، كيف إذا كانت قد تراكمت اللوحات الحديثة التي تدعي نظرياً بأنها تجمع بين القيم الفنية العصرية ولا تتعارض مع القيم الفنية التي عرفتها فنون التراث، فأن هذه اللوحات لم تستطع ان تؤسس لذوق عام متين وصلب وواضح فاللغة الفنية التي راحت اللوحة الحديثة تحاول تأسيسها كلغة قائمة بذاتها لم يتعلم الجمهور الواسع قراءتها، ومن هنا ظلت على مدى الاربعين او الخمسين سنة الماضية لغة مغلقة هي اشبة بالطلاسم، ومن جهة اخرى لم تثر الدعوة لاستلهام التراث الفني لدى الفنانين او الفقاد منذ تحولت هذه الدعوة الى شعار فني لم تثر اي جدل عميق او اي بحث جاد يتناول هذه الدعوة من حيث المبدأ او من حيث الفلسفة الجمالية بل على العكس رافق هذه الدعوة منذ اطلاقها شعور يشبة الى حد بعيد المشاعر التي ترافق الدعوات ذات اللهجة المقدسة، وثمة تناقض مثير للانتباه، ترى اين يكمن هذا التناقض؟ على صعيد القيم الفنية الجوهرية للفن الحديث وعلى صعيد الفهم الجوهري للفن والفنان كان لابد ان تحرك الدعوة الى استلهام التراث الفني جدلاً واسعاً وتأملاً جمالياً عميقاً فثمة اختلاف يصل الى حد التناقض الحاد بين القيم التي تقوم عليها اللوحة الحديثة وبين القيم الفنية التي قام عليها فن التراث، يضاف الى هذا ان هناك حجباً كثيفة تفصل بين الحاضر والماضي ففن التراث نفسه فن محاصر بالنسيان من جهة ‌وهو على مسافة بعيدة من التذوق السائد من جهة‌ اخرى ولكن ما هي منطلقات هذا التناقض وما هي جذوره الخفية؟
لفهم هذا التناقض ولفهم هذا القبول شبه المطلق وشبه المقدس بدعوة الاصالة والحداثة هذه لابد من العودة الى المنطلقات الاجتماعية والثقافية اي المنطلقات الحضارية للمجتمعات العربية والشرقية الحديثة نفسها، فالتراث هنا ليس نتاج الماضي الابداعي بل انه العلامة ‌او الشهادة على الخصوصية الحضارية ومن ثمة فهو علامة الاستقلال عن الاخرين اي هو بعبارة‌ اوضح علامة على انتقاء الوقوع في التبعية الحضارية للغرب، المقدس اذن هو ليس القيم الجمالية ولا فن التراث بل ان المقدس ها هنا هو الهوية ومن ثمة الماضي الذي هو مصدر هذه الهوية وعلينا هنا ان نبادر الى الاشارة الى ان الاهتمام بفنون التراث على الصعيد الفني الخالص اهتمام حديث العهد جداً فأذا كان اكتشاف الحضارات الكبرى كالحضارة المصرية القديمة وحضارات ما بين النهرين اكتشافاً حديثاً لم يتم الاطلاع عليه بعد بشكل واسع ودقيق من قبل الفنانين والمثقفين فأن الاهتمام بالواسطي وبرسومة التي رافقت نصوص الحريري اهتمام حديث حدث في اوائل السبعينيات كذلك يمكن القول ان اطلاع الفنانين العصرين الذين مشوا تحت شعار استلهام التراث على فنون الخط العربي والزخرفة التراثية وفن الرسم اطلاع فتي جداً ويكفي ان نشير هنا الى ان معظم هذه الكنوز الفنية ما تزال سجينة المتاحف الغربية وما وصلنا الينا منها هو صور عنها وحسب.
ومع ذلك فأن عدد الفنانين الذين يلتقون في التيار التراثي لا يكاد يحصى، فالاعمال التي تستوحي الخط العربي اعمال منتشرة في معظم العواصم العربية والشرقية وتكاد تكون الاعمال الاكثر نتاجاً او الاكثر هيمنة هي تلك الاعمال، في الوقت الذي لم تتبلور فيه بعد نظرة جمالية شاملة عن فن الرسم التراثي او فن الخط او فن الزخرفة او فن النسيج والمعادن والخشب والخزف كفنون قائمة بذاتها تنحدر من فلسفة او من رؤية جمالية تشمل معنى الفن ومصيرة ومعنى الفنان ووظيفته. والسلام عليكم.

*******

 

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة