البث المباشر

في مهب العاصفة

السبت 12 يناير 2019 - 15:27 بتوقيت طهران

الحلقة 25

سلام من الله عليكم مستمعينا الافاضل ورحمة الله وبركاته.
قانون «الدعاء» احباءنا لا يبقي لليأس معناه في قاموس اللاجئين الى الله مسبب الاسباب ومن ابوابه الذين جعلهم وسائل لاستنزال رحماته الخاصة.
فالتوسل بهم الى الله القادر على كل شيء، هو السبب المتصل بين الارض والسماء الذي لا انقطاع له حتى اذا انقطعت كل الاسباب وما أكثر شواهد هذه الحقيقة التوحيدية الكبرى، ومنها ما يأتيكم في حلقات هذا البرنامج ومنها قصة هذه الحلقة قصة الطفلة اكرم باكدل التي عانت من مرض تعفن الكلية وفي مرحلته التي يأس الأطباء ‌من امكانية علاجها، وبقيت تعاني الى اليوم السادس من شهر آب سنة ۱۹۹۷. نشرت اصل قضيتها مجلة حرم في عددها التاسع والاربعين.
اختار معد البرنامج لهذه القضية عنوان:
في مهب العاصفة
- ماما...ماما! رجلي تتقطع من الألم!
اخترق بكاء الطفلة سكون ليل البيت، فأفاقت الام من نومها مذعورة، وراحت تحدق في الساعة الجدارية بعينين حمراوين... وكانت عقارب الساعة تخبر عن الرابعة صباحاً. ومن ظرف دواء ‌اكرم اخرجت فاطمة قرصاً مهدناً ووضعته في فم ابنتها. ان جسدها الصغير يتلظى من سخونته. عمدت الام الى كمادة قماش مبلولة وجعلتها على جبهة اكرم التي اخذت تنزلق رويداً رويداً الى النوم. اعتصر قلب الام وانقبضت اسارير وجهها وهي تشاهد وجه ابنتها المعذب وكان صوت الطبيب ما يزال يطن في أذنيها:
- الكلية عضو حساس، والمؤسف ان مرض ابنتك في مراحله المتقدمة التعفن سرى الى رجليها ان فكرة فقدان اكرم كانت تعصف بها من الاعماق وتملأ عينيها بالدموع:
- لماذا انت؟! لماذا أنت يا ابنتي؟!
اجهشت باكية، فتحدرت دموعها على الخدين. نهضت من مكانها، ومضت الى نافذة الفندق تفتحها، فداعبت نسائم السحر وجهها. تنفست نفساً عميقاً.. كأنها تريد ان تتغلب به على افكارها المحتدمة. ومن بعيد كانت قبة حضرة الامام الرضا(ع) تلوح متلألئة في قلب المدينة كجوهرة مشرقة. واذ كانت تتطلع الى مشهد القبة تداعى اليها النوم الذي حرمته عدة ليال. وبنبرة ‌رحيمة‌ قال لها رجل يرتدي ثوباً أبيض ذو نطاق من نسال اخضر:
- يا ابنتي... لماذا لاتأتين الى في دار الشفاء؟
وفكرت المرأة: يعني ممكن؟ ممكن ان يشفي الامام الرضا ابنتي؟!
غمرت المرأة حيوية وملأها النشاط، فشرعت تسلم على الامام من صميم الفؤاد.
كان بياض الصبح يتهادى من قلب الليل حينما تناهى الى أذنها صوت باب غرفة المنزل يفتح. انه زوجها عباس قد عاد من نوبة عمله متعباً. القى عليها تحية، وجال بنظراته المكتئبة في أنحاء الغرفة، ثم اخذ يحدق في البنت الصغيرة. ها هي حمامة عباس وفاطمة ‌في مهب العاصفة مهيضة الجناح. ان عليه ان يودع ايام دفء الطفولة العذبة في صندوق الغرفة... باستسلام الى فراش المرض.
دنا الأب من ابنته. كان وجهها الشاحب تعلوه حبات من العرق. سأل عباس:
- فاطمة... كيف كانت أكرم البارحة؟
هزت الام رأسها علامة للنفي. رفع الأب الكمادة من جبهة البنت، ليجفف بها عرق وجهها. قالت الام:
- اقول عباس... نحن اخذنا البنت الى اطباء كثيرين ولم نستطع مداواتها. تعال نأخذها الى الامام الرضا(ع) الذي يداوي امراض الجميع.
تطلع الاب الى وجه ابنته الذي يعلوه الشحوب وقال:
- نعم انا فكرت في هذا ايضاً. في الاسبوع القادم ذكرى وفاة النبي(ص) والامام الحسن والامام الرضا عليهما السلام... نأخذها الى الحضرة، لعل الله يمن علينا بحرمة هذه الليالي.
ورقة التقويم الحمراء تشير الى اليوم التاسع والعشرين من صفر. وعلى عباس وفاطمة ان يمضيا الآن الى الحضرة، لعل طبيب القلوب المنكسرة يعافي ابنتهما، ويمسح قلبيهما ببلسم الاطمئنان وتنجو سفينة حياتهما من دوامة ‌البلاء. انهما انما جاءا الى مشهد تقرباً الى الله تعالى بزيارة الامام علي بن موسي الرضا(ع) ليشتركا في ماتم ليل شهادة‌ الامام الغريب.
جموع الناس الذين يرتدون ثياب الحداد.. يلجأون الى الحضرة المقدسة، ليضمن الامام تفريج همومهم عند الله سبحانه وتعالى. لقد اجتمع المحبون ليبكوا ظلامة شمس الشموس الساطعة ابداً، والجاذبة اليها فراشات المحبة، وليستمدوا من جمال خلقه واخلاصه ويقينه دروس الايثار والفتوة والتوحيد. والراثون الكثار وفي صحون الحضرة وما حولها يعبرون عن مودتهم وتفجعهم بالشعر الذي ينشدونه في مواكب العزاء. كلهم جاءوا ليصرخوا صرخة تتفجر من العبرة المكنومة المختنقة‌في حنجرة التاريخ وكانت صيحات الاسى والماتم تتجاوب في انحاء الصحن العتيق.
انها لحظات مفعمة بمذاق الملكوت. ترفرف فيها مشاعر قدسية قيمة تغمر المكان وتحيي القلوب. وافواج الملائك من وراء‌ حجب الغيب، تنظر الى قلوب المحبين الملهبة الباكية على ظلامة ‌خبر البرية في العالمين.
اتجه الاب والام وابنتهما تلقاء النافذة الفولادية، فشقوا طريقهم بين الجموع المحتشدة بعسر... حتى بلغوا قريباً من النافذة.
أكرم كانت تحس ان هذه الليلة ليست كالليالي. كانت في حالة طيبة... حالة سماوية عابقة وشعرت ان عقدة حاجتها قد انحلت، وتفضل عليها الامام بالرأفة والخلاص. باذنه سبحانه وتعالى.
جلست الام منحنية وهي تحتضن صغيرتها .. وسرحت بالافكار. خطرت في ذاكرتها حادثة‌ يوم امس حين تمزق وريد صغيرتها العزيزة لما أرادوا زرق الابرة. ازرقت شفتا الام وجف فمها وكان يغطي جسمها عرق بارد. وعندها سترت الام وجهها بكفيها وانتحبت باكية ان طائر قلبها المضطرب لا يكف عن الخفقان مادامت ابنتها لم تحظ بالعافية. تذكرت فاطمة هذا فهملت مدامعها...غير ان برعم امل كان يتفتح في قلبها مع كل قطرة تنحدر من العينين وانبعث نسيم طربي محبب يهب في داخلها ماسحاً عن قلبها ما تكدس عليه من غبار الاسي والحزن.
ان مرض اكرم كان عاصفة غضبى تكاد تقوض قلعة احلام فاطمة وعباس. اما الرجل فقد اشتد به ضيق صدره وقذف به الى الماضي... يوم كانت اكرم تحوم حوله كفراشة زاهية مقبلةً محياه. ارتسمت على‌ شفتيه ابتسامة باردة، ومن عمق وجوده هتف:
- يا علي بن موسي الرضا... لا تردنا عن بابك خائبين.
وغلب عليه حزن صدره، تفجرت دموعه ساخنةً على الخد... في حين كان بصره مشدوداً الى المرضى المكروبين من حوله: احدهم مصاب بداء السرطان العضال والآخر طفل مشلول مستلق الى جوار ابيه وما يفتأ ابوه يداعبه ويناغيه. في ناحية اخرى كانت ام تمسج رجلي ولدها، لعلها تعيد اليهما رمق الحياة. كلهم جاءوا الى محضر حجة الله ثامن ائمة الهدى يسكبون الدموع ابتغاءً للطهر والصفاء، ولينالوا مرادهم على يد خير عبيد الله باذن ربه الكريم.
انسربت اكرم في هدأة الى غفوة نوم دهش ابواها لهدوئها فيها. كانا عاكفين على الضراعة ‌والمناجاة. وكان صوت القرآن العذب يملأ المكان بمعنوية مرفوفة شفافة. كان المقرىء يرتل آيات من سورة الرحمن. وكان صوت بكاء المرأة يتعالى لحظةً بعد لحظة.
قال الرجل: ايها... الـ... امام ... الـ.. رضا!
واحتبس صوته في حنجرته، فلم يستطع ان ينطق بحرف!
افاقت اكرم من غفوتها صائحةً بلهفة:
- السيد الذي يرتدي البياض .. أين ذهب؟!
امتزجت نظرات عباس المندهشة بنظرات فاطمة الحيرى.
سأل الأب: أي سيد يا ابنتي؟!
قالت أكرم بنبرة مرتجفة: السيد الذي جاء وقال: «لماذا أنت مهمومة يا ابنتي»؟ قلت: رجلي توجعني. ومسح بيده على خاصرتي وقال: ‌«اذهبي فقد شفيت».. ألم تروه انتم؟!
فطنت الام الى ان عقدة‌ الحاجة‌ قد انحلت.
قالت: عباس! انظر ... انظر! الحبل محلول من يد أكرم!
تناول الاب طرف الحبل وعقده على معصم الطفلة عدة مرات. وحركت اكرم يدها حركة خفيفة... فانساب الحبل من معصمها ووقع في حضنها!
ان الغم الممض الذي سلبهما الراحة والاستقرار عدة اشهر قد انزاح عن كاهليهما في لحظة رضوية مقدسة، وبدأت تنعش حياتهما نسمات المسرة والهناء لقد انعتقت اكرم الصغيرة من ويلات دائها التي كانت تحاصره كنبتة مصفرة تكاد تقتلعها الريح العاتية الي الابد، وبدأ محياها يشرق واساريرها تنبسط بابتسامة‌ رائقة فازت بها بهبة من الطاف غيب الرضا صلوات الله عليه باذن ربه الجليل
وشهد الزائرون لحظات الاستجابة ‌الرضوية النفسية، فماجت قلوبهم بالوجد والشوق والامل، وتطلعت ضمائرهم الى الفوز بحياة اخرى رغيدة هي خير مما يجمعون.. حياة مغسولة بنور الرضا(ع)، ومكتحلة عيونها القريرة بمودة شمس الشموس وانيس النفوس.

*******

 

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة