البث المباشر

مقدمة

الثلاثاء 20 نوفمبر 2018 - 14:19 بتوقيت طهران
مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم
الانسان موجود ينشد الكمال فطريا، وهكذا المجتمع الانساني، وهذه حقيقة تؤكد عليها الشرائع السماوية والمدارس الفكرية والفلسفية، اللهم الا اصحاب الاتجاهات التشاؤمية، وقليل ماهم. انطلاقاً من هذه الفطرة تطلعت البشرية دوماً الى يوم موعود… يوم تحقق الامال، وسيادة العدل، وزوال الوان الظلم. التطلع لمثل هذا اليوم شكل ركنا من اركان الشرائع السماوية باعتبارها دين فطره الله. كما انعكس التطلع لهذا اليوم الغيبي على اشد المدارس الارضية رفضا للغيب مثل المادية الجدلية التي آمنت بيوم موعود تزول فيه كل الوان الصراع القائم على ظهر الارض، ويسود فيه الوئام والسلام. مسألة (المهدي) في الاسلام تجسيد لهذا التطلع الفطري. وهي - اضافه الى كونها عقيدة تلبي حاجة ايمانية فطرية في الانسان - ذات آثار عملية على مسيرة المجموعة المسلمة.

في مرحلة النضال من اجل تسلم زمام امور خلافتها في الارض.

وفي مرحلة تسلم اعباء الامانة الكبرى وممارسة امور الاستخلاف.

في هذه المقدمة نستعرض الطرف التي سلكها الباحثون في دراسة مسالة (المهدي) في الاسلام لنتبين طريقه الاستاذ الشهيد مطهري لدراسه المسألة في هذا الكتاب. الباحثون في مسألة المهدي سلكوا ثلاثه طرق: 
1 - دراستها على مستوى النصوص (المأثور من السنة الى جانب بعض آيات القرآن الكريم).
2 - دراستها من وجهه النظر العقلية والعلمية.
3 - دراستها على ضوء فلسفة التاريخ ومستقبل المسيرة البشرية.

دراسة مسألة المهدي على مستوي السنة

فكرة المهدي بوصفه القائد المنتظر الذي تتحقق على يديه تطلعات البشرية، وتطبيق الرسالة الالهية بشكلها الشامل الكامل وردت في احاديث الرسول وفي احاديث ائمة آل البيت، وبلغت كثرة الروايات - في هذا الشأن - حداً لا يمكن ان يرقي اليها الشك. احصى العلماء اربعمائة حديث عن النبي صلى الله عليه وآله في المهدي من طرق اخواننا اهل السنة. كما احصيت اكثر من ستة آلاف رواية في المهدي من طرق الشيعة والسنة. ولا نستطيع ان نجد مسألة اسلامية اخرى وردت فيها هذه الكثرة من الاحاديث، حتى المسائل الاسلامية البديهية التي لا يشك فيها مسلم عادة. ثمة فتوى صدرت عن ادارة المجمع الفقهي الاسلامي التابع لرابطة العالم الاسلامي في مكة المكرمة بشأن (المهدي) هي خير معبر عن الموقف العام لعلماء اخواننا السنة بشأن النصوص الواردة في هذه المسألة. حرر الفتوى الشيخ محمد المنتصر الكتاني واقرته اللجنة المكونة من الشيخ صالح بن عنيمين والشيخ احمد محمد جمال والشيخ احمد على والشيخ عبدالله خياط. وجاء في هذه الفتوى الصادرة عام (1976 م) في تعريف المهدي:
"هو: محمد بن عبدالله الحسني العلوي الفاطمي المهدي الموعود المنتظر، موعد خروجه في آخر الزمان وهو من علامات الساعة الكبرى،يخرج من المغرب ويبايع له في الحجاز في مكة المكرمة بين الركن والمقام - بين باب الكعبة المشرفة والحجر الاسود عند الملتزم. ويظهر عند فساد الزمان وانتشار الكفر وظلم الناس ويملأ الارض عدلا وقسطا كما ملئت جوراً وظلماً، يحكم العالم كله وتخضع له الرقاب بالاقناع تارة وبالحرب اخرى. وسيملك الارض سبع سنين، وينزل عيسى عليه السلام من بعده فيقتل الدجال وينزل معه فيساعده على قتله بباب لد بأرض فلسطين. وهو آخر الخلفاء الراشدين الاثني عشر الذين اخبر عنهم النبي صلوات الله وسلامه عليه في الصحاح. واحاديث المهدي وارده عن الكثير من الصحابة يرفعونها الى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومنهم: عثمان بن عفان، وعلى بن ابي طالب، وطلحة بن عبدالله، وعبد الرحمن بن عوف، وعبدالله بن عباس وعمار بن ياسر، وعبد الله بن مسعود، وابو سعيد الخدري، وثوبان، وقرة بن اياس المزني، وعبد الله بن الحارث بن جزء وابوهريرة، وحذيفة بن اليمان، وجابر بن عبدالله، و ابو امامة، وجابر بن ماجد الصدفي، وعبد الله بن عمر، وانس ابن مالك، وعمران بن حصين، وام سلمة. هؤلاء عشرون منهم ممن وقفت عليهم وغيرهم كثير وهناك آثار عن الصحابة مصرحة بالمهدي من اقوالهم كثيرة جدا لها حكم الرفع اذ لا مجال للاجتهاد فيها.  احاديث هؤلاء الصحابة التي رفعوها الى النبي صلى الله عليه وسلم، والتي قالوها من أقوالهم اعتمادا على ما قاله رسول الله صلوات الله وسلامه عليه رواها الكثير من دواوين الاسلام وامهات الحديث النبوي من السنن والمعاجم والمسانيد. منها: سنن ابي داود، والترمذي، وابن ماجة، وابن عمر والداني ومسانيد أحمد، وابن على والبزار، وصحيح الحاكم، ومعاجم الطبراني، الكبير والوسيط، والروياني، والدار قطني في الافراد، وابو نعيم في اخبار المهدي، والخطيب في تاريخ بغداد، وابن عساكر في تاريخ دمشق وغيرها. وقد خص المهدي بالتاليف: ابو نعيم في اخبار المهدي وابن حجر الهيثمي في القول المختصر في علامات المهدي المنتظر، و الشوكاني في التوضيح في تواتر ما جاء في المنتظر والدجال والمسيح وادريس العراقي المغربي في تأليفه المهدي وابو العباس بن المؤمن المغربي في كتابه: الزعم المكنون في الرد على ابن خلدون. وآخر من قرأت له عن المهدي بحثاً مستفيضاً مدير الجامعة الاسلامية في المدينة المنورة في مجلة الجامعة في اكثر من عدد. وقد نص على أن احاديث المهدي انها متواترة جمع من الاعلام قديماً وحديثاً. منهم: السخاوي في فتح المغيث، ومحمد بن احمد السفاويني في شرح العقيدة، وابو الحسن الابري في مناقب الشافعي، وابن تيمية في فتاواه، والسيوطي في الحاوي، و ادريس العراقي المغربي في تأليف له عن المهدي، والشوكاني في التوضيح في تواتر ما جاء في المنتظر والدجال والمسيح، ومحمد بن جعفر الكتاني في نظم المتناثر في الحديث المتواتر، وابو العباس ابن المؤمن المغربي في الوهم المكنون من كلام ابن خلدون رحمهم الله وحاول ابن خلدون في مقدمته ان يطعن في احاديث المهدي محتجا بحديث موضع لا اصل له عند ابن ماجه: لا مهدي الا عيسى. ولكن رد عليه الائمة والعلماء وانه ليس من علماء الشريعة وانه قال باطلا من القول وزوراً. وخصه بالرد شيخنا ابن المؤمن بكتاب مطبوع متداول في الشرق والمغرب منذ اكثر من ثلاثين سنة. ونص الحفاظ والمحدثون على ان احاديث المهدي فيها الصحيح والحسن ومجموعها متواتر مقطوع بتواتره وصحته. وان الاعتقاد بخروج المهدي واجب وانه من عقائد اهل السنة والجماعة ولا ينكره الا جاهل بالسنة ومبتدع في العقيدة..". اما النصوص الواردة عن النبي صلى الله عليه وآله والمعصومين بطرق مدرسة آل البيت فتنظر الى المسألة ضمن دائره اوسع وتذهب الى: ان (المهدي) هو الامام الثاني عشر من أئمه آل البيت، وهو ابن الامام الحسن العسكري، وهو غائب، وسيظهر في آخر الزمان ليملا الارض قسطاً وعدلا كما ملئت ظلماً وجورا. وجدير بالذكر ان فكرة الائمة والخلفاء والامراء الاثني عشر، لم تقتصر على مدرسة آل البيت، بل وردت فيها نصوص بعبارات مختلفة بطرق مختلفة. وأحصيت الروايات الواردة في هذا الشأن فبلغت اكثر من مائتين وسبعين رواية مأخوذة من أشهر كتب الحديث عند الشيعة والسنة بما في ذلك البخاري ومسلم والترمذي وابي داود ومسند أحمد ومستدرك الحاكم على الصحيحين. والعلماء الذين لم يذهبوا مذهب آل البيت في فهم الائمة الاثني عشر حاروا في تفسير هذا الحديث كما نجد ذلك في شرح مسلم للنوي، وفتح الباري وشرح ابن العربي. ولا بد من الاشارة الى أن فتوى ادارة المجمع الفقهي الاسلامي المذكورة أشارت الى أن "المهدي هو آخر الخلفاء الراشدين الاثني عشر الذين أخبرعنهم النبي صلوات الله وسلامه عليه في الصحاح". هذا الى جانب أحاديث وردت بطرق اخواننا أهل السنة في أسماء الائمة الاثني عشر، وفي كون (المهدي) ابن الحسن العسكري، وانه سيغيب، ثم يخرج ويعلى كلمة الله في الارض.

دراسة مسألة المهدي من وجهة النظر العقلية

ذكرنا أن فكرة المهدي أقدم من الاسلام وأوسع من اطار الشرائع السماوية، لكن تفاصيل هذه الفكرة في الاسلام وخاصة في مدرسة أهل البيت "جاءت أكثر اشباعا لكل الطموحات التي انشدت الى هذه الفكرة منذ فجر التاريخ الديني. وأغنى عطاء وأقوى اثارة لاحاسيس المظلومين والمعذبين على مر التاريخ، وذلك لان الاسلام حول الفكرة من غيب الى واقع، ومن مستقبل الى حاضر، ومن التطلع الى منقذ تتمخض عنه الدنيا في المستقبل البعيد، المجهول الى الايمان بوجود المنقذ فعلا، وبتطلعه مع المتطلعين الى اليوم الموعود، واكتمال كل الظروف التي تسمح له بممارسه دوره العظيم."  وهذه القضية تطرح أسئلة متعددة عن العمر الطويل للمهدي، وعن سبب الغيبة، وسبب الانتظار، وعن الدليل العقلي (غير الروائي) لوجود المهدي، وعن كيفية التحول الذي يسفر عنه اليوم الموعود. هذه المسائل عالجها العلماء بادلة عقلية وعلمية وبرهنوا عليها سالكين طرق الاستدلال المنطقي والعلمي. وقد يطرح سؤال في هذا الصدد حول سبب طرح المسائل العقلية والعلمية بشأن مسألة ثبتت صحتها في الشريعه بالتواتر. والجواب هو ان الاطمئنان العقلي (القلبي) يعمق الايمان، كما ان طريقة معالجة المسائل الدينية الغيبية على صعيد عقلي تصلح أن تخاطب المؤمنين بالغيب بكافة درجاتهم وهكذا غير المؤمنين بالغيب، وهي طريقة يحتاجها الدعاة الى الله في كافة العصور، وخاصة في العصر الذي تطغي فيه الروح المادية، ويسود فيه الجدب الايماني. حول مسألة (امكان) طول العمر - وهي اهم مسألة مطروحة على الصعيد العقلي بشأن المهدي الغائب المنتظر - يقسم بعض العلماء (الامكان) الى معانيه الثلاثة: 
1 - الامكان العملي: أن يكون الشيء ممكنا على نحو يحتاج لفرد ولافراد أن يحققوه فعلا، كالصعود الى القمر مثلا.
2 - الامكان العلمي: و هو أن يكون تحقق الشيء غير مرفوض علميا، ولكنه قد لا يكون ميسوراً حاليا، كالصعود الى كوكب الزهرة مثلا، فهذا الصعود لا يرفضه العلم غير أن سبله غير ميسورة حاليا، على العكس من الصعود الى الشمس فانه غير ممكن عملياً.
3 - الامكان المنطقي والفلسفي: هو أن لا يوجد لدى العقل وفق ما يدركه من قوانين قبلية - أي سابقة على التجربة - ما يبرر رفض الشيء والحكم باستحالته.
فانقسام العدد (3) الى عددين متساويين صحيحين مرفوض منطقيا، لان هذا الانقسام من خصائص العدد (الزوج) والعدد 3 عدد (فردي) ولا يمكن أن يكون العدد زوجيا وفرديا في آن واحد لان ذلك تناقض والتناقض مستحيل منطقيا. بينما صعود الانسان الى الشمس ممكن منطقياً لانه لا يستلزم حدوث تناقض، اذ لا تناقض في افتراض أن الحرارة لا تتسرب من الجسم الاكثر حرارة الى الجسم الاقل حرارة، وانما هو مخالف للتجربة. من هذا يتبين أن الامكان المنطقي أوسع دائرة من الامكان العملي، وهذا أوسع دائرة من الامكان العلمي.
لا شك في أن امتداد عمر الانسان آلاف السنين يمكن منطقيا، لانه لا يستوجب حدوث أي تناقض، وليس مستحيلا من وجهه نظر عقلية تجريدية. والاتجاهات العلمية باجمعها لا ترفض امكانية اطالة عمر الانسان سواء فسرنا الشيخوخة بوصفها نتاج صراع واحتكاك مع مؤثرات خارجية أو نتاج قانون طبيعي للخلية الحية نفسها يسير بها نحو الفناء. لانه من الممكن علميا تاجيل قانون الشيخوخة بخلق ظروف وعوامل معينة.
من هنا نفهم أن طول عمر الانسان وبقاءه قرونا متعددة أمر ممكن منطقيا وممكن علميا ولكنه لا يزال غير ممكن عمليا، الا أن اتجاه العلم سائر في طريق تحقيق هذا الامكان عبر طريق طويل. وعلى هذا الضوء يمكن فهم مسألة عمر المهدي عليه الصلاة والسلام وما أحيط بها من استفهام واستغراب. و بشأن فوائد هذه الغيبة الطويلة ومبرراتها العقلية ذكر أنها:
1 - اعداد القائد المنتظر اعداداً نفسيا مشحونا بالشعور بالتفوق والاحساس بضآلة الكيانات الشامخة التي اعد (المهدي) للقضاء عليها ولتحويلها حضاريا الى عالم جديد.
2 - تعميق الخبرة القيادية في القائد المدخر لليوم الموعود، عن طريق مواكبة الحضارات المتعاقبة والمواجهة المباشرة لحركتها وتطوراتها.
3 - ضرورة قرب القائد المنتظر من مصادر الاسلام الاولى وبناء شخصيته بناء كاملا بصورة مستقلة ومنفصلة عن مؤثرات الحضارة التي قدر لليوم الموعود أن يحاربها.
و وجود المهدي بالفعل يستدل عليه علمياً بتجربه الغيبة الصغرى، وهي فترة عاشتها الامه سبعين سنة تقريبا. و خلال هذه الفترة كان الامام المهدي - عليه السلام - يتصل بالقواعد الشعبية بشكل غير مباشر عن طريق أربعة نواب هم:
1 - عثمان بن سعيد العمري.
2 - محمد بن عثمان بن سعيد العمري.
3 - أبو القاسم الحسين بن الروح.
4 - ابو الحسن علي بن محمد السمري.
وقد مارس هؤلاء الاربعة مهام النيابة بالترتيب المذكور، وكلما مات أحدهم خلفه الاخر الذي يليه بتعيين من الامام المهدي (ع). و كان السمري آخرهم وأعلن عن انتهاء مرحلة الغيبة الصغرى التي تتميز بنواب معينين، وابتداء الغيبة الكبرى التي تحولت النيابة فيها الى خط عام وهو خط المجتهد العادل البصير بأمور الدنيا والدين. وهذه التجربة التي امتدت سبعين سنة مهدت الجو للغيبة الكبرى ووقت الامة من الصدمة التي قد تشعر بها اذا انقطعت عن الاتصال المباشر بأمامها فجأة. وهذه الفترة بما اتسمت به من متابعة لخط واحد منسجم لا التواء فيه تؤكد مسألة وجود المهدي، اذ منطق الحياة يثبت أن من المستحيل عمليا بحساب الاحتمالات أن تعيش اكذوبة بهذا الشكل وكل هذه المدة وضمن كل تلك العلاقات بين الامام ونوابه، والاخذ والعطاء، ثم تكتسب ثقة جميع من حولها. وثمة سوال أخر يطرح حول سبب امتداد الغيبة وسبب عدم الظهور طيلة هذه المدة. والجواب: ان نجاح كل عملية تغيير اجتماعي ترتبط بتوفر شروط وظروف موضوعية. وقد جرت سنة الله تعالى في عمليات التغيير الرباني على التقيد من الناحية التنفيذية بالظروف الموضوعية التي تحقق المناخ المناسب والجو العام لا نجاح عملية التغيير، ومن هنا لم يأت الاسلام الا بعد فترة من الرسل وفراغ مرير استمر قرونا من الزمن. وعملية التغيير الكبرى هذه لا يكفي في ممارستها مجرد وصول الرسالة والقائد الصالح، والا لتمت شروطها في عصر النبوة بالذات، وانما تتطلب مناخا عالميا مناسبا وجواً عاما مساعدا يحقق الظروف الموضوعية المطلوبة لعملية التغيير العالمية. و الشروط الموضوعية لظهور المهدي - عليه السلام - تتوفر على الصعيد البشري بشعور انسان الحضارة بسلبيات البناء الحضاري القائم وبحاجته الى العون ملتفتاً بفطرته الى الغيب والى المجهول. وتتوفر على الصعيد المادي بتطور الوسائل المادية الحديثة الى درجة توفير الادوات والوسائل التي يحتاجها جهاز مركزي لممارسة توعية شعوب العالم وتثقيفها على أساس الرسالة الجديدة. هذه هي أهم المسائل المطروحة على المنهج العقلي في دراسة مسألة المهدي، استعرضتها - كما ذكرت - من المقدمة التي كتبها الامام الشهيد محمد باقر الصدر قدس سره على موسوعة تلميذه السيد محمد الصدر، وهذه الموسوعة تكلفت بمعالجة المسألة على كافة الاصعد بشكل واف وعميق.

دراسة مسألة المهدي في ضوء فلسفة التاريخ

وهذا الكتاب الذي بين يدي القاريء نموذج لمثل هذه الدراسة. وقبل أن أستعرض منهج الكتاب، لابد أن أشير الى مسألة دأب على ذكرها علماء الاجتماع الغربيون وتلامذتهم من المسلمين - مع الاسف - عند حديثهم عن مسيرة التاريخ. حين يستعرض هؤلاء التفاسير المختلفة لمسيرة التاريخ ومسيرة المجتمع البشري يتحدثون عن "التفسير الديني لمسيرة المجتمع" باعتباره واحداً من الاتجاهات التشاؤمية لتفسير المسيرة البشرية. وحجتهم في ذلك قصة آدم، المذكورة في الكتب السماوية. وهذه القصة تذهب - على حد قول الغربيين والمغتربين - الى أن آدم (وهو رمز لبني الانسان) كان يعيش في الجنة رغدا آمنا منعما لكنه ارتكب خطيئة ادت به الى أن يطرد من الجنة، ويلاقي هو واولاده النصب والعناء في هذه الدنيا، ومن هنا فالحياة البشرية، في النظرة الدينية، محكوم عليها بالارهاق والتعب والنصب، ولا راحة لبني البشر الا بالعودة الى الجنة التي أخرج أبوهم منها. هذا اللون من الفهم لقصة آدم قد ينسجم مع تفاسير الكنيسة المسيحية وعرض الاناجيل الموجودة، لهذه القصة، لكنه بعيد كل البعد عن الفهم الاسلامي القرآني لها. لا يمكن في هذه المقدمة استعراض تفاصيل قصة آدم من وجهة النظر القرآنية، ومعطياتها والدروس العظيمة المستخلصة منها، فاكتفي بذكر بعض آيات هذه القصة وجانب من دروسها بقدر ما يتعلق الامر بمستقبل المسيرة البشرية.
قال تعالى : 

"ولقد عهدنا الى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما. واذ قلنا للملائكة اسجدوا لادم فسجدوا الا ابليس أبي. فقلنا يا آدم ان هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى، ان لك الا تجوع فيها ولا تعرى. وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى. فوسوس اليه الشيطان قال: يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى. فاكلا منها فبدت لهما سواتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وعصي آدم ربه فغوى. ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى. قال: اهبطا منها جمعيا بعضكم لبعض عدو فأما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى . ومن أعرض عن ذكري فان له معيشه ضنكى…" (طه: 116-125).

الآيات تتحدث أولا عن مكانة آدم في الوجود، و هي مكانة استحق فيها أن تسجد له الملائكة، لانه خليفة الله كما تذكر آيات اخرى. وقصته في الجنة هي قصة مرور الممثل الاول للانسانية التي استخلفها الله تعالى على الارض بفترة حضانة استثنائية - على حد تعبير الشهيد الصدر - لتنمو فيه مؤهلات ممارسة الخلافة على الارض من ناحية فهم الحياة ومشاكلها المادية، ومن ناحية مسؤولياتها الخلقية والروحية. "وقد استطاعت المعصية التي ارتكبها آدم بتناوله من الشجرة المحرمة أن تحدث هزة روحية كبيرة في نفسه وتفجر في أعماقه الاحساس بالمسؤولية من خلال مشاعر الندم … وبهذا تكامل وعيه في الوقت الذي كانت قد نضجت لديه خبرات الحياة المتنوعة. وتعلم الاسماء كلها فحان الوقت لخروجه من الجنة الى الارض التي استخلف عليها ليمارس مسيرته نحو الله من خلال دوره في الخلافة". لقد خرج وهو محمل بتجربة عظيمة أوضحت له ضرورة الالتزام بهدى الله وعدم الانحراف عن الطريق الذي رسمه رب العالمين لبني الانسان. ومادامت البشرية سائرة على هذا الطريق فانها لاتضل ولا تشقى، لكنها ان انحرفت، تمنى بمعيشة ضنكى. ليست الانسانية محكومة بالضلال والشقاء اذن، بل ان الله هدى البشرية فطريا وزودها بتجربة ذاتية نحو السعادة الحقيقية. ومتى ما انحرفت المسيرة هيا الله من يوجه البشرية نحو سعادته الحقيقية ويكون (شاهداً) عليها. وبشأن مستقبل المسيرة البشرية يطرح علماء الاجتماع الغربيون والمتغربون الماركسية باعتبارها مدرسة تفاؤلية فسرت المسيرة ومستقبلها تفسيراً يبعث على الامل في المستقبل ويبشر بمجتمع تزول فيه كل ألوان الظلم والاستغلال. والاستاذ الشهيد مطهري يطلق على التفسير المذكور للتاريخ اسم "التفسير الالي" لانه يتخذ من تطور وسائل الانتاج أساسا لتفسير كل ظواهر التاريخ والمجتمع. ثم يطرح مقابل ذلك "التفسير الانساني" لمسيرة التاريخ، ويبين خصائص كل واحد من هذين التفسيرين، و نقاط التقائهما وافتراقهما. ثم يوضح ان التفسير الاسلامي لمسيرة التاريخ هو "تفسير انساني" وهنا تجدر الاشارة الى أن الاستاذ الشهيد لا يعالج في هذا الكتاب مسألة فلسفة التاريخ الا بقدر ما يتعلق بمسألة انتظار (المهدي) عليه السلام مؤكدا أن هذا الانتظار (في الاطار الاسلامي الصحيح) ينبغي أن يكون بناءاً حركياً من اجل التمهيد للمستقبل المشرق، الذي وعد الله تعالى به البشريه اذ قال:

" ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الارض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين"..

"و لقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر ان الارض يرثها عبادي الصالحون".

رفضا بذلك النظرة التقاعسية الاتكالية للانتظار، التي تقف موقف المتفرج من استفحال الانحراف والفساد والطاغوت على ظهر الارض، انتظاراً لحدوث معجزة التغيير. ويؤكد الاستاذ الشهيد أن ظهور المهدي وظهور الدولة الاسلامية العالمية يسبقه سلسلة من الانتفاضات والنهضات التي تمهد لظهور ذلك المجتمع الانساني العالمي، وتدعم جبهة انصار الحق في صراعها مع جبهة الباطل. ويخلص الاستاذ الشهيد من بحثه الى أن "المهدي المنتظر تجسيد لاهداف الانبياء والصالحين والمجاهدين على طريق الحق".

محمد على، 18 ج 2 - 1401 هجرية



 

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة