البث المباشر

الشاعر الخاقاني وإيوان المدائن -۲

الثلاثاء 24 سبتمبر 2019 - 10:32 بتوقيت طهران
الشاعر الخاقاني وإيوان المدائن -۲

اذاعة طهران - برنامج : عبارات و اشارات - فقرة : الشاعر الخاقاني وإيوان المدائن -۲

نستكمل في هذه الحلقة من عبارات واشارات جولتنا في رحاب رائعة الشاعر افضل الدين الخاقاني في وصف ورثاء ايوان المدائن، واستلهام الدروس والعبر منه، حيث الاسلوب الفخم، والمعاني الغزيرة، والصور المبتكرة.
حيث يتساءل الشاعر في ابيات اخرى من قصيدته عن السبب الذي ادى الى انهيار هذا القصر الفخم المنيف، وتحوله الى اطلال وخرائب يجول الدمار في جنباتها، وينعق غراب البين بين رحابها.
وتستولي الحيرة والدهشة الى نفس الشاعر وهو ينظر بعيونه المتسائلة الى تلك الاطلال، فيصعب عليه وجدان الجواب، ويدهمه حشد من التساؤلات بدلا من ان يهتدي الى جواب تطمئن اليه النفس، ويشفي غليل الصدر، فيعلن قائلا بلهجة مستفهمة:

مَنْ تُرى طاح بايوان المدائنْ

وهو من شال علّواً للسماء؟!

أتراهُ فَلَكاً مثل المطاحنْ

دار فيها، أم ترى حكم القضاءْ؟!

ويطلب الشاعر من الراكب المار بهذه الاطلال ان ينيخ عند اعتابها، وان يستعرض في ذاكرته الاحداث التي توالت عليها، وتركت لنا اكبر الدروس والعبر اعتباراً مما حل بالنعمان بن المنذر وكيف ابُتلي بعد عزّه بذلك المصير الرهيب حيث تقطعت اوصاله تحت اقدام الفيلة.
ومرورا بالملوك الاخرين الذين ملؤوا الدنيا بعساكرهم، وجاسوا في اقطار العالم بجيوشهم الجرارة، وملكوا الرقاب، وتحكموا في مصائر العباد، والذين كان مصيرهم الهجوع تحت الثرى، بعد ان كان مجدهم يبلغ الثرياّ،

هذه الاطلال يوماً شادها

زينةً للدهر، تُدعى ملكُ بابلْ

ايّها الراكب فانزلْ راجلاً

وضع الخدّ على الارض وسائلْ

كيف فيها الملكُ النعمانُ ولّى

تحت اقدامِ حشودِ الفيلَهْ؟!

فاذا بالارض سَكرى بدمٍ

بدلَ الخمر، فأغفتْ ثَمِلَهْ

نزفَتْ مِن روح مَن ولّى ومَن

اصبحوا بعد علوّ في الثرى

فأنوشروان كسرى، هرمزٌ

اصبحوا من بعد عزٍّ عِبَرا

ويقرر شاعرنا الخاقاني بعد ذلك ان تلك الاحداث تحمل في طياتها لمن تأملها واستعرضها العبر والدروس المتواصلة، وانها ينبغي ان تكون دوما منقوشة في الذاكرة كي تسهم في ردع الانسان عن التمادي في التصاقه في الدنيا وخصوصاً عندما يُجسّم الانسان في ذهنه الصورة التي كان عليها مَنْ كان يقيم في تلك المساكن.
حيث مظاهر الترف، والحُلَل التي كانوا في يوم من الايام يرفلون فيها والتي سرعان ما زالت، وكان مصيرها الفناء والانقراض وكأنّها كانت طيفاً عابراً، وحُلُماً مرّ مرور الكرام ليطويه عالم النسيان، وليصبح اثراً بعد عين، وخيالاً وظلالاً بعد شخوص كما يحدثنا الشاعر بذلك قائلا:

عِبَرٌ لكنها منقوشةٌ

فوق تاج المُلكِ تبدو ظاهرهْ

عبرٌ تَتْرى ولا عدّ لها

ضِعْفُها قد حفظتْه الذاكرهْ

كم زهتْ في سالف الدهر موائدْ

لأنوشروان كسرى ولخسرو!

كم لها قد كان مدعوٌّ وشاهدْ!

كلهم كالحلمِ في الاجفانِ مَرُّوا

بخضارٍ كلها من ذهبِ

وصنوفٍ هِجْنَ كلَّ العجبِ

ذهبتْ ادراج ريحٍ عصفتْ

فغدت بعدُ مثال التَّرب

صار برويزُ على الايّامِ نِسْيا

فدعِ الخوضَ ببرويز وامرِهْ

واسألِ الدار التي باهى بها

او فدعْه فهو منسيٌّ بقبرِهْ

ولاينسى الخاقاني وهو يدعو المتأمل لتلك الاطلال والخرائب الى استلهام الدروس والعبر منها، ان يشير في شعره الى آي الذكر الحكيم الداعية الى النظر بعين الاستعبار الى آثار القرون الاولى، ومعالم الامم السالفة التي ملأت الارض ضجيجاً وعجيجاً بجبروتها، وطغيانها.
لقد مضت هذه القرون والامم الى حيث مصيرها المحتوم، الفناء والزوال، والتحوّل الى عِبَر لمن اعتبر بعد ان سادوا، وغرّتهم الحياة الدنيا، وظنوا - وياله من ظنّ خائب- انهم خالدون فيها!

ولْترتّلْ قولَ ربّ العالمين

لتنلْ من قوله برد اليقينْ

اَوَ ما حسبُك ما قد تركوا

لك جنّات جرت فيها العيونْ؟!

ذهب الماضون مِمّن حكموا

هذه الارض واهليها وسادوا

لاتسلْ عنهم ولا كيف قضوا

انّهم سادوا قليلاً ثم بادوا

انّهم في رحِم الارض التي

حبلتْ فيهم ولكن للأبدْ

انّه حَمْلٌ بعيدُ المنتهى

عمرُه هيهات ان يُحْصى بِعَدْ!

نعم! لقد كان مصير كل اولئك الملوك الجبابرة ان خالط التراب اجسادهم، وعفّر خدودهم، ليجول الدود في هذه الاجساد بعد ذلك وتصبح طعمة سائغة له،

كم طوى هذا الثرى من جسدٍ

لمليكٍ او لجبّارٍ عنيدْ!

وهو لم يشبعْ الى الآن وما

زالَ يدعو دائماً، هل من مزيد؟!

وفي ختام قصيدته يحول الخاقاني الخطاب الى نفسه حاضّاً اياها على ان تستلهم العظات البالغة، والزواجر الناهية من تلك الآثار كي تنقل بلسان الشعر المؤثر البليغ هذه العظات والزواجر الى الآخرين علّها تلقى آذاناً صاغية، ونفوساً واعية.
وهو –على عادة الشعراء الايرانيين- يذكر اسمه في نهاية القصيدة مؤكداً ان ابيات قصيدته هي بمثابة هدية مزجاة الى قارئها، فهو قد طاف بين ارجاء تلك الخرائب، واجال نظر الاعتبار بين جنباتها، فكان تطوافه وجولاته هذان بمثابة سفر في اعماق التاريخ، وقد جرت العادة على ان يعود المسافر محملاً بالهدايا، فكانت هذه القصيدة، وكانت تلك الابيات،

ايّها الخاقان لو تطلبُ عِبْرَهْ

فالتمسْها عند تلك العَتَبَهْ

علّ من شاء لديك المَشْوَرَهْ

يلتقي عندك يوماً مطلبَهْ

يحمل العائدُ من اسفارِهِ

لذويه عادةً منه هديَّهْ

وأنا من سفري اخترتُ لكم

هذه الاشعار ياصَحْبي هديَّهْ

*******

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة