البث المباشر

الشاعر الخاقاني وإيوان المدائن -۱

الثلاثاء 24 سبتمبر 2019 - 10:00 بتوقيت طهران
الشاعر الخاقاني وإيوان المدائن -۱

اذاعة طهران - برنامج : عبارات و اشارات - فقرة : الشاعر الخاقاني وإيوان المدائن -۱

 

افضل الدين بديل بن علي الخاقاني هو عملاق آخر من عمالقة الادب الفارسي ويلقّب بـ (حسّان العجم)، وكان يلقب ايضا بـ (حقائقي)، انحدر من أب نجار، وكانت امه جارية رومية اعتنقت الاسلام.
اما عمّه كافي الدين عمر بن عثمان فكان طبيباً وفيلسوفاً، مما مكن خاقاني من ان يتتلمذ على يديه ويدي ولده وحيد الدين، وان يبرع في العلوم الادبية والحكمية كما تتلمذ مدة من الزمن على يدي الشاعر ابي العلاء الكنجوي، ثم تزوج بابنته، واستطاع بواسطة استاذه، ووالد زوجته ان ينخرط في خدمة الخاقان الاكبر فخر الدين منوجهر شروان شاه، وابنه الخاقان الكبير أخستان، واختار لنفسه لقب (خاقاني) نسبة الى لقب مخدوميه.
حجّ خاقاني مرتين، ثم زُجّ به في السجن عام 569هـ، ثم توالت عليه مصائب وخطوب شتى، ومال الى العزلة.
لخاقاني ديوان يشتمل على مجموعة كبيرة من القصائد، والمقطوعات الشعرية والغزلية، اضافة الى مثنوي شعري اي مزدوج شعري تحت عنوان (تحفة العراقين)، كان قد نظمه على وزن بحر الهزج بعد عودته من حجه الاول.
يعتبر خاقاني من اكبر شعراء القصيدة في اللغة الفارسية، اضافة الى كونه ركناً من اركان الشعر الفارسي، اذ قلّد الشعراء منهجه في الشعر مدة طويلة، وهو يشتهر باسلوبه المتميز بقوة الفكر، والمهارة في مزج الالفاظ، وابداع المعاني، وابتكار المضامين الجديدة، وابتكار طرق خاصة في الوصف والتشبيه، بالاضافة الى اختيار ماصَعُبَ من رويّ ورديف، وتحتوي تراكيبه المتضمنة غالبا لتخيلات بديعة، واستعارات وكنايات عجيبة، على معان خاصة لم تكن مستعملة من قبله.
كان خاقاني يتمتع بدراية واسعة فيما يتعلق بمعارف عصره، وبمقدرة فائقة في مجال توظيف تلك المعارف في شعره، مما ادى الى رواج الكثير من المضامين العلمية التي لم تكن شائعة قبله.
وقد تأثر هذا الشاعر الكبير مثل اكثر شعراء عصره بمنهج الشاعر سنائي، فنحا منحاه في قصائده الحكيمة والغزلية، وجنح مثله نحو الزهد والوعظ في اشعاره في محاولة للوصول الى مرتبة سنائي نفسه والذي يعدّ بحق رائد الزهد والوعظ في الادب الفارسي.
من بين الروائع الخالدة التي خلّفها الشاعر افضل الدين الخاقاني، قصيدته البديعة في وصف ورثاء ايوان المدائن، والتي نهج فيها منهج الشاعر الوصّاف الكبير البحتري الذي سبقه في وصف هذا الايوان والوقوف عنده، واستلهام الدروس والعبر منه، ومما حل به من عوادي الزمن.
وقد اشتهرت قصيدة خاقاني على نطاق الشعر الفارسي، وعُدّت واحدة من روائعه الخالدة، واعماله البديعة بما تميزت به من اغراض، ومعان، ومضامين تربوية وخلقية حاول من خلالها ان يستهلم العبر والدروس، ويقدمها الى القارئ في غلاف بديع، وقالب جميل من التشبيهات اللطيفة، والاستعارات الرائعة، والصور الادبية والبلاغية الخلابة.
هذا بالاضافة الى صدق تجربة الشاعر، وارتفاع مستوى تأثيره في النفس الانسانية، بما حفل به اسلوبه من صور وتمثيلات مؤثرة اخاذة تتناغم مع الروح، وتتشابك مع النفس، وتدخل الى شغاف القلوب، كما سنرى ذلك في الابيات المترجمة الى العربية من هذه القصيدة الرائعة والتي يبدؤها الخاقاني بمخاطبة قلبه حاثاً اياه على ان يأخذ العبر من صورة الخرائب الماثلة امامه، والتي كانت في يوم من الايام قصراً منيفاً، يناطح السماء، ويحفل بزخارف الحياة الدنيا، فلنستمع معاً:

أيّهذا القلب يا قلبي اعْتَبِرْ

بالذي حلّ بايوان المدائنْ

من دماء قد جرتْ مثل نَهَرْوافولٍ حلّ في تلك المساكنْ:

طُفْ لمُاماً ايّها القلبُ بها

واذرف الدمع سخيّاً مثل دِجلَهْ

حَزَناً منك عليها واتّئدْ

فلعل الدمع يشفي منك غلَّهْ

ويقرر الشاعر وهو يجيل الطرف في ارجاء الاثار التي خلفها الاكاسرة في المدائن حيث يمتد نهر دجلة مسجلا على صفحته الاحداث والنكبات التي توالت وجاست بين تلك الديار، وكأنه شاهد أبديّ على تقلبات الزمان، يقرر ان الدرس الاكبر، والعبرة العظمى التي من الممكن للانسان ان يستهلمها من ذلك الركام المنتثر هو ان كل مجد بشري لابد وان يكون مصيره الافول، وان الايام دول بين الناس كما نرى ذلك في الابيات التالية التي نستمع اليها بعد الفاصل:

دجلةٌ يبكي فيجري دمعُه

أنهُراً حرّى، ولكنْ من دماءْ!

تقطرُ الاهدابُ ناراً ولظىً

حَرُّها مضطرمٌ دونَ انطفاءْ

وتأمّل كيف شبّت حسرةٌ

انّها حمراء تشوي ماء دجلهْ!

ما سمعنا قبلُ كيف النارُ تشوي

وتلظّي نَهَراً في حجم دجلهْ؟!

كلّ حيّ، كل بيت في المدائنْ

سوف يعطيك عظاتٍ، وعظاتْ

فاتّعظْ منها، فانّ القولَ بائنْ

اوضحُ الاقوال قولُ النكباتْ

كلّ ما تسمعُه منها يقولْ

كلُّ مجدٍ بعد لأْيٍ لأفولْ

كلّ ما في ذلك الايوان يوحي

انّما الحزنُ عميقٌ وطويلْ

وخرائب ذلك القصر الفخم المنيف تكاد تهتف بالانسان المتأمل لها بعين الاعتبار مقررة انها خير شاهد ودليل على ان كل شيء في هذه الحياة لابد وان يؤول الى التراب كما بدأ منه، فليقتصد الانسان اذن وليسكب قليلاً الدمع وهو يتذكر الموت:

هاتفٌ انّك آتٍ من ترابْ

واليه في غد تلقى الايابْ

فامضِ في رفقٍ عليه، واتّئدْ

واجعل الدمع عليه في انسكابْ

فاذرفِ الدمع سخيّاً ساخناً

ملءَ عينيك كماء الورد احمرْ

عَلَّ منك الدمع يشفي حَزَناً

غير انّ الدمع لايمحو المُقَدَرْ!

الا ان الشاعر يعود ليقرر ان الدموع هي مصدر الابتسامات والاحزان منبع الافراح، وانها تمثل حقيقة تدعو الانسان الى التأمل، والتفكر، واستلهام الدروس والعبر من الحياة لانها تكون عادة مقرونة بالنظرة الجادة الصارمة الى الامور.
ولان الضحك قد يكون مدعاة الى الغفلة، والاغترار، ونسيان المصير الذي خلق الانسان من اجله، فلنسكب الدموع –اذن- ولكن ليس دموع الكآبة والحزن، بل دموع الاستعبار، ودموع الندم والخشوع والتي يعقبها عادة الابتهاج الروحي، والراحة النفسية.

انما الدمع أيا قلبي حقيقة

وبها تشدو على الغصن البلابلْ

كم ترى اليوم بها ناحتْ طليقهْ

مثلما ناحتْ من الثُّكْلِ الاراملْ

تُطربُ الآذانَ الحانُ البلابلْ

ونواحُ البوم كم يذكي الشجونْ!

فدعِ العُجْبَ اذا ما كنتَ راحلْ

فهي دنياً عَجَبٌ، دنياه فتونْ!

*******

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة