البث المباشر

العاطفة الزينبية وصلابة الموقف

الأحد 22 سبتمبر 2019 - 13:35 بتوقيت طهران
العاطفة الزينبية وصلابة الموقف

وهكذا عاشت [زينب (ع)] مع الحسين (ع) وواجهت المأساة، فإذا قلنا عنها إنها "أم المصائب"، فإننا نجد أن حركة المصائب انطلقت منذ طفولتها حتى كهولتها، وكانت مصائب معقّدة تتحرّك في أجواء عاشها المسلمون بطريقة فيها الكثير من أوضاع الفتنة، وأوضاع الحرب، وفيها الكثير مما عاشه المسلمون في تعقيدات لايزال تأثيرها سلبياً في واقع المسلمين حتى الآن.

 

هذه هي صورة ولادة زينب (ع) ونشأتها فيما نستوحيه من حياتها من هذا البيت الذي أذهب الله عنه الرّجس وطهّر أهله تطهيراً.

 

العاطفة الزينبية:

 

ونأتي بعد ذلك إلى زينب في موقع العاطفة، وفي صلابة الموقف، وإذ نثير هذين الخطّين في حياتها، فلكي نستفيد من حقيقة إنسانيّة فيما يريده الإسلام للمرأة المسلمة، فالإسلام لا يريد للمرأة المسلمة، كما لا يريد للرّجل المسلم، أن يخنق الجانب العاطفي من شخصيّته، والله لا يريد للإنسان أن يكون قاسي القلب، وقد حدّثنا تعالى عن القاسية قلوبهم في قوله: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً}، أو عن الذين {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ}.

 

إنّ الله لا يحبّ من كان قاسي القلب ويحبّ القلب الرّقيق، وقد كان سيّد البشر رسول الله (ص) الأنموذج الأكمل للين القلب ولين اللّسان {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ الله لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}، وقد كان رسول الله (ص) يعيش بكلّ قلبه وعاطفته مع المسلمين من حوله {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}.

 

فكُن الإنسان الذي تفيض عاطفته من قلبه وتتحرّك في علاقته بالمأساة، ولا سيّما إذا كانت المأساة تهز القلب والكيان كله، ولذلك لم يعب السيدة زينب (ع) أنها بكت في كربلاء، وأنها بكت وهي الصّامدة الصلبة، حتى إذا انتهت واقعة الطفّ بقيادة الإمام الحسين (ع)، جمّدت زينب (ع) هذا الفيضان العاطفي في حركتها في الخارج، لتعيش في قلبها حزناً كأعمق ما يكون الحزن، ولكنّها كانت في مسؤوليّتها إنسانة واعية في خطّ قيادة المرحلة كأقوى ما يكون الإنسان، كانت امرأة في مستوى صلابتها.

 

صور من عاطفتها:

 

لنقرأ بعض الجانب العاطفي في شخصيّتها ولو بشكل سريع جداً:

 

قال المفيد: قال علي بن الحسين (ع): "إني لجالس في صبيحتها (صبيحة التاسع) من محرّم، وعندي عمتي زينب تمرضني، إذ اعتزل أبي في خباءٍ له وعنده جوين مولى أبي ذرّ الغفاري، وهو ـ أي جوين ـ يعالج سيفه ويصلحه، وأبي يقول:

 

يا دهرُ أفٍّ لك من خليلِ كم لك بالإشراقِ والأصيل

 

من صاحب أو طالب قتيل والدّهرُ لا يقنعُ بالبديل

 

وإنّما الأمر إلى الجليل وكلُّ حيٍّ سالكٌ سبيلي

 

فأعادها مرّتين أو ثلاثاً، حتى فهمتها وعرفت ما أراد، فرددتها ولزمت السّكوت وعلمت أنّ البلاء قد نزل.

 

وأمّا عمّتي، فإنها لما سمعت، وهي امرأة، ومن شأن النساء الرقّة والجزع، فلم تملك نفسها أن وثبت تجرّ ثوبها وإنها لحاسرة حتى انتهت إليه، فقالت: وا ثكلاه! ليت الموت أعدمني الحياة، اليوم ماتت أمّي فاطمة وأبي عليّ وأخي الحسن، يا خليفة الماضي وثمالة الباقي.

 

فنظر إليها الحسين (ع)، فقال لها، يا أخيّة، لا يذهبنَّ بحلمك الشيطان، وترقرقت عيناه بالدّموع، وقال: لو ترك القطا لنام، فقالت: يا ويلتاه، أفتغتصب نفسك اغتصاباً، فذلك أقرح لقلبي وأشدّ على نفسي، ثم لطمت وجهها وأهوت إلى جيبها فشقّته وخرّت مغشيّاً عليها، فقام إليها وصبّ على وجهها الماء، وقال: إيهاً يا أختاه، اتَّقِ الله وتعزّي بعزاء الله، واعلمي أن أهل الأرض يموتون وأهل السّماء لا يبقون، وأن كلّ شيء هالك إلا وجهه، فعزّاها بهذا ونحوه، وقال لها: يا أخيّة، إن أقسمت عليك فأبرّي قسمي، لا تشقّي عليَّ جيباً، ولا تخمشي عليَّ وجهاً، ولا تدعي عليَّ بالويل والثّبور إذا أنا هلكت، ثم جاء بها حتى أجلسها عندي".

 

هذه القصّة هي قمة التوتر العاطفي الصارخ عند زينب (ع)، ولم يحدث بعد ذلك حالة مماثلة، حتى ما يرويه الرواة بأنها فعلت ذلك في مجلس يزيد عندما بدأ ينكث ثنايا الحسين (ع) بالقضيب بيده، لأنّ الرواية الموجودة ليست في مستوى الوثاقة، ونحن نؤكّد ذلك، لأن الحسين أقسم عليها وطلب منها أن تبرّ قسمه، وكانت زينب في أعلى درجات الوعي والعقل وهي في مجلس يزيد، فلا يمكن أن تحنث بالقسم الذي تحوَّل إلى عهد بينها وبين الحسين (ع)، مع أن الرواية لا تنسجم مع جلالة قدر زينب وصمودها وصبرها، وخصوصاً أنها كانت تعمل على أن تجسّد هذا العنفوان الذي تمثّلت به عندما قالت ليزيد: "إني لأستصغر قدرك"، وعندما قالت له: "فكِد كيدك، وناصب جهدك، واسعَ سعيك، فإنّك لن تميت وحينا، ولن تمحو ذكرنا"، هذا العنفوان ـ مضافاً إلى العهد الذي أعطته للإمام الحسين ـ يبعد أن تكون زينب (ع) فعلت ذلك، وإن كانت المصيبة مهولة، بحيث يمكن أن تفتّت الصخر.

 

وأمّا الموقف الثاني، فقد قال (المفيد): "لما قتل علي بن الحسين الأكبر، خرجت زينب أخت الحسين مسرعة تنادي: يا حبيباه! ويا بن أخاه! وجاءت حتى انكبّت عليه، فأخذها الحسين فردّها إلى الفسطاط".

 

وهذا الموقف عاطفي أيضاً، فلقد كانت تحبّ عليّ الأكبر حباً شديداً، لأنّه كان في مستوى الحبّ من خلال وعيه وورعه وقوّته وصلابته، ويقول بعض المحلّلين إنها لم تندفع تلقائياً على أساس عاطفيّ، ولكنها أرادت أن تحتوي حزن الحسين (ع) الذي بلغ حداً كبيراً، حتى قال: "على الدّنيا بعدك العفا".. فهي أرادت أن تحتوي حزن الحسين عندما حاولت أن تشغله بها، وقد يكون ذلك صحيحاً في التحليل.

 

وينقل أنها عند مقتل الحسين (ع)، وقفت وبكت وتحدّثت بحديث فيه الكثير من العاطفة، وقالت لعمر بن سعد وهي توبّخه: "أيُقتل أبو عبدالله الحسين وأنت تنظر إليه؟".

 

وعندما مرّوا بها على الجسد ـ أثناء الرحيل ـ بكت أيضاً وتحدّثت، وهذه هي المواقع التي يمكن أن نجد فيها روايات موثوقة لحزن زينب (ع) مما ينقله (الشيخ المفيد) و(ابن طاووس).

 

أمّا عندما انتهت هذه المرحلة وبدأت مرحلة الكوفة، وكانت مرحلة التحدّي، فقد وقفت وتحدّت (ابن زياد) بطريقة شعر فيها بأن عليه أن يقتلها لولا أنّ أحد أصحابه صرفه عن ذلك.

 

وهكذا عندما أراد أن يقتل عليّ بن الحسين (ع)، عندما قال له: "أبِكَ جرأة عليّ؟"، عند ذلك، أمر بأن يُضرب عنقه، فوقفت زينب (ع) وقالت: "يابن زياد، حسبك من دمائنا"، واعتنقته وقالت: "لا والله لا أفارقه، فإن قتلته فاقتلني معه"، تعجب ابن زياد من موقفها وقال: "عجباً للرّحم، والله إني لأظنّها ودّت أني قتلتها معه".

 

هكذا وقفت بكلّ صلابة، وتحدت ابن زياد، ودافعت عن الإمام زين العابدين (ع) في هذا المجال.

 

لذلك، فإنني أحبّ أن أركّز على أن الأسلوب الذي يدرج عليه كثير من الخطباء في تصوير زينب (ع) كامرأة باكية من موقع إلى موقع، بحيث لا يشعر الإنسان بأنه أمام تلك الشخصية التي أعطت العنفوان الإسلامي قوّة، وأعطت معنى الصبر الكثير من معنى التحدّي للحزن، هو أسلوب لا ينسجم وحركتها في خطّ المأساة، وإنني أرى أنّ هناك فرقاً بين أن تقول إنّ زينب (ع) عاشت العاطفة وعبّرت عنها في كربلاء، وبين أن تقول إنها كانت باكية نائحة في كلّ فصول كربلاء، إذ لم تكن زينب (ع) مجرّد نائحة تنتقل من جسد إلى جسد، ومن موقع إلى موقع، لأنّ زينب كانت مشغولة بالحسين (ع) وبإدارة الواقع كلّه، ولا سيما الواقع النسوي وواقع الأطفال، الذي كان الحسين وأصحابه وأهل بيته في شغل عنه.

 

وكانت تراقب حركة الحسين (ع)، ولم يكن عندها في هذه السويعات من الصباح إلى ما بعد الظهر وقت لأن تبكي بالطريقة التي تذكر، فلقد كانت ترافق الحسين (ع) وتلاحقه، لأنها كانت تعيش عمق معناه في شخصيّتها، وكانت تعيش حركية المعركة بكلّ دقائقها.. ولقد قالت ـ كما جاء في بعض الروايات، وهي تضع يديها تحت جسد الحسين (ع): "اللّهمّ تقبّل منا هذا القربان"، ومعنى ذلك، أن زينب (ع) كانت تعي معنى المعركة ومعنى القربان الإلهي الذي يقدَّم في المعركة من أجل رضا الله، ومن أجل الجهاد في سبيل الله.

 

لقد عاشت زينب العنصر العاطفي، ولكنّه لم يسقطها فيجعلها مجرّد نائحة، لقد كانت صابرة في حزنها، وكان حزنها حزناً مميَّزاً في أنها كانت تختار، للتّعبير عنه، المفاصل التي كانت القضية تحتاجها آنذاك.

 

أما صلابة موقفها، فقد تمثّلت في خطابها لأهل الكوفة، وفي محاورتها الشّديدة القاسية لابن زياد، وفي خطبتها القويّة الواعية المثقّفة الواقعية المنفتحة على كثير من دقائق القرآن الكريم وحركيّة القرآن في الواقع، عندما كانت تستشهد بآيات الله سبحانه وتعالى.

 

وفي نهاية المطاف، أذكر لكم هذه القصّة في مجلس يزيد التي بيّنت عظمة زينب (ع) في صلابة الموقف، وفي تأكيدها الخطّ الإسلاميّ حتى في أصغر حكم شرعي.. قالت فاطمة بنت الحسين ـ كما يروي المفيد في الإرشاد ـ "لماذا جلسنا بين يدي يزيد رقّ لنا، فقام إليه رجل من أهل الشام أحمر، فقال: يا أمير المؤمنين، هب لي هذه الجارية ـ يعنيني ـ وكنت جارية وضيئة، فأرعدت وظننت أنّ ذلك جائز لهم، فأخذت بثياب عمّتي زينب، وكانت تعلم أنّ ذلك لا يكون، فقالت عمّتي للشامي: كذبت ولؤمت، والله ما كان ذلك لك ولا له. فغضب يزيد وقال: كذبتِ والله، إنّ ذلك لي، ولو شئت أن أفعل لفعلت، قالت: كلّا والله، ما جعل لك الله ذلك إلا أن تخرج من ملّتنا وتدين بغيرها"، لأنّ الإسلام لا يجوّز لمسلم أن يسترقّ مسلمة، "فاستطار يزيد غضباً وقال: إيّاي تستقبلين بهذا؟ إنما خرج من الدّين أبوكِ وأخوكِ. قالت زينب: بدين الله ودين أبي ودين أخي اهتديت أنت وأبوك وجدّك إن كنت مسلماً. قال: كذبتِ يا عدوّة الله. قالت: أنت أميرٌ تشتم ظالماً وتقهر بسلطانك. فكأنّه استحيا وسكت"، لأنها خاطبته بالحجّة وخاطبها بالعدوان.

 

هذا الموقف ـ أيها الأحبّة ـ يمثّل الموقف الزينبي الذي يواجه السلطان الذي يملك الواقع كلّه آنذاك، ويمثل الخطاب الإسلامي الصلب الذي يقول إنّ للإسلام حدوده، وإنك إذا كنت تتجاوز هذه الحدود، فأنت تخرج من الإسلام، وتعرّفه أنّ الإسلام هو ملّتنا، لا من الناحية الشخصيّة، فالإسلام دين الله، بل أرادت أن تقول ليزيد، يا يزيد، إنّ الله أوحى بالإسلام في بيت رسول الله (ص)، وهو جدنا، ونحن عشنا الإسلام ورضعناه وترعرعنا في أحضان رسول الله وفي أجوائه.. ولذلك، إذا كنت مسلماً، فإن إسلامك انطلق من هذا البيت، ولكنّك لم تحترم هذا البيت، بل اضطهدته بالرّغم من أنّ هذا البيت لايزال يمثّل القيادة الإسلاميّة في كلّ معناها وطهرها وصفائها.

 

العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله

*من كتاب النّدوة، ج 5.

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة