البث المباشر

بين العلم والعقل والوحي -۱

الأحد 3 فبراير 2019 - 12:34 بتوقيت طهران

الحلقة 236

كان الاختلاف الذي يصل الى حد التناقض بين الدين والعلم قضية غربية صرفة ومشكلة من مشاكل الفكر الاوروبي خاصة به اوجدتها ظروف تاريخية معينة، والخطأ الفادح الذي وقع فيه البعض هو نقل القضية الى محيط العالم الاسلامي الذي يختلف في واقعه وجذوره التاريخية عن البيئات الغربية كل الاختلاف، لقد اقام المسلمون تجاربهم العقلية والعلمية تحت راية التوحيد وفي ظلال مفهوم الاسلام الجامع بين العقل والقلب والروح والمادة، من هنا كان منطق المسلمين في الترابط بين العلم والدين واضحاً لاخفاء فيه، الاصل في العلم هو العقل ورائده التجربة الحسية ومن ثم فالعلم يمتد الى مجال واسع ويحقق نتائج كبيرة لكنه يقصر عن سائر حقائق العلوم وخاصة عالم الغيب، والعلم في الرؤية الاسلامية يرفض ان يعادي الناس ما يجهلون من الحقائق وليس العلم الصحيح ان يتكر الدين فيحكم عندئذ على شيء ليس من اختصاصه وهو داخل في دائرة نظريته التجريبية والحسية وما كان للعلم التجريبي ان يخرج عن وظيفته وهي الاستطلاع والبحث والملاحظة للظواهر الطبيعية وليس له ان يواجه بالنفي او الاثبات ما يجهله من الحقائق الكامنة وراء الظواهر. وكل ما يقرره علماء المختبرات يؤكد عجز العلم ومن ثم العقل ان يكون قادراً على الاحاطة الكاملة او الفهم المستقل للكون والحياة.
لقد قرر العلماء في رأي شبه موحد ان العلم يعجز ان يفسر ظواهر الاشياء ويعللها لكنه يصفها ويقررها، معنى هذا ان مهمة العلم قاصرة على وصف الظواهر وتقريرها لا تعليلها وتفسيرها، في اول النهضة الاوروبية كانوا يهتمون بمعرفة لماذا ولكنهم اخذوا يتخلون عنها بعد ان تبين لهم عبث هذه المحاولات وعقم نتائجها فرجعوا بتواضع الى الاقرار بالحقيقة ذلك ان العلم عندهم لا يفسر شيئاً وانما يربط وينسق ويلاحقه ملاحظة منهجية ثم يصف ويقرر، ويعترف العلماء الان ان المعرفة العلمية تقتصر على ظواهر الطبيعة وسلوك البشر وعلاقاته الذي يمكن بأستخدام المشاهدة والتجربة اكتشاف قوانينها وهم يعترفون ايضاً بأن العقل البشري لا يقدر ان يدرك شيئاً الا عن طريق الحواس ولذلك فأن كلما يقع وراء دائرة الحس والعقل لا يستطيع العلم ان يبحث فيه او يعرف عنه شيئاً.
وقد آمن العلماء الطبيعيون ايضاً ان حقائق العلم التجريبي ليست مطلقة ولا ابدية وانما هي حقائق نسبية وما يزال العلماء يتسائلون هل يستطيع العلم ان يدرك الحقيقة؟ ومعنى هذا ان العلم على رغم تقدمه من ان يقوى على حل المشاكل الكبرى المتمثلة بالتعرف على اصل الكون ونهايته وطبيعته المادية ومنشأ الحياة وخلود الروح. ان العقل جهاز له مقدرته المحدودة وطاقته التي تقف على اعتاب عالم الغيب، هكذا يقرر العلماء التجريبيون فلماذا اذن يسرف الفلاسفة في حمل لواء المادية والوثنية؟ ولماذا لا يقرون بالحقيقة الدينية ويصرون على‌ ان العقل هو الواسطة الوحيدة للمعرفة الانسانية؟ الواقع ان هؤلاء الذين يحملون هذه الدعوة ليسوا بعلماء وان ما يقولونه ليس علماً وانما هو موقف فلسفي مبيت من قبل لا يريد ان يؤمن بالله سبحانه وتعالى والنبوة والرسالة الالهية والعالم الاخر وهو موقف غير علمي وغير موضوعي كما ترى!
في الغرب اشار عمانوئيل كامس في كتابه نقد العقل المحض الى انه لا يوجد لدى الانسان من حيث الاساس قوة قادرة تدفعه عن دائرة ما يلفظه عقله الضعيف من التفكير، وان الشعوب التي ناقضت الاديان المنزلة كانت لا تخرج في تفكيرها عن التخيلات التي تتبعها عقول المفكرين فيها من العقائد الباطلة والالحاد والانحطاط الخلقي، وقد وجه الفيلسوف الغربي برسون مذهب داروين وسربنسل وقال ان العقل يستحيل عليه ان يبلغ الحق وان العقل ليس اداة صالحة لادراك حقيقة الكون وان نهاية مجهوده ان يقف عند ظواهر الاشياء وهو يجزأ الوجود ليتمكن من دراسته جزءاً جزءاً مع ان الوجود في حقيقته وحدة متكاملة، وان الوسيلة التي تدرك بها الشاة ما يتهددها من خطر الذئب هي اقرب كثيراً الى اليقين من كل ما عجز ان يصل اليه العقل بعد الدراسة والتحليل. وفي هذا السياق ايضاً قال الفيلسوف البريطاني بريت راندراسل ان التعارض بين احكام العقل واحكام الغريزة وهم من الاوهام ليس له وجود حقيقي وان كليهما ضروري لوصول الانسان الى الحقائق فالبصيرة تخلق الرأي والعقل يرعاه.
وعندما بدأ التمرد على‌ العقل في الغرب تحول الاتجاه الى الغريزة وعبادة القوة، فثار على العقل فاخت وكارليل وينتشه وشمبرلن وبرحستون وكانت دعوتهم متوجهة الى طلب القوة والقسوة لا الرحمة، وهكذا تأرجح الفكر الغربي بين عقل صارم وبين غريزة مستعرية في حين، وجرت الرؤية الاسلامية بواقعيتها الاصيلة بين قوى‌ الانسان فلا يجنح الى التطرف الى هذه الناحية ولا الى تلك، وانما يسير في نطاق التكامل والوسطية والفهم لكل الابعاد.
ويذهب جمع من العلماء الى ان العلم في تغير مستمر وقد سقطت نظرية ثبوت العلم او كمال العلم وكل ما جمع العلم من حقائق انما هي وسيلة الى ان تثبت حقائق اخرى، فالتغير لا الثبوت هو الطابع الذي يتميز به العلم وهذا يعني ان العلم القلق المتغير هل يمكن ان يكون قاعدة ثابتة لفهم الحياة او منهجاً وحيداً لفهمها؟ هذه هي القضية الكبرى التي تواجه العلماء الان فقد عجز العلم عن تقديم اجابة شافية مثلاً عن السؤال، لماذا نوجد على ظهر الارض؟ واذ عجز العلم عن مثل هذه المشاكل نحتم اللجوء الى قوة في المعرفة اخرى اكبر واوسع واعمق قوة قادرة على ذلك وهي الوحي الالهي الحق والدين والحق، ان ما يحجب الحقائق عن البشرية الان ويردها الى الالحاد والشك ليس هو العلم ولكن الفلسفة المادية، وخطوات العلم القائمة الان كلها تتجه الى تزييف الدعاوى الباطلة التي ظلت المادية تروجها عشرات السنين، وتتجه ايضاً الى الاعتراف بالطريق الصحيح ووضع العلم في حجمه الطبيعي بالنسبة الى الوحي ودين الله تعالى، ان الاصل في الدين هو الوحي ورائدة التفكير من نور العقل ولا يتناقض في الاسلام العلم والدين وان كانا متغايرين فأسلوب العلم في بحثه تجريبي اما الوحي فأنه حقائق ثابتة راسخة في عمق الوجود حياكم الله.

*******

 

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة