البث المباشر

المادية ومعطيات العلم التجريبي -۱

الأحد 3 فبراير 2019 - 12:34 بتوقيت طهران

الحلقة 232

في سياحتنا الماضية من البرنامج تعرفنا على جانب من الفكر الغربي وبالتحديد توقفنا عند نظرية المادية في التفكير تلك النظرية التي سادت في اوروبا خلال القرون الثلاثة الاخيرة منذ ما عرف هناك بعصر النهضة، والنظرية المادية ترى ان جميع ما في الكون مادي بحت من هنا انكرت الجانب الروحي في الانسان ولم تؤمن بالغيب والقيم ورسالات السماء، وفي العقود الاخيرة عذت نظرية داروين في التطور وتنازع البقاء منطلقاً جديداً للرؤية المادية اذ عمل الفلاسفة والمفكرون الغربيون على‌ تحويل نظرية داروين من نظرية بايلوجية محددة الاطار الى نظرية اجتماعية شاملة تطبق جوراً على كل شيء. اجل ان العلم الحديث نظر في المحسوسات والماديات وقطع شوطاً كبيراً في هذا المضمار لكنه حين تعرض لما وراء المادة‌ عجز بأدواته المادية القاصرة عن تحقيق اي نجاح فحاول ان يعلل ما ليس مادياً بتعليل مادي وهذا دعا المشتغلين بالفلسفة الى تجاوز حدودهم فأعلنوا انه لا وجود لغير المادة بل ان الحياة نفسها اعتبروها سمة من سمات المادة وفي هذا تجاوز على الحقائق كبير.
وقد شهدت العقود الستة الاخيرة من هذا القرن تراجعاً في مواقع النظرية المادية وانكسر غلواء العلم التجريبي فما كان يقيناً في نظر الماديين غدا موضع شك وترديد وتغيرت اللهجة الخطابية من الاعتداد بالعلم ونظرياته الى الشعور بالضعف والعجز في كثير من الميادين، فأذا هم يعترفون بأن الوجود مشحون بالمجاهيل حتى فيما يقال انه قد فرغ من بحثه وهكذا بدأت مرحلة جديدة من التفكير في اروقة العلماء الماديين ظهرت في الاعتقاد بالحاجة الى العقل والى الروح وفق اسلوب علمي وكانت قضية تجزء المادة الى وحدات اصغر واصغر بمثابة صفعة للاعتقاد السائد بأن المادة لا تنقسم الى ما لا نهاية ثم ان المادة قد غدت طاقة والطاقة تتحول الى مادة وقال العلماء ان الاعتقاد بالمادية المطلقة يعني الايمان بأزلية المادة وابديتها وانها كاملة لا تتطور وهذا يتنافى والقوانين العلمية نفسها.
ان قوانين الديناميكا الحرارية لا تدل بوضوح على ان العالم له بداية انطلق منها بعد ان لم يكن ولابد لهذه البداية من خالق مبدع له اراده غير متناهية لابد ان يكون غير مادي ولا يتصف بشيء من صفات المادة.
ان الايمان الذي وجد العلم انه مضطر للاذعان به انما يستمد تأييداً من الدلائل التي شير الى وجود سبب اول منذ القدم ولا شك ان الايمان بالله تعالى يعد ضرورة لا كتمال وجود الانسان وفلسفته في الحياة ولا شك ايضاً ان الاعتقاد بوجود اله خالق للعالم يعطينا تفسيراً سليماً مقبولاً في النشأة والابداع والفرض والحكمة ويعيننا في تفسير ما يحدث من ظواهر اما النظريات التي ترمي الى تفسير الكون تفسيراً آلياً فأنها تعجز عن تفسير كيف بدأ الكون ثم ترجع ما حدث من الظواهر التالية للنشأة الاولى الى محض المصادفة، فالمصادفة هنا هي فكرة يستعاض بها عن الايمان بوجود الله تعالى بقصد اكمال الصورة والبعد عن التشوية، ومما لا ريب فيه ان هذا النظام البديع الذي يسود الكون من اصغر شيء فيه الى اكبر ما فيه انما يدل دلالة حتمية الى وجود اله خالق منظم ولا يدل ابداً على وجود مصادفة عمياء.
الواقع ان هناك ظواهر عديدة لا يمكن تفسيرها او ادراك معناها الا اذا سلمنا بوجود الله تعالى لذلك مثلاً الفراغ اللانهائي وما يسبح فيه من النجوم والكواكب وبلايين المجرات العملاقة ومن ذلك التشابه الذي نشاهده في جميع الكائنات الحية التي نعرفها مع اتصاف كل فرد بل كل نبات بل كل ورقة من اوراق الشجر وكل قطرة من قطرات الماء بصفات تميزها عن غيرها واذا كان هذا العالم المادي عاجزاً عن خلق نفسه او تحديد القوانين التي يخضع لها فالنتيجة المنطقية الحتمية التي يفرضها علينا العقل لابد ان يكون الخلق بقدرة كائن غير مادي ولابد ان يكون هذا الخالق دائم الوجود تتجلى آياته في كل زمان ومكان.
وفي سياق نقض نظرية المادة كتب لوثر كيل احد كبار الباحثين الكيمياويين ان العلوم تثبت بكل وضوح ان هذا الكون لا يمكن ان يكون ازلياً فهناك انتقال حراري مستمر من الاجسام الحارة الى الاجسام الباردة ولا يمكن ان يحدث العكس بقوة ذاتية بحيث تعود الحرارة فترتد من الاجسام الباردة الى الحارة معنى هذا ان الكون يتجه الى درجة تتساوى فيها حرارة جميع الاجسام وينضب فيها معين الطاقة ويومئذ لم يكون هناك عمليات كمياوية‌ او طبيعية ولن يكون هناك اثر للحياة نفسها في هذا الكون، ويضيف الكيمياوي لوثركيل لما كانت الحياة ما تزال قائمة وما تزال العمليات الكيمياوية والطبيعية تسير في طريقها فأننا نستطيع ان نستنتج ان هذا الكون لا يمكن ان يكون ازلياً والا استهلكت طاقته منذ زمن بعيد وتوقف كل نشاط في الوجود. اجل هكذا توصلت العلوم دون قصد ان لهذا الكون بداية وهي بذلك تثبت وجود الله سبحانه وتعالى لان ما له بداية لا يمكن ان يكون قد بدأ نفسه بنفسه ولابد له من مبدأ او محرك او خالق وهو الله عزوجل.
ان هذا الكون ما يزال في عملية اتساع وانتشار تبدأ من مركز نشأته، واليوم لابد لمن يؤمنون بنتائج العلوم ان يؤمنوا بفكرة الخلق ايضاً وهي فكرة تستشرف على سنن الطبيعة لان هذه السنن انما هي ثمرة الخلق ولابد لهم ان يسلموا بفكرة الخالق الذي وضع قوانين هذا الكون لان هذه القوانين ذاتها مخلوقة وليس من المعقول ان يكون هناك خلق دون خالق. والواقع ان العلماء الطبيعيين لا يقدرون ان ينقوا وجود الله تعالى فكل واحد منهم يشعر في قرارة نفسه بقوة الاحساس والاراء‌ التي تصدر كلها عن ذلك الكيان الذي نسميه بالروح، وهم جميعاً يعلمون ان الالهام لا يأتي من المادة وليس للعلم حق في ان تكون له الكلمة الاخيرة بشأن وجود الخالق.
ان كون الانسان في كل مكان ومنذ بدء الخليقة حتى الان قد شعر بحافز يدفعه الى ان يستنجد بمن هو اسمى منه واقوى واعظم، ان ما يدل بجلاء على ان الدين فطرياً في صميم الانسان وعلى العلم ان احترم منهجه ان يقر بهذه الحقيقة ولا ريب ان كل هذه الحقائق العلمية من شأنها ان تنسف شبهات الفلسفة المادية الالحادية وتقضي عليها الى الابد.

*******

 

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة